من الملكية إلى النخب، الكل مسؤول على استمرار المخزن والاستبداد المغرب وسط العاصفة. الاستقرار مهدد مثله مثل الوحدة والاستقلال والديمقراطية التي يناضل من أجل إرسائها جيل جديد من المغاربة الحالمين بولوج مجتمع السياسة والعقل الجماعي المنظم داخل وعبر مؤسسات منتخبة. لكن من يهدد الاستقرار الهش؟ ومن هو اليوم أكثر استعدادا لضرب وحدة المغرب الترابية ووحدة المغاربة وقتل الانتماء فيهم لأرضهم وأبنائهم وثقافتهم التي تحتاج إلى ثورة حقيقية؟ ومن يناهض مطالب الديمقراطية ويقف سدا منيعا أمام إرسائها وأمام وضع أسس التنمية من تعليم وصحة وسكن وباقي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ هل هو الشارع الغاضب في المدن والهوامش باسم 20 فبراير وغلاء المعيشة والمطالبة بالشغل والوظيفة العمومية؟ أم هي الطبقة السياسية العاجزة عن تغيير البلد من داخل المؤسسات؟ هل هي الملكية بأسرتها الحاكمة وحلقية المستشارين وحكومة الظل من عمال وولاة الأقاليم؟ هل هم جنرالات المؤسسة العسكرية الشبيهة بصندوق أسود مغلق؟ أم هي الرأسمالية العالمية التي تتربص بكل الدول الفقيرة والضعيفة المحكومة من لدن لوبيات الفساد لتعمق تخلفها وتسلبها خيراتها؟ أم الأمر يتعلق بتنظيم أكثر تعقيدا يتداخل فيه الداخلي بالخارجي، المجتمع والدولة، الحكام والمحكومين، المجتمع المدني والمثقف والأحزاب؟ أسئلة تؤرق وتعود بنا إلى أخرى كلاسيكية : لماذا نستمر في التخلف وتفشل القومية والحس الوطني في التأسيس للدولة الوطنية؟ ولماذا لا ينمو الحس الديمقراطي ولا تتحقق التنمية حتى داخل نظام استبدادي كما وقع في مناطق أخرى في العالم اليوم وفي الماضي منذ نابوليون حتى عهد الميجي باليابان والنظام الشيوعي بالصين؟ لماذا لم ينجح التوافق لينتج مرحلة جديدة بدل أن يميل لصالح قوى المحافظة والاستبداد ويتقوقع اليسار ومعه الفكر الحداثي داخل المجتمع؟ لماذا لم يستطع المجتمعي المدني التأثير على مجتمع مجزء محكوم بقيم "القبيلة" وثقافة الشيخ والمريد من البادية/الزاوية إلى المدينة الخاضعة للترييف؟ ولماذا لم يتغير الزمن، بل زج بنا في انفصام وتخلف أعمق من التخلف الذي ساد في عهد الفيودالية والعصر الوسيط بأوربا. فلا نحن دخلنا عهد التصنيع والمدرسة العمومية للجميع والمعمل كمركز للمجتمع وحركة التمدين الواسعة كنمط معبر عن حركية المجتمع ولا نحن توجهنا إلى المستقبل لولوج الموجة الثالثة، موجة التكنولوجيا والطاقات المتجددة. أما النظام الضعيف الخاضع والنيوكولونيالي فلا هو أسس لوطنية مستبدة متنورة ومحققة للتنمية وقواعد التعليم الوطني للجميع ولا هي سمحت بنشأة قوى ديمقراطية تتداول على السلطة ديمقراطيا وتقترح مشاريعها المجتمعية على المغاربة ليختاروا. لقد أسس النظام الغير وطني الذي يعيش المغاربة تحت ظله لاستبداد وتبعية فقط، لكنه اليوم لا يمنع، مثله مثل باقي الأنظمة في المنطقة من نشأة حركات تحررية. ولعل قراءة الوضع اليوم يحتاج لبحث عميق حول مجتمعنا، تاريخه ومؤسسات الدولة التقليدية منها أو الحديثة. فمسألة التخلف ليست هي ما