أعرف أصدقاء حملوا أمتعتهم واستقروا في الفيسبوك، منذ أن اكتشفوه لأول مرة قرروا الهجرة إليه والاتكاء على جدرانه بصورهم وعواطفهم الجياشة وأخبارهم، وكلما احتجت أحدهم بحثت عنه هناك، أدق على صفحته الخاصة فيخرج للقائي. هؤلاء الأصدقاء من الصعب العثور عليهم في الحياة الطبيعية، تلك الحياة التي خلقنا الله لنعيشها، لكن من السهل جدا أن تجدهم في الفيسبوك، وهناك يناضلون ويحبون ويؤسسون الجمعيات ويتحاورون ويتبادلون المجاملات.
وكلما سألت عن شخص اشتقت إلى رؤيته يقال لي إنه موجود في الفيسبوك ويراه الجميع، بينما أنا الغائب في نظره، لأني أترك صفحتي فارغة ولا أستقر فيها. لي أصدقاء كثر في الفيسبوك، من بينهم شعراء وصحفيون وأصدقاء لا علاقة لهم بالمهنتين، إلا أن أكثر ما يثيرني بين هذه الشلة الكبيرة من سكان الفيسبوك هم الشعراء، كلما أردت أن أتسلى وأضحك أدخل وأقرأ ما يكتبون لبعضهم البعض، هناك استعداد كبير لديهم لتبادل المديح والإطراء، شاعر يكتب للآخر "أيها الجميل" فيرد عليه شاعر آخر التحية بأحسن منها ويقول له "دمت متألقا"، وقبل أن ينتهي الحوار بينهما يتدخل ثالث ويعترف بالمكنون"محبتي لكما"، إلى درجة أني بدأت أشك في أصدقائي الشعراء وفي ميولاتهم، وأصبحت أتجنب الحديث معهم في الفيسبوك. الغريب أننا حين نلتقي في المقهى مثلا، لا نقول لبعضنا البعض مثل هذا الكلام الرقيق والمثير للشكوك، نتحدث مثل باقي الناس ولا نفرط في المجاملات والغزل، ولذلك وخوفا على سمعتي ومن أن يكتب لي أحد الشعراء يوما ما على جدران الفيسبوك أيها الجميل، ويعرف بالخبر القاصي والداني، تجنبت أن أكون شاعرا في الفيسبوك وتجنبت مرافقة الكتاب وما يأتي منهم.
وأنا أتجول في شوارع الفيسبوك وبين سكانه أكتشف أنه يضم نشطاء مداومين على كتابة التعليقات، وأتساءل كلما انتبهت إلى الكم الهائل من الرسائل التي تأتي منهم إذا ما كانوا يتلقون تعويضا عن هذا المجهود الكبير الذي يبذلونه، فمن الحيف والظلم أن لا يتلقوا راتبا مقابل هذا العمل، يتركون كل شيء ويتفرغون لهذه المهمة الشاقة، وأقول مع نفسي إما أنهم لا يعملون وهذه هي مهنتهم، وإما أنهم يتركون عملهم ويتسلون بكتابة التعليقات، وإما أن جهة ما تغمط حقهم وتستغلهم لأداء هذه الوظيفة الشاقة. بعد طول تفكير اكتشفت أن الوجود في الفيسبوك والأنترنت هو الوجود الحقيقي، أما الحياة الطبيعية فهي غير موجودة ولا يمكن عيشها خارج العوالم الافتراضية، فأصدقائي هؤلاء على حق بإصرارهم على الحضور الدائم في الفيسبوك، لأنهم فطنوا أن كل غائب لا يقبل عذره وهذا ما حصل لي أنا بالضبط: فبعد طول غياب عن الأنترنت، بحثت عن اسمي في غوغل، ويا للمفاجأة، لم أعثر علي، لقد تقمصني أشخاص آخرون، كل ما عثرت عليه قرين لي يدعى حميد زيد، تأكدت أنه إرهابي باكستاني تطارده الشرطة والولايات المتحدة، فخفت مني، وحميد زيد آخر ، كويتي هذه المرة، يكتب الشعر النبطي، وله شعبية كبيرة بين الخليجيات، و صفحة خاصة تحمل عنوان "نهر الدلوعات" تدخلها المعجبات به، فتمنيت أن أسترجع اسمي أو على أقل تقدير أن تعتقد البنات أنني أنا ذلك الكويتي المشهور، ودخلت إلى الفيسبوك مضطرا معلقا على كل من أصادفه"أيها الجميل، دمت متألقا" !