من الطاهر الطويل: اختار الفنان المغربي الساخر أحمد السنوسي (المعروف ب'بزيز′) العودة بقوة إلى المجال الفني من خلال عرض فني جديد اختار له عنوان ‘أبُو نَهَب'، استهلّ به جولته الأوروبية انطلاقاً من مدينة ‘ستراسبورغ' الفرنسية، بدعم من طرف عدد من الجمعيات المغربية في أوروبا؛ وذلك في انتظار تقديم عروضه ببلده المغرب. ويترقب الجميع عروض أحمد السنوسي المغربية التي ستشكّل جواباً عملياً حول مدى استمرار الرقابة على هذا الفنان الممنوع من التواصل مع جمهوره بالمغرب منذ حوالى عقدين من الزمن. ورغم هذا المنع، حرص السنوسي وبإصرار على الاستمرار في الحضور، سواء من خلال عروضه الخاصة بطلبة الجامعات أو المنظمات الحقوقية، أو من حضوره الفاعل والنضالي داخل المجتمع المدني غير الرسمي في مجالات الحقوق والحريات وضمن مسار حركة '20 فبراير' التي انطلقت في خضم ‘الربيع العربي'. ينتقد أحمد السنوسي في عمله الجديد كل توظيف تحقيري للسلطة والمال من أجل استعباد الشعوب والسطو على مكتسباتها التي تحققت بالعرق والدماء. العرض الجديد يحمل عنوانا نحته الفنان نحتا لغويا وفنيا، استند على اللعب بالكلمات واستعمال أسلوب القلب اللغوي الذي يعتبر من عناصر السخرية الفنية: ‘أبُو نَهَب'، وتقول قواميس لغة الضاد إن من نهب الشيء أخذه قهراً، ونهب الكلب شخصاً: أخذ بعرقوبه أي بالعصب الغليظ فوق مؤخر القدم، ونهب فلاناً تناوله بلسانه وأغلظ له القول، فهو ناهب. والنهب هو الغنيمة أو السرقة الموصوفة القائمة على الاستيلاء قهراً وغصباً.
الطاغية يتحكم في القاموس
ليس ضرورياً للفنان أن يستحضر قواميس المعاني، فله قاموسه الساخر الذي لا يهادن المفاهيم المتعارف عليها، بل يسائلها ويتخوف من أن تكون حبلى بكل ما يمكن أن يلتمس الأعذار للمستبد الذي يمكن له في غفلة من القاموس أن يرتدي قبّعة ‘المستبد العادل'. لذلك، ينبهنا أحمد السنوسي أن للطاغية قاموسه الخاص ومجالا لتدخله المباشر بإصدار أوامره السامية بحذف وإلغاء المفردات المعيبة في اللغة. فحين اشتعل ‘ربيع الحريات' في شهر فبراير، أصدر ‘أبو نهب' أوامره بإلغاء هذا الشهر ‘المعطوب' والمثير للشغب المتمرد حتى على الزمن ورزنامته، حيث إنه يكتفي دون غيره من الشهور بالنقصان دون الكمال. ويحكي السنوسي أن ‘أبو نهب' أمر بتشكيل لجنة مهمتها تنقيح القاموس من أفعال ناشزة مثل فعل ‘رحل' المغضوب عليه في كل الأزمنة وخصوصاً منها صيغة الأمر. وشمل الحظر أفعالا أخرى، وخاصة الفعل الدال على الإرادة، ولم يعد لأحد الحق في أن يرفع شعار ‘الشعب يريد'، ما دام أن ‘أبو نهب' يريد بالوكالة عن الجميع، ومتى أراد ‘أبو نهب' أمرا ما فلا رادّ لإرادته، حسب تصور المستبدّ.
إنها شخصية عجائبية بكل المقاييس، تنحدر من سلالة ‘أبو سلب' ابن الخطّاف (من الخطف والاختطاف)، أراد من خلالها الفنان أحمد السنوسي تفكيك ميكانيزمات السلطة، حيث تتحول إلى تسلط، وكذلك ميكانيزمات المال حين لا يعدو أن يكون وسيلة للاستعباد وهدر الكرامة وابتداع طبقة طفيلية من التابعين. إنه ‘أبو نهب' وسلالته وعائلته وقبيلته في مواجهة شعب كامل.