تهمني في هذا المقال (ذلك أن مقاربتها تحتاج لوقت أطول ولارتكاز البحث على منهجية دقيقة وعمل ميداني ومقارنتي جبار، من الأسرة إلى القبيلة والزاوية والحزب والمجتمع المدني والتقليد والدين كمؤسسة والمدرسة...) بقدر ما أريد المساهمة ففي فتح النقاش حول الأسئلة التي سبق وطرحتها وذلك في مغرب يعيش مرحلة حساسة من تاريخه الحديث. أتذكر جيدا أولى أيام الاحتجاج المنظم بالمغرب تحت راية حركة 20 فبراير: لا شيء يمكنه أن يوقف حماسة الشباب المناهض للاستبداد والرافع لشعارات تفضح الفساد وتطالب بالديمقراطية. عرف أول يوم للاحتجاج خروج الآلاف من المتظاهرين في أزيد من 70 مدينة ومركز قروي. ولعل هذا الأمر لم يحصل في أي دولة عربية أخرى في أول أيام الاحتجاج، بل فقط بعدما تشتعل حرارة الصراع ويمتد العنف والقمع ليشمل كل المناطق. لكن غموضا كبيرا كان يلف مستقبل الحركة وخاصة الكيفية التي ستعامل بها أجهزة الدولة هذه الحركة الحاملة لمطالب سياسية. قبل الاحتجاج لم تعبر إلا تنظيمات سياسية ونقابية وجمعوية قليلة على مساندتها ودعمها وتأطيرها للحراك السياسي الشاب. حتى التنظيمات المعارضة تاريخيا والتنظيمات التي طالما ادعت الوطنية وتلك التي سبق وأن حملت مطلب التغيير ظلت تنتظر ولم تعبر عن رغبتها في الالتحاق بنداءات الشباب. ليس لأنه لم يرفع المغاربة في الشارع العام شعارات المطالبة بالديمقراطية منذ انتفاضة 1965 وليس لأن جل النخب الممارسة داخل المؤسسات وأحيانا خارجها غير مستقلة القرار وغير منخرطة في إرادة التغيير ولكن كذلك لأن عقما سياسيا كبيرا ينتاب المغرب منذ فشل حكومة التناوب الأولى بزعامة عبد الرحمان اليوسفي في إرساء المغرب الذي حلم به آلاف المناضلين منذ استقلال المغرب حتى بداية الألفية الثالثة. هذا الحلم الذي تحطم أمام مصالح النظام التقليدي والسلطة الاستبدادية وأمام انتهازية ووصولية الفاعل السياسي الذي قبل بالتوافقات المهينة وأنصاف الحلول... هذا الحلم لم ينشأ من جديد إلا بعد انطلاق مسيرة 20 فبراير ليسطع من جديد معها جيل جديد من المناضلين سواء المنخرطين منهم في ديناميات حزبية أو جمعوية أو مستقلين. فمن منا لا يتذكر الفترة ما بين 2002 ونهاية 2010؟ فترة عرفت موتا حقيقيا للسياسة والإرادة، وبرزت فيها حركات احتجاجية غير منظمة قادمة من الهوامش وبدون تأثير على المسار الديمقراطي الذي ترفض الدولة ولوجه. إن بداية سنة 2011 وما عرفته من حركات مطالبة بالديمقراطية ونهاية عهد الاستبداد والتخلف في العالم العربي، هي بداية كذلك لحراك طويل المدى بالمغرب. لقد أعلن فيه شباب التغيير أنه رغم كل الإشكالات البنيوية العميقة التي تكبل المغرب شعبا ومؤسسات، ورغم النسبة العالية للأمية والفقر والتهميش ورغم الجهل الذي يعم البلاد نتيجة غياب السياسات أو بروز أخرى هدفها إخضاع المغاربة ونشر الأصولية والغيبيات ومنع التربية والتهذيب وقتل إرادة التطور لدى المغاربة... رغم كل ذلك، إلا أن جيلا جديدا بدأ يتشكل ووعيا بأهمية ولوج مجتمع السياسة والديمقراطية والمواطنة بدأت تظهر إرهاصاته وبدأ يجتمع