تعارف الحكماء منذ زمن على أن الصمت حكمة، وحامل صفته تكون له حظوة بين أهل الجماعة من العالمِينَ أو حتى العاديين من بني إنس المجتمع، وهو ما نريد تأكيده مقاما وقولا رفيعا شادين النواجد على من أتاحت له صفاته الخلقية والعلمية حمل هذه السمة المتفردة التي قل أصحابها في وقتنا الحاضر لعديد مسببات ليس قولنا فيها بالمقصود الذي نشرئب نيله من هذه النافذة. قد لا يكاد يجادل على الديباجة أعلاه مخالف، لكن ما نطوق له هنا هو عندما يتحول الصمت إلى فعلٍ إخراسي تنجم عنه عواقب سيكولوجية وخيمة، فمن المعروف أن التربية الشائعة لدى أغلبية أسر المجتمع المغربي هي تلك المرتبطة بضوابط قمعية لحرية الطفل تقيد أفقه السوسيو نمائي بفعْلٍ ما يكون مصاحبا لها من تعنيف مادي أو معنوي، لا سيما عندما يكون فضول الطفل المعرفي محَطَّ "إحراجٍ" في جواب أحد الأبوين أو كلاهما ليلجئا إلى نهج القفزة العقابية لكي يخرسا لسان الولد، وهو أمر نابع في أغلب الأحيان عن جهلهما بطرق التربية وحتى بشمائل ليونة الجواب، الذي لا يجب دائما أن يحادي المباشرة اللسانية بل هي العبرة والضرب بالمثال يكون أفيدا من النطق بما قد نعتبره لا يليق ذكره في وسط مجتمعي خاصيته أنه محافظ إلى مزيجي بالتعبير "الباسكوني". وغالبا ما تزداد حدة هذا الإخراس القمعي عند ولوج الطفل للمدرسة، حيث يصطدم في مجمل الأمر بعقلية أستاذية غير متجددة وليست بالمرافقة لنمو ذهنية التلميذ الذي من المفروض توجيهه وإتاحة الفرصة له في التعبير وإطلاق العنان لرافعته الذهنية حتى تنمى شخصيته وفقا للقدرة على التعبير والقابلية على الإبداع، وهو ما يتم في أحايين كثيرة كبحه بالعصا "الزيتونية" أو تلك "اللسانية" التي يكون جرحها أعمق ومفعولها أشد. والنتيجة هي تلميذ مختل النفسية ومحدود التجاوب مع محيطه وهو ما فتئنا نلامسه في شباب اليوم الذين يخورون أمام الخوض في أي نقاش مهما كانت بساطته فاقدين لرؤى التحليل ولبراهين الدفاع الحجاجي الجدلي الذي به يعزز الصحيح ويدحض الراشي من البراثين الواهية. لعله أعلاه ما قد نذهب به تفسيرا إلى الحالة المجتمعية الاستثنائية التي يعرفها المجتمع المغربي في راهنية الألفية الثالثة، فإلى جانب الأسرة والمدرسة اللتين تراجعا دورهما بشكل مهول، نضيف تعزيزا، صخب البهرجة الإعلامية التي تجعل للمنتهل منها التحول إلى مستهلك بدين لمسائل وقضايا ملففة بألغام موجهة الأهداف، وهي في عموميتها ذات منبت صهيو- أمريكي ماسوني، تروم إفراغ الوعاء المعرفي لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خاصة والمجتمعات الإسلامية عامة من قوة التفكير، لكون الأخير يعني الإبداع الذي يقود إلى الإبتكار وهي حالة إخراس عامة تُطبل وتزغرد لها غالبية منافذنا الإعلامية ذات التمويل الخارجي والدفق البترو دولاري. والملاحظة أن حالة الإخراس يمتد وقعها ليصل الجامعة، فبفعل توالي السياسات التدجينية، وسن برامج تعليمية قاعدية جوفاء منذ الخطوة