يذكرني رئيس حكومتنا عندما يهدد، وبابتزاز مفضوح، "من يهمهم الأمر"، بأن الربيع العربي مازال يدور، بجدتي رحمها الله، التى ظلت تردد حتي بعد أن كادت الكوليرا تنقرض من المغرب ،و تراجعت الامراض الوبائية الأخري الى درجة قريبة من الصفر، أن "المرض ما زال يدور ". لذا فهي لم تثق أبدا لا في "شرطة النصارى" كما كانت تسمى اللقاحات، و التي كنا نأخذها غالبا بعد أن تكون الاوبئة قد فعلت فعلتها، و لا في مفعول " لكنينة" ،و هي حبة زرقاء قيل لنا أنذاك أنها تصلح لكل الامراض و الاوبئة ، و لا حتى في مفعول الأسبرين الذي كان يلقى إقبالا واسعا لدى نساء جيلها كونه قاهر لآلام الظهر و الركبتين، و لا في أي دواء أخر .ورغم ذلك عاشت أكثر من مئة سنة و هي تردد " أن المرض ما زال يدور" .و أن وصفات الدكتور "دون فيدريكو " – الطبيب الوحيد بمدينة الحسيمة طيلة سنوات الخمسينيات و مستهل الستينيات – و التي استفادت منها لتعيش عمرا مديدا ،هي وصفات "كافر" كان من الممكن الاستغناء عنها. و في الصورتين معا تعبير عن انتهازية من لا حول و لا قوة له . و أنا أستحضر هذه الذكريات العميقة بقلق المؤمن بضرورة المساهمة في تجنيب بلادنا من أثرهذا " المرض الذي مازال يدور" إن كان فعلا "يدور"، اندفعت الى ذهني عدة أسئلة لم أستطع ترتيبها و لا التحكم في تسلسلها ، وهي : - ألم تؤثر تداعيات ما يعرف "بالربيع العربي" سلبا على مسلسل دمقرطة الدولة و دمقرطة المجتمع ،الذي بدأ مع تجربة "التناوب" ، ووصل أوجه مع تجربة هيئة الانصاف و المصالحة ، التي انخرطت فيها جميع الفصائل الحداثية الديمقراطية، بما فيها فصائل اليسار الاكثر راديكالية، و كان الهدف منها تحقيق الدولة الديمقراطية، عبر صيرورة محتكمة الى منهجية العدالة الانتقالية التي تتطلب – بطبيعتها - زمنا طويلا لتحقيق المبتغيات؟ - ألم تشكل الضغوطات التي تعرضت لها الدولة من قبل الجناح السياسي و الدعوي للحركة السلفية المغربية، و القوى المحافظة، - خاصة حزب الاستقلال الذي خدم من حيث لا يدرى أجندة هؤلاء و أسيادهم ، منذ أن انتهت لجنة صياغة الدستور من عملها ، و خلاله و قبله .و التي توجت بوثيقة دستورية لا تعبر عن التوازنات الحقيقية داخل المجتمع المغربي .وشكلت انتكاسة لعمل لجنة صياغة الدستور، التي كانت تهدف إلى إيجاد دستور يعبر عن كل توجهات المجتمع و يحترم توازناته ؟ - ألا يشكل وصول الجناح السياسي للحركة السلفية المغربية الى الحكم مع فريق هجين من " الوطنيين" و "الشيوعيين" و غيرهم ، انتكاسة حقيقية لصيرورة مؤسسة الانتقال الديمقراطي في بلدنا ،و تحقيق للمسعى السلفي – الأمريكي الهادف الى محو التاريخ النضالي للمغاربة ضد التوجهات السلفية - الامبريالية الهادفة الى "قولبة" و تنميط العالم ؟ - ألا يشكل وصول الجناح السياسي للحركة السلفية المغربية الى تسيير البلاد - وهم المؤمنون بالديمقراطية كآلية، و الكافرون بثقافتها و ثقافة حقوق الانسان كما هي متعارف عليها كونيا - خطرا على المواطنة ، و على صيرورة بناء " الوطن الذي يجب أن يتسع للجميع"؟ في اعتقادي المتواضع أن كل هذه الاسئلة أسئلة مشروعة، و تستمد مشروعيتها مما نعيشه يوميا - منذ ما قبل 25 نوفمبر بشهور والى اليوم - من استخفاف بالماضي النضالي للمغاربة من أجل الديمقراطية و بناء دولة الحق، و التنكر الكلي لهذا الارث المتنور، ومن محاولة جر المجتمع و" نخبه الفكرية " الى الانغماس في نقاشات خلقت نوعا من القطيعة مع المسلسل الذي ارتضاه المغاربة لأنفسهم منذ تجربة التناوب التي توجت "بثورة " الانصاف و المصالحة . كثير من المستفيدين من " الربيع السلفي – الامريكي "، و هي التسمية الحقيقية لما يطلق عليه الكثيرون " بالربيع العربي "، يريدون إيهام الناس أن مسلسل الإصلاح بالمغرب – و الذي كثفته الوثيقة الدستورية الاخيرة - جاء نتيجة هذا الربيع، و نتيجة خوف