يصوّر السنوسي تلك العلاقة المبهمة بين ‘أبو نهب' والكرسي. إنها عملية تماهٍ إلى حد الذوبان بينهما، حيث لم يعد ممكنا التفريق بين الحاكم وشرايينه التي ‘تخشبت' من فرط الجلوس على كرسي انقطعت أنفاسه، وارتفعت شكواه من طول جلوس حاكم يعتقد أنه ورث شعباً ضمن ما ورثه من الأسلاف. وعوض أن يداوي الحاكم جراح شعبه الغائرة، ‘يبشّرهم' بإقدامه على سن سياسة التوزيع العادل للفقر، كما يمنحهم دستورا مكتوبا بمداد سحري، ما إن يقرأو مضامينه، حتى تتبخر حروفه في الهواء. ويفاجئ الشعب ذات صباح بخطاب عن ‘فضائل' الفقر والبؤس و'مزايا' الحاجة والعوز و'رذائل' الغنى والثراء، ناصحاً ‘رعيته' المفرطة في عوزها بالتشبث بقشّة الفقر، كما الغرقى. ‘أبو نهب'، إذنْ، صورة مقربة عن احتضار الطاغية. فلعل أقصى درجات الاستبداد أن يتسلى الدكتاتور بشعب ه، وأن يدمن على التلاعب بالذاكرة الجماعية، ساعياً إلى تغيير مجرى القيم لتصب في نهره مثلما تصب ثروات الأمة وأموالها في صناديقه، مراهناً على صمت الصامتين، حتى ولو كان هدوءاً يسبق العاصفة. من هنا، يستمد عرض ‘أبو نهب' راهنيته ومواكبته النقدية لواقع مغربي وعربي، يتّسم بسطوة شرسة على ثورات الشعوب وخطط جهنمية لإخراج تلك الثورات عن مسارها الحقيقي. وقد وظّف السنوسي كل مهاراته الفنية وحسه النقدي الساخر من أجل إنجاز عمل إبداعي غير مسبوق، يعكس عودة هذا الفنان بكامل نضجه الجمالي وتحكّمه في المشهد المسرحي بأبهى صوره المستوحاة من ‘أب الفنون'، حيث النص اللاذع والإنشاد الغنائي والرؤيا الاستشرافية المستقبلية لعهود انتهت صلاحيتها وما زالت تتشبث بالرمق الأخير. هذه إحاطة ساخرة باحتضار الطغاة. ولعل عرض ‘أبو نهب' يؤرخ لعملية العد العكسي التي انطلقت ديناميتها من الماء إلى الماء، في عملية احتضار قد تقصر وقد تطول.
السخرية من الدكتاتور
يقول أحمد السنوسي في لقاء مع ‘القدس العربي': ‘فن السخرية الحقيقي كما أراه شخصياً هو الذي ينفُذ بسلاحه السرّي إلى قلاع التسلط والاستبداد، لكي يثبت للخائفين والمرعوبين والمترددين أن المستبد مهما بلغت سطوته إنما هو نمر من ورق'. ويضيف قوله: ‘في بلد غير ديمقراطي يتحكم فيه ‘أبو نهب'، ألعب بالكلمات ككرات نار، لأن السياسي يلعب بنا ونحن نلعب بالكلمات ونسخر من الطغاة والمستبدين الذين يضعون على رؤوسهم هالة من الهيبة المزيفة. فالسخرية ضد الدكتاتور، ولكنها مع المهمّشين ضحايا ‘أبو نهب' الذي يعتبرنا جميعا قطيع النظام، كما أنه يقيم سياسته على حساب إنسانية الإنسان. والسخرية تقف سدّاً منيعاً ضد تشييء الإنسان وإفراغه من إنسانيته'.
ينبّه السنوسي إلى أن السخرية فن من أرقى التعبير الإنساني، بخلاف الفكاهة المسلية السائدة في عدد من البلدان العربية، وأغلبها فكاهة محافظة تقتات من العاهات الاجتماعية وتتعايش مع الأنظمة السياسية، لأن هذه الأنظمة تريد فكاهة تهاجم معارضيها. ويشير إلى أن السخرية لعبت أدوارا كبرى في بلدان غير ديمقراطية وما أكثرها (بلدان أوربا الشرقية سابقا وأمريكا اللاتينية وآسيا...). وبدأت ملامح توظيفها في بلدان ‘ربيع الحريات' كسلاح قوي ضد المستبد، مستعينة بالتطور الذي حصل في وسائط الاتصال المعاصرة، وبذلك كانت التكنولوجيا ضد الاستبداد. فلو بقي ‘أبو نهب' محتكراً إعلامه الرسمي ذا الرأي الواحد لاستفرد بشعبه، وعمل على توظيف تلفزيوناته للتعتيم عن انتفاضات الشعوب.