رافعي هذه المطالب ويخلقون "شارعا وفضاءا عموميا". أمام انهيار رؤوس الأنظمة بالعالم العربي وأمام "نهضة" الشارع المغربي، لم يتأخر خطاب الملك. هذا الأخير أعلن في خطاب اعتبره العديد من الديمقراطيين بأنه "واعد ومواكب للمرحلة". ففي 9 مارس 2011 أعلن ممثل أعلى سلطة في الدولة عن توجه نحو إصلاحات جذرية لنظام سياسي مستبد لا يؤمن باقتسام السلط وخضوعها للرقابة الشعبية. إنه دون شك خطاب جاء تحت ضغوط داخلية (ممثلة أساسا في حركة 20 فبراير التي نجحت في استقطاب العديد من أصوات ساسة ومثقفين ورجال أعمال وفئات هشة) وتحت ضغوط خارجية ممثلة أساسا في الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوربي (في لقاء مع ممثل عن السفارة الأمريكية مثلا أكد بأن الخارجية الأمريكية دعت لوقف كل عنف تجاه شباب الحركة...). فخطاب الملك جاء ليظهر توازنا جديدا للقوى الذي استطاعت الحركة أن وضغط الشارع أن يفرضوه على النظام السياسي في حين أن التنظيمات الحزبية التي تماهت جلها مع التوازن القديم والذي كان يضمن تسلط المؤسسات المخزنية المعينة، هذه التنظيمات بدت وكأنها خارج السياق تلعب دور المتفرج والمنتظر لما ستؤول له الأوضاع. لكن مباشرة بعد هذا الخطاب بدأ المتضررون من ملامح النظام الجديد المعلن عنه من طرف الملك في البروز والخروج للشارع كذلك. تحت مسميات عدة "الشباب الملكي، الشبيبات الحزبية الديمقراطية، شباب ما تقيسش بلادي..." بدأ النظام الخفي المستفيد من الوضع المغربي بالظهور والتضييق على الديمقراطيين. فتم الإعلان عن تنظيم مسيرات متعددة وتم إعطاء أوامر وقرارات خفية لمحاصرة وضرب المحتجين الديمقراطيين في الشارع ومنع التظاهرات السلمية وبدت في كل الشوارع المغربية لافتات كبرى مخصصة للإشهار تحمل شعارات "ما تقيسش بلادي"، وتم تسخير الإعلام العمومي والإذاعات الرسمية والخاصة لتبخيس التظاهرات وتمييعها والتحامل عليها. في هذه اللحظات كان الشباب المطالب بالتغيير يعيش تضييقا كبيرا وتهديدا يوميا لسلامتهم البدنية. والأخطر من ذلك كله هو تحول العديد من المدن الهامشية إلى قنابل موقوتة مهددة للاستقرار بالمغرب وذلك من تدبير لوبيات العقار والتجارة والعسكر والأعيان أصحاب المصالح وتجار الانتخابات. لقد انتفض النظام على النظام! حينها لم يكن للملك نفسه مرة أخرى إلا الخضوع لهذا التوازن الجديد. فهذا الهجوم الكبير على دعاة التغيير من لدن النظام الخفي المدبر من المكاتب بالولايات والعمالات والإذاعات والقنوات العمومية وفيلات الجنرالات والمكاتب الغير خاضعة لأية رقابة، هو ما أنتج التوازن الجديد. هذا الأخير أفرز خطاب الملك الثاني الذي سطر دستورا لا يرقى لمطالب الشارع، دستور مؤسس لاستبداد جديد. لقد خضع الملك لضغط نظامه. فمن دون أي شك، هناك مصالح عديدة تربط الملك والأسرة الملكية بالمغرب الحالي بما هو مغرب متخلف وتابع اقتصاديا. لكن أملا كبيرا كان معلقا على الملكية لتساهم في تأسيس مكلية ثانية، ملكية وطنية ديمقراطية مصطفة إلى جانب حاملي حلم التغيير ومناهضة للفساد والاستبداد، بدل الخضوع