الفرق بين فرانسوا هولاند وبين نيكولا ساركوزي، هو الفرق بين رجل عادٍ أصبح رئيسا ورئيسا أصبح رجلا عاديا. ولذلك معناه، ومعنى كبير، حيث كانت المفردة التي ترددت كثيرا، في التعاليق الإعلامية والسياسية التي أعقبت الإعلان عن النتائج، هي كون الفرنسيين اختاروا «رجلا عاديا»، أي أنهم اختاروا رجلا يشبههم، لا يتعجرف ولا يتقرب من الأثرياء أو يقلدهم إن لم يكن واحدا منهم، رجلا عاديا يدير خامس قوة في العالم، هي جملة سيكون لها تاريخ.
لا يفتعل هولاند حياة عادية، أو مشاعر عادية لكي يخدع بها الناخبين أو يستدرجهم إلى أرض لا يعرفونها، ثم يفتك سياسيا بهم، بل هو كذلك، وكذلك شعرت به فرنسا البسيطة، وفرنسا الإعلامية والسياسية.
ولعل ذلك هو الدليل أن الانتفاخ السياسي والتعجرف والتعالي الفارغ لم يعد يصنع سياسيا مرموقا ولا قائدا من حجم رئيس دولة. والمحقق، أيضا، أن هذه البساطة التي أصبحت رأسمالا سياسيا، هي بساطة اشتراكية، أي رأسمال لمن يؤمنون حقا وفعليا بالقيم الاشتراكية، في أي أرض كانوا.
المناضل البسيط.. أيضا هولاند هو، أيضا، الرجل الذي لم يكن من «أثرياء» الاشتراكية الفرنسية، ولا من الفيلة، هو ابن المسار الذي أعقب الهزيمة التي عاشتها الاشتراكية الفرنسية في أبريل 2002، تلك الهزيمة الهوجاء، التي كان من نتائجها ذهاب كل الذين تحملوا المسؤولية في التعثر والسقوط. والذين تابعوا تصريحات جوسبان أول أمس على القناة الثانية الفرنسية شعروا كم كان الوزير الأول ومرشح الرئاسة السابقة، ممتنا إزاء الشباب الذي اشتغل إلى جانبه، في صمت، وبكل بساطة. ولما سألوه هل ستعطيه نصائح، قال بكل التواضع النضالي المطلوب: أبدا، والاتصال الهاتفي سيكون باتجاه واحد فقط، أي لن أرفع السماعة لأملي عليه ما يفعله. الفرنسي البلدي، ابن كوريز المعروفة بسخريتها المتميزة، لم يكن يجر وراءه أية مطامع، كان عليه، رفقة الآخرين، أن يعيد بناء قوة جاذبية الحزب الاشتراكي الذي تركه الشعب الفرنسي في قاع الهاوية. كثيرون كانوا يسخرون منه، بل يهاجمونه، وكانوا من أبناء جلدته، لكن الفرنسيين وشعب اليسار أنصفه، لأنه كان بسيطا بأفكار واضحة ومسار لا يجر سلاسل، حتى ولو كانت ذهبية.
الفرنسي اليساري.. كان من اللافت حقا أن تتكلم مارتين أوبري، التي نافسته في الانتخابات الأولية، ولما فاز ساندته، أن تتحدث عن انتصار الرجل الذي يمثل اليسار. لم يكن هناك أي ادعاء، أو أي تواضع مزيف أو خطاب للمرحلة سرعان ما تطير صباغته، بل كان هناك إيمان عميق، يحترم تاريخ اليسار ويعلن، بلا مواربة، أن اليسار هو الذي فاز في المعركة. وهو دليل على قدرة اليسار في الفوز، مهما كانت قوة دولة اليمين وقوة مجتمع اليمين.. في انتخابات 2007، كان الاشتراكيون يقولون بأنهم سيهزمون ساركوزي، لكنهم سقطوا في ما أصبح يعرف في أدبيات الاشتراكيين الفرنسيين «بفخ تشتت اليسار»، والعشر سنوات التي قضوها منذ 2002، لم تذهب سدى، كانت للعمل المشترك، والوعي بأن الرصاصات الصديقة والنيران القريبة، والحسابات الضيقة لن تكون رافعة للنصر..
فرانسوا كل الفرنسيين.. كان نيكولا ساركوزي، قويا وهو يعلن، في أول عباراته بعد الفشل، أنه اتصل بالرئيس الجديد وهنأه، وكان، وهو يتعثر في أولى خطواته الجديدة، قويا عندما أعلن بأنه سيصبح الرجل الفرنسي البسيط، من بعد الهزيمة، ولم يترك ظله على ساحة اليمين. كما كان قويا عندما دعا أنصاره إلى اعتبار النصر اليساري انتصارا لفرنسا كلها ولقيمها الديموقراطية. هولاند من جهته، بدأ حديثه بالتصريح نفسه، وبمهاتفة خلفه في الإليزي. وأعلن بعد ذلك التزامين اثنين: العدالة والشباب. وكان الشباب يملأ جنبات الباستيل وأرصفة طريق سولفيرينو، والشباب هو الذي يصرخ أمام الكاميرات. نيكولا ساركوزي، كان قويا وهو يعلن مسؤوليته وحده في الهزيمة، مسؤولية القائد الذي لا يبحث عن مسؤولين آخرين، بالرغم من أن الجميع كان يصرخ أمامه بأنه ليس كذلك.
هولاند يكسر موجة المحافظة الجواب الفرنسي عن سيل المحافظة وهجوم الرأسمال والتبنيك الدائم للعلاقات بين السياسة والمال، كسر أيضا الاعتقاد الذي رافق البداية في الألفية الجديدة، كانت هناك موجة عمق حقيقية استطاعت أن تقلم أظافر الليبرالية المتوحشة، وجرفت، أيضا، تلك النزعة التنميطية التي تريد أن تشابه البشرية وتضيع الفروق الثقافية والفكرية والإيديولوجية بين التجمعات البشرية والعائلات الفكرية. فرانسوا، الرئيس الاشتراكي الثاني في الجمهورية الخامسة، هو، أيضا، انتصار لاختيار أبناء شعبه، وهو رئيسهم كلهم الآن، ولهذا فقد أعلن بأنه سيقود فرنسا وسط إعصار أوروبي لم يسبق له مثيل وأخطر أزمة تعرفها الرأسمالية الغربية منذ الخمسين سنة الأخيرة.
الاختيار الحكم، هو الاختيار، والاختيار هو الإرادة التي تذهب مباشرة إلى ما هو أساسي، إلى ما هو مركزي لتعبئة طاقات الجميع. 8/5/2012