والسخرية كما يقول أحمد السنوسي ‘وسيلة للتأمل في عالم ليس بالضرورة ساخراً، إذ تمكننا من رؤية ما لا يراه الآخرون. السخرية قفزة في الفراغ بدون شبكة واقية. إنها مغامرة في أنظمة غير ديمقراطية. السخرية صرخة، تعبّر عن اليأس حين يفقد الإنسان كل توازنه. إنها تشاؤم مرح. لا يمكن أن نضحك من المستضعفين في الأرض ومن المقهورين. إنه مرح جبان. أنا لا أضحك على عاهات البشر، ولكنني أضحك على العاهات السياسية مثل التسلط وغياب الديمقراطية. وكما قال يوجين يونسكو: حيث لا توجد سخرية لا توجد إنسانية؛ حيث لا توجد سخرية يوجد معسكر اعتقال'. لا شك في أن عودة أحمد السنوسي الناضجة والمكتملة بكل أدوات التعبير المسرحي، ستسائل بنفس القوة كل الذين عملوا طيلة عقدين من الزمن على منعه ومحاصرته بشكل منهجي، وراهنوا على الزمان لكي ينساه جمهوره العريض، ولكن الناس ظلوا متشبثين بفنه وسخريته على الدوام، واستمروا في التضامن معه ضد المنع. لقد تعرّض السنوسي لامتحان عسير، لكن عزيمته لم تفتر ولو للحظة واحدة، رغم الترهيب والترغيب. وراهن الرقباء على عملية الإعدام الرمزي للفنان نفسه، متوهمّين بأن صورته ستنمحي من الأذهان وسيخبو بريقها من الذاكرة، فتصبح من الماضي. لكنهم فشلوا في محاولاتهم هذه. إن العكس هو ما حصل تماماً، حيث اتسعت قاعدة جمهور أحمد السنوسي، فاحتضنه طلبة الجامعات والمناضلون المستقلون ومغاربة العالم في كل الأقطار، في عملية تطويق رائعة للحصار والمنفى الداخلي، وهو الفنان الذي دافع بقوة عن منفيي الخارج وعن قضيتهم، مثل دفاعه الدائم عن قضايا الحقوق والحريات والكرامة في وطنه المغرب.
مسار حافل
انطلق مسار أحمد السنوسي ‘بزيز′ منذ بداياته الفنية المبكرة، حيث كان يقدم لوحات تتضمن نقدا لاذعا للاختلالات السلوكية والمجتمعية، ثم تبين له في ما بعد أن مصدر الخلل لا يكمن في الارتجاج السلوكي والمجتمعي، بل مصدره لدى من يملكون القرار ويصيغونه حسب أهوائهم، إلى درجة أن المواطن أو الكائن المجتمعي يتحول في نهاية المطاف إلى ‘روبوت' ومجرد مستهلك سلبي للإملاءات الفوقية التي لا يد له فيها.
‘أبو لهب'، إذنْ، حلقة جديدة ضمن سخرية السنوسي الوفية لمناهجها، بعد ‘عرس الذيب' العرض المسرحي المذهل والساخر الذي ‘تنبأ' فيه بانفجار بركان المستضعَفين والذي انتقد فيه أنظمة بعض الحكام العرب المطاح بهم في ما بعد (بن علي ومبارك والقذافي وغيرهما)، وبعد عرض ‘أبو رشوة'، النبيل المرتشي الذي يستبيح الضمائر والذمم، وبعد عرض ‘الفيزا والباليزا' (التأشيرة والحقيبة) حيث يعود المستعمر القديم إلى استعمار الشعوب التي حصلت على استقلال ناقص، وبعد عرض ‘الما في الرملة' و'راس الخيط' و'سهرة الأخبار' التي كانت انتقادا لاذعا للإعلام الرسمي في المغرب. عاد الفنان ‘بزيز′ بكل عنفوانه، فهل يعود الرقباء المانعون إلى عادتهم القديمة، في عالم يسير بخطى حثيثة نحو إلغاء الرقابة، ليجعلها مهمة شبه مستحيلة، بعد أن قررت الشعوب تكثيف التواصل في ما بينها، مما سيدفع بمهنة الرقيب إلى الانقراض طال الزمان أم قصر؟