مصر تكتب تاريخا جديدا، والمصريون يتذوقون لأول مرة في حياتهم طعم انتخابات تعددية غير محسومة بعد أن ملوا أطباق مبارك الانتخابية التي كانت تقدم لهم على مدار 30 سنة، حيث كان يتبارى في الانتخابات اسمان فقط: حسني ومبارك، وأيا كانت النتيجة، ف«الريس» باق فوق عرشه لا تحدثه نفسه بمغادرة الكرسي وحتى عندما يتذكر الموت فإن خلافة الابن لأبيه هو الجواب الوحيد لدى مبارك وأقرانه من كتيبة الحكام العرب. 13 مرشحا يتبارون حول أهم منصب في مصر لحكم 90 مليون نسمة أطاحت بالفرعون في ساحة التحرير، ولم تصل بعد إلى إرساء نظام ديمقراطي مستقر. 13 مرشحا فيهم الإسلامي والليبرالي والاشتراكي، وحتى بعض الوجوه التي تنتمي إلى «فلول» نظام مبارك. أيا كان الفائز في الانتخابات الرئاسية هذه، من الإخوان المسلمين أو من شخصيات أخرى ليبرالية أو وطنية، فإن الذي سيحكم مصر سيجد أمامه بلادا أخرى غير تلك التي كان مبارك «يسوسها» بالمخابرات والأمن ودعم الغرب والتحالف مع رجال الأعمال الفاسدين... المعادلة تغيرت، وفي البلاد هناك برلمان انتخب بطريقة ديمقراطية، ودستور في طور الإعداد، وشباب مستعد للرجوع إلى ساحة التحرير لإكمال الثورة... الذين يقدمون اضطراب الوضع في تونس ومصر وليبيا وسوريا للتخويف من «الربيع العربي» هنا وهناك، لا يدركون تعقيدات التغيير في الدول والمجتمعات التي تخرج من السلطوية بعد عقود وعقود من الاستبداد... إن صعوبات التحول من أنظمة القرون الوسطى، التي سجن الحكام العرب شعوبهم داخلها لمدة طويلة، يحتاج إلى وقت، وهذا الوقت جزء من فاتورة التغيير، وهو دليل على فشل الحكام المستبدين في بناء مؤسسات وتقاليد حكم ودساتير وقوانين تساعد على حفظ الاستقرار في وقت الشدة وأثناء التناوب على الحكم. الاضطرابات والصعوبات الاقتصادية التي تعصف بدول الربيع العربي شهادة ضد الأنظمة الاستبدادية التي سقطت، وليست أوراق إدانة للثورة والثوار... إذا كانت فرنسا وروسيا والصين ودول عديدة استغرقت عقودا بعد ثوراتها حتى تستقر سفينتها على بر الأمان، فكيف نطلب من الدول العربية، التي ثارت على حكامها، أن تحقق الاستقرار في بضعة شهور؟ هذا وهم لا يصدقه أحد ممن يعرف تاريخ الثورات والمراحل الصعبة في حياة الأمم. الانتخابات ما هي إلا جزء صغير في آلة اسمها الديمقراطية، لكن هذا الجزء أساسي للشروع في عملية طويلة ومعقدة اسمها مسار الانتقال الديمقراطي، الذي يستغرق عادة من 10 إلى 15 سنة حسب ظروف كل بلاد ومجتمع ومحيطهما الإقليمي والدولي... المهم هو أن يخرج الشعب من «حجر» الوصاية، وحتى الإصلاحيون ممن يخافون اليوم من صعود التيارات الدينية المعتدلة أو المتشددة على ظهر الديمقراطية الفتية، يؤمنون بأنه لا مفر من احترام إرادة الشعب، فلا يمكن أن تقود أمة إلى الجنة تحت السوط. سيجرب المصريون الإسلاميين، كما التونسيون والليبيون والمغاربة، وسيحكمون على أدائهم وسياساتهم بناء على ما يفعلون لا على ما يقولون.. بناء على ما يحققونه في الدنيا لا ما يبشرون به في الآخرة.