لنظامها القائم على مركبات المصالح الفاسدة. بعد المصادقة على الدستور بعد عروض فلكلورية وبأرقام خيالية وتزوير كبير شاب العملية، تم ترسيخ سياسة النظام السابق/الحالي رغم الإعلان عن نوايا إصلاحية وإطلاق أوراش هامشية تهم تخليق الحياة السياسية. لكن المغربي العادي مثله مثل المتتبع للشأن السياسي لم يلحظ أي تغيير ملموس داخل القطاعات (التعليم، الصحة، الإعلام، السكن، الشغل، الحريات...). فمن دون شك، التغيير يلزمه وقت محدد، لكنه لا بد أن ينطلق من إرادة سياسية معلنة وواضحة وببرنامج انتقالي تساهم فيه القوى السياسية كلها. وفي حالة المغرب يحتاج هذا الانتقال إلى مصالحة حقيقية وابتعاد كلي لأعيان النظام القديم ورجالاته ومؤسساته عن تدبير المرحلة. وهذا الأمر غير موجود حتى الآن وليست هناك أية نية واضحة لتفعيله. فليس الأمر يتعلق فقط بأزمة النخب السياسية الغير قادرة على أخذ المبادرة والالتزام بتفعيل الإصلاح، وإنما الأزمة كذلك في النظام المتحكم بالسلطة والذي لا رغبة له في ترك الشأن العام للقوى السياسية. من جانب آخر، لا يمكن لقارئ الوضع المغربي والإقليمي عموما إنكار الدور الذي تقوم به القوى الخارجية في توجيه الدولة وخياراتها والضغط من أجل حفظ مصالحها. فأهم شيئ تطمح له هذه القوى اليوم هو دعم وصول أنظمة تأسس للاستقرار بعدما أحست عبر تقاريرها أن الأنظمة الديكتاتورية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط صارت عاجزة على صد الحركات الاحتجاجية التي يتنامى وعيها وتتصاعد حدتها. لكن في أنظمة شبه ديكتاتورية مثل المغرب يغيب الدعم الواضح من طرف هذه القوى لصالح الحركات الاحتجاجية. ولعل في هذا الأمر شيء إيجابي. فحركات التغيير لن تستطيع التغلب على الفساد السياسي الداخلي عبر اللجوء لقوى خارجية لا يهمها سوى سمو مصالحها وثقافتها في الإقليم. كما أن الطابع اليميني الليبرالي المتوحش الذي يطبع هذه القوى لن يساهم في دعم حركات وطنية ديمقراطية دون أن يثقل كاهلها بالعديد من الإلتزامات والتوجهات، وهذا هو موضوع المقال القادم. وفي الأخير لا بد من التأكيد أن الذي يهدد الاستقرار اليوم هو من يقف حاجزا في وجه تأسيس الديمقراطي. من بقايا النظام الكولونيالي إلى الأسرة الحاكمة التي لا تقبل بالدخول في المغامرة الديمقراطية الجميلة التي يستحقها شعوب العالم والتي أثبت التاريخ والإتنوغرافيا أنها ليست حكرا على شعب دون الأخر. هذا الاستقرار مثله مثل التقدم يهدده أصحاب المصالح المرتبطة بمنظومة الفساد والمدافعين عن مشروع المحافظة والخلود في زمن الإقطاع والدين والسحر والغيب. الذين يهددون مستقبل المغرب هم من لم يفهموا بعد أنه رغم سياسات زرع الجهل والأمية فإن جيلا جديدا قادرا على النضال من أجل دخول مجتمع السياسة والمواطنة. من لا يؤمن بضرورة القطيعة السلمية مع زمن الخضوع والحكم الفوقي والسياسات الفاشلة المستوردة والمصنعة بغرف بعيدة عن المؤسسات المنتخبة، أولئك هم من يهدد بفشل مشروع تأسيس دولة ديمقراطية بل يهددون بنهاية الدولة نفسها ويزرعون عاصفة التشتت والفوضى والدم.