موضوع هذه المداخلة في هذه المائدة المستديرة التي يشارك فيها فاعلون ومناضلون وخبراء من المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر واليمن وموريطانيا، يتمثل في الجواب على سؤال: ما مدى مساهمة الإسلام السياسي في إشاعة الفكر والثقافة الديمقراطيين. وقد تم تنظيمها من طرف مؤسسة أحمد التليلي للثقافة الديمقراطية ايام 28 - 29 و30 ماي الماضي، هذا الجزء الأول منها: سأقتصر على تقييم تصرف فصيل من ضمن فصائل ما نطلق عليه الإسلام السياسي، لكون أصحابه يوجدون اليوم على رأس الحكومة في بلادي، مع التركيز على آثار هذا التصرف على مسارات الانتقال الديمقراطي. ويتعلق الأمر بحزب العدالة والتنمية.
فالمغرب، أسوة ببلدان عديدة في المنطقة، عرف حراكا سياسيا واجتماعيا متواترا أشعلت فتيله مجموعات شبابية وكان له الأثر البين في الإسراع بالمراجعة الدستورية لسنة 2011. لقد أصبحت قضايا الشأن العام في سياقات هذا الحراك اهتماما مشاعا ولم يعد مقتصرا على النخبة. ووقع ذلك في مناخ عام موسوم بمطالب تتحدد أساسا في تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. ولم تكن هذه المطالب وليدة ساعتها، فهناك أجيال دفعت حريتها، وفي العديد من الحالات دفعت حياتها ثمنا لذلك وانتمت بالأساس إلى صفوف اليسار بكل مكوناته خلال السنوات السوداء.
غير أن الجديد في الأمر تمثل في توق مدني غامر ومشروع من خلال هذا الحراك - ولو غير دقيق المعالم لدى الشباب - لدخول مرحلة جديدة، يتم من خلالها التجسيد العملي لقيم المواطنة وتجاوز الأشكال الهجينة للممارسة الديمقراطية كما عاشها المغرب خلال سنوات الانتهاكات الجسيمة. تلك السنوات التي رسخت من جهة نظام حكم استبدادي، مهاب لكن غير محبوب، لم يفلح في أن يفتح بابا للمستقبل إلا في سنواته الأخيرة، وعملت من جهة أخرى على ترسيخ تقاليد سياسية سلبية لدى جزء واسع من الطبقة السياسية. وهذا أظهر بجلاء أن الإصلاحات التي عرفها المغرب مع محمد السادس على أهميتها، لم تقنع الشباب المتظاهر بتلاؤمها مع ما يتطلبه الإصلاح. وهو ما سيعبر عنه خطاب 9 مارس 2011 الذي سيفتح الباب أمام المراجعة الدستورية.
في هذا المناخ العام لحراك 2011 وما تلاه، تحرك الإسلام السياسي (حزب العدالة والتنمية نموذجا) في واقع اتسم بتعب أحزاب اليسار المشارك في حكومة التناوب التوافقي وبمحدودية تأثير مجموعات اليسار الجديد، وبتعثر قيام بديل حزبي مستقل ومؤمن بقيم الحداثة.
لقد تبنى شعارات الشباب المتمثلة في مناهضة الفساد والاستبداد، دون أن يساند حركتهم مع ذلك، بل تصرف بحيث يستفيد من زخمها ونتائجها دون تحمل أعبائها كحزب. ولم يكن مبرره في ذلك سوى ادعاء "إنقاذ البلاد من الفوضى والنظام من السقوط". وكم تعلل ولا يزال بهذا "الإنجاز" بلهجة توحي بانتظار جزاء مستحق للحزب الذي يمثله، وبنبرة تشي في أحيان عديدة بالإحباط جراء عدم الاعتراف له بهذا "الجميل..."
كيف يمكن أن نفهم هذه الاختيارات؟ وهل هي تنبئ فعلا عن قدرة أصحابها على نشر الفكر والثقافة الديمقراطية كفكر وقيم ومبادئ؟
إن هذا "الإنقاذ" المفترض يتم توظيفه منذ انطلاق الحراك لهدف واحد هو تثبيت المشروع الإسلاموي المحافظ، المتشبث بمساطر الديمقراطية شكلا، البعيد عن روحها وفلسفتها وقيمها، في عملية أشبه بالاستحواذ على تاريخ النضال من أجل الإصلاح خلال عقود، وهو ما تكذبه الأحداث والوقائع.
ففوز العدالة والتنمية في أول انتخابات تحت ظل الدستور الجديد في عرف أصحابه ليس تداولا ديمقراطيا، كدنا نقول طبيعيا، على السلطة، وهو ما يشكل إحدى أسس الديمقراطية، بل هو "إنقاذ" "شبه إلهي" وجب على البلاد أداء ثمنه. والثمن هنا ليس سوى الإذعان للمشروع الإسلاموي.