عاد منذ أيام نقاش ضروري و نافع حول طقوس البيعة في المغرب، و عن ما يراه بعض المنتقدين في تلك المراسيم من إهانة وإذلال للمشاركين فيها بالركوع و الإنحناء ، و بأن الزمن قد عفا و تجاوز عن مثل تلك الإحتفالات التي تنتمي، حسب منتقديها، إلى قرون خلت و أزمان مرت. أصحاب هذا المنطق على صواب، إذا ما صدقنا ما كتب و ما قيل عن ما يواكب مراسم البيعة، و خصوصا في عهد الملك الحسن الثاني، من إنتظار للمبايعين ساعات طوال، أحيانا تحت الشمس، و فيهم المريض و الشيخ و المسافر، و كذلك من خوف و رهبة و إسراف في الإنحناء و مغالاة في الركوع خوفا من عين مراقب أو واشي أو طمعا في رضا أو عفو. لايمكن إذن لأي شخص يطمح أن يرى مغربا حرا، تحترم فيه كرامة الناس و تصان فيه حقوقهم، إلا أن يرفض مثل هاته المظاهر و الممارسات. غير أن ما يمكن الإختلاف فيه مع منتقدي مراسيم البيعة ، هو اعتبارهم لها طقوسا بالية من زمان غابر و ارثا تاريخيا يجب التخلص منه، لا لشيء إلى أنها نتاج زمن بعيد يجب تجاوزه و عدم الوقوف عنده. فكل الدول، حتى الأكثر تقدما و حضارة و ديمقراطية، فيها مراسيم و إحتفالات رسمية و شعبية ، موغلة في القدم و تاريخها يعود أحيانا إلى عشرات القرون. فمثلا في انكلترا، أقدم و أعرق الديمقراطيات في العالم، مراسم تنصيب الملك مازالت هي نفسها لم تتغير منذ أكثر من 950 سنة، حيث يمر الحفل في نفس الكنيسة بلندن ، و بنفس اللباس، و نفس الجمل و التعابير التي يتسلم فيها الجالس على العرش سلطته و حكمه. هاته الطقوس في انكلترا هي مزيج من الدين و السياسة ، حيث أن الملك فيها ينصب رئيسا للدولة و الكنيسة في نفس الآن. الشيء ذاته موجود في أنظمة ديمقراطية كاليابان و السويد و الدنمارك، وهي دول يضرب بها المثل في الحضارة و التقدم و التمدن. حتى فرنسا، الجمهورية التي قامت على انقاض الملكية بعد ثورة عنيفة ودموية، فإحتفالها بعيدها الوطني فيه أيضا مايشبه المراسيم الملكية القديمة، حيث يمر الجيش الفرنسي أمام رئيس الدولة؛ و هو فوق منصة عالية و يؤدي له الجند التحية العسكرية، ثم يمر الرئيس في سيارة مكشوفة ليحيي الناس المصطفين على جوانب شارع الشانزيلزي، و كأنه ملك من ملوك فرنسا القدامى. محافظة تلك الدول على مراسيم قديمة و تمسكهم بها، نابع من تشبت بالتاريخ و بعراقته، و رغبة في التميز عن الشعوب الأخرى و الإفتخار بالإنتماء لوطن له عمق تاريخي و إستمرارية لم تتأثر رغم مرور الزمن.
مراسيم البيعة ممكن أن تصبح إذن ارثا تاريخيا و رمزا تقليديا ، كما في بلدان أخرى، و خصوصا لو تم شرحها و تبيين أصولها و ما فيها من رموز تاريخية كالمظلة فوق رأس الملك و لباسه، و عازفي الموسيقى الذين يرافقونه، و العبارات التي يرددها المحيطون به. فهي أشياء لاعلاقة لها بالخنوع و الإذلال و التسلط ، بل هي جزء من ثراث المغرب العميق و تقاليد سياسية تشكلت لعدة قرون ، فيها مزج بين السياسي و الديني و الأعراف المغربية العريقة. غير أن شرط المحافظة على تلك المراسيم هو في اعتبرها طقوسا و رموزا لا غير، ليس لها أي أثر قانوني أو مفعول سياسي على صلاحيات المؤسسة الملكية و علاقتها بالحكومة و البرلمان و بقية المؤسسات الأخرى. فمراسيم الولاء و البيعة لا تضع الملك فوق الدستور و القانون، كما صور ذلك مجموعة من رجال السياسة و القانون في المغرب و حاولوا التنظير له، أو كما فعل ذلك الحسن الثاني ، حين جعل من البيعة و إمارة المؤمنين أساسا لممارسة استبدادية للحكم. فالآن هناك دستور، قد نختلف أو نتفق على قيمته و ظروف وضعه و التصويت عليه، و لكنه في الأول و الأخير، المرجع و الحكم، في تحديد وتفصيل اختصاصات الملك و صلاحيات كل مؤسسة على حدة. الدستور الذي صوت عليه الشعب، يقوم مقام نص البيعة في القرون السابقة، في تبيين العلاقة بين الحاكم و المواطنين ، بينما تأتي مراسيم الولاء كحفل يذكر المغاربة بقدم حضارتهم، و تقاليدهم، و أن بلدهم ليس إصطناعيا ، رسم الإستعمار حدوده و هويته، و لكنه وطن ضارب في القدم و العراقة، حيث أن طقوس حفل الولاء، في جزء كبير منها، تعود إلى أكثر من 500 سنة، أي إلى زمن السلطان المنصور الذهبي . و هنا العيب كل العيب على الدولة و النظام التعليمي في المغرب الذي فشل حتى في تدريس تاريخ البلاد و رموزها إلى المغاربة ، حيث ان أكثرهم لا يدرون شيئا و لا يعلمون ولو النزر القليل عن حضارتهم، و تقاليدهم السياسية و تاريخ البلاد.
و أخيرا، فأهم ما في حفل البيعة و العامل المحدد للتعامل معها، هو الشعور الذي يخالج نفوس الواقفين أمام الملك : هل هو شعور بالخوف و الرهبة أم إحساس بالإحترام و التوقير لرمز سياسي و تاريخي . فإذا كان الشعور الأول هو الغالب فلا خير في طقوس مبنية على التسلط و الترهيب، أما إذا كان الإحساس الثاني هو المهيمن، فلا ضرر و لا غضاضة. في انكلترا مثلا، عندما ينحني الواقفون أمام الملكة؛ فهم يفعلون ذلك إهابة و إحتراما لرمز، لا لشخص، و لتاريخ يتجاوز الجالس على العرش. فالتقاليد لاتنقص في شيء من ديمقراطية بلد، شريطة أن تكون روح و ممارسة تلك التقاليد ملئ بالإحترام و صون كرامة و عزة المشاركين فيها، كما أن التقدم و الحداثة لا تعنيان أبدا رفض الماضي ونسيانه.