الأولى بالمدرسة وصولا بالجامعة، نجد أن الطالب فقد وزنه الذي طالما كان مرافقا لصفته الطلابية منذ نشأة التاريخ الطلابي المغربي، حيث تحول في أغلب الأمر إلى أشبه بكائن غريب عن الجامعة لا تربطه بها غير ورقة الإمتحان وبعض السويعات في الفصل الدراسي وكثير القهقهات في الأجنحة الهامشية للحرم الجامعي حيث تحلو الممارسة الفرويدية، وهو ما تعبر عنه حالة الإخراس التام الذي ما فتئنا نلامسه داخل الجامعة سواء بحجرات الدرس أو في "صخب" البناء الفكري المفقود في الأونة الأخيرة، وكل حركة فجائية تبحث عن أصلها فتجدها مقرونة بدافع مطلبي تطمس دافعيتها بمرور الوقت وتلبية المطلب. فلا طائل إذن أن تمتد حالة الإخراس الشبه العام إلى باقي روافد الاستقاء الفكري على مستوى الشارع حيث هجرة دور الشباب والسينما والمسرح والجمعيات الثقافية... جرد "شيمة !" الإخراس، يدفعنا إلى طرح البدائل التي نراها كجزء من حاملي الهم المجتمعي متجاوزة عبر إعادة الاعتبار لبعض العناصر التي كانت إلى أمد قصير تشكل بنيان التربية ومنها؛ دور مؤسسة الجدة وصقلها لكونها ينبوع الحكايات التي تكون دروسها مساهمة في بلورة الوعي والإجابة عن تساؤلات كل فترة عمرية انطلاقا من حكاية تتناولها بقالب يغري بالرغبة في استنباط الحكم. كما أن النهوض بالمدرسة التقليدية وفك رابطة "المسيد" من الجمود الذي تعيشه بفعل المحاولات المتتالية للإفراغ الوظيفي الذي عرفت به وتحولها إلى مؤسسة تابعة للريح السياسي الذي تحركه حسب أجندتها السياسية الضيقة وخلق حالة من استلاب الوعي الجماهيري، ضدا على هذا ستعود لها الهبة والوقار الشعبي فمما لا ريب فيه سيرفع من درجة الفض من حالة الإخراس المهول الذي يلازمنا. وفي جانبه الأخر التعجيل بإصلاح المنظومة التعليمية فيما يتوافق وتعميق الإصلاح الشامل الكفيل بالنهوض بالوضعية التعليمية – التعلمية من حالة التخلف والتأخر الذي لم تكتف المنظمات والتقارير الدولية بالإفصاح عنه بل وتجاوزه الأمر إلى الإقرار الداخلي عبر خطب عاهل البلاد والخرجات الإعلامية للوزير الوصي على القطاع، الذي وعلى ما يبدو يمرن حنجرته لخطب قادمة وإن كان أصله التكنوقراطي يبعده عن ذلك (أفليس الوزير بأحكم الحاكمين؟)، الشيء الذي سيفك عقدة التلميذ والطالب معا مما سينعش باقي الفضاءات الثقافية الجادة التي ما أحوجنا اليوم كما الماضي إلى توهجها الصانع للرجال.. وخلاصته، أن الإخراس فعل مذموم يجب علينا جميعا كل من موقعه الدفاع ضدا عنه، ونشر الوعي بالحقوق كما الواجبات هو الأمر الرهين بإحياء وميلاد جو من الحرية المسؤولة، حرية النقد والنشر والإدلاء بالرأي المخالف دونما إحساس الطرف المنتقد بالغليان الداخلي وفقدان رابطة الصداقة، لا لشيء سوى لاشتعال وطيس النقاش فيما يهم صقل الفكر البناء وتحريك حس القراءة والنهل من رغيف المعرفة فيما يتلازم وسمفونية فك الإخراس لصالح الإبداع والابتكار الذي سيكفل نهضة المجتمع لما فيه صالح الأجيال القادمة.