من " يهمهم الامر " منه. إلا أن الحقيقة المرة اليوم – و التي يجب أن نعترف بها جميعا لكي نبحث عن مخرج لما نحن فيه من " استئساد" الجناح السياسي للحركة السلفية المغربية – هي أن رياح ما يعرف "بالربيع العربي" وصلتنا بالمغرب نتيجة محاولة بعض المحافظين في دواليب الدولة المغربية ، حتي لا أقول " أصوليو الدولة المغربية " ايقاف تنفيذ توصيات هيئة الانصاف و المصالحة ، و الالتفاف عليها لحسابات لم يكشف عنها أحد الى اليوم، ولعلهم هم أنفسهم – أي أوصوليو الدولة و محافضيها - ، من دفع الدولة المغربية قبل هذا الى التراجع عن " المنهجية الديمقراطية " وتنفير رجال دولة حقيقيين من السياسة و ممارستها. بل و الاخطر من كل هذا، أن هؤلاء و من صار في ركبهم، حاولوا تبخيس مسلسل الانصاف و المصالحة، و إيهام الناس أنه – أي مسلسل الانصاف و المصالحة - لم يوجد إلا لتعويض الضحايا ماديا . و الحال أن مسلسل الانصاف و المصالحة صيرورة طويلة و معقدة ، مبتدأها تصفية الاجواء عبر مصالحة الاطراف المتصارعة أمس ، و منتهاها اقامة دولة الحق و القانون على أنقاض دولة الاستبداد في إطار من الاستمرارية،وذلك عبر اشاعة ثقافة المواطنة و ثقافة حقوق الإنسان. وهو ما ارتضاه المغاربة لأنفسهم قبل هذا الربيع بكثير . وجعل من المغرب نموذجا يحتدى به في الانتقال السياسي السلس و معالجة الماضي و بناء الوطن الذي يجب أن يتسع للجميع. ورغم ذلك ، ظل جوهر خطاب 9 مارس، الذي أسس للمرحلة الثالثة من "الثورة "المغربية الهادئة، يتمحور حول دسترة توصيات هيئة الانصاف و المصالحة .الشئ الذي يمكن اعتباره انتصارا للحقوقيين و الديمقراطيين الحداثيين المغاربة، إلا أنه – و مع شديد الاسف - انتصار جاء متأخرا ، و استفادت منه أكثر قوى الردة التي أحسنت استعماله – بمساعدة أطراف خارجية من الشرق و الغرب - ، و أهلها بالتالي لتعبيد الطريق قصد تسهيل عملية الحصول على أصوات انتخابية كثيرة . ومنذ و صولها الى دفة تسيير الحكم، لم تعمل هذه القوى إلا على تبخيس هذه التوصيات التي تمت دسترتها ، و على تقويضها و نخر جوهرها باعتماد سياقات لا تمت بصلة الى السياق التاريخي للمرحلة الثالثة من الثورة المغربية الهادئة ، خاصة ما يتعلق بعقوبة الإعدام و مساواة مكونات المجتمع من النساء و الرجال و غيرها من التوصيات الهادفة الى تأسيس مغرب الحريات الفردية و الجماعية. ما العمل إذا ؟ هل نحن سائرون الى تأسيس المغرب الديمقراطي، و العمل على ولوجه الى مصاف الدول الحداثية الديمقراطية؟ بدون تردد لا ، فالربيع السلفي – الامريكي ، لا يمكن أن يحقق الا مبتغيات مكوناته السلفية و الإمبريالية، و لا يمكن بأي حال من الاحوال للحداثيين الديمقراطيين الاستفادة منه للتأسيس للوطن الذي يجب أن يتسع لجميع المغاربة ، لذا لا مفر أمام هؤلاء المدافعين عن الحريات الجماعية و الفردية ، إلا التعالي على اختلافاتهم البسيطة و بعض أوهامهم،و الحزم لتأسيس جبهة واسعة – من المؤسسات السياسية و النقابية و الحقوقية و المدنية - للدفاع عن المشروع الحداثي الديمقراطي الذي لن يتأسس في بلادنا إلا عبر تكاثف جهود جميع الديمقراطيين الحقيقيين ، و عبر العمل على اشاعة ثقافة حقوق الإنسان وثقافة المواطنة و العمل على تقويض المشروع السلفي – الأمريكي الهادف الى تحنيط المجتمع و قولبته . على سبيل الختم ، أعتقد بنوع من الجزم ، ان كل الشروط مهيئة اليوم للتأسيس للمرحلة الرابعة للثورة المغربية الهادئة، و ذلك لن يتأتى الا باستعمال الذكاء الجماعيلكل الديمقراطيين – الحداثيين بغية تقويض المشروع السلفي – الامريكي ببلادنا .و ارجاع البلاد و العباد الى روح مسلسل الانصاف و المصالحة ، الذي يوجد الان – رغم كل ما وقع – في منتصف الطريق ، و هو في أمس الحاجة – بطبيعته التي هي صيرورة طويلة و معقدة – الى تكاثف الجهود لاستكمال باقي أشواطه .