إنه السؤال المستفز الذي طرحه النقيب عبد الرحيم الجامعي ضمن أسئلة أخرى، ليستخلص دروس ما بعد أحداث سجن عكاشة. ماذا حدث بإصلاحية عكاشة كما يطلق على تسمية سجن الاحداث بالدار البيضاء؟ ولماذا وقع الخراب والحريق وخرج مآت النزلاء من زنازينهم وتخطوا كل قواعد النظام والاحترام وأعلنوا » جهادهم الخاص » للإطاحة بالإسيتقرار، وانقلبوا على حراسهم وعاقبوا بعضهم بالضرب والعنف ؟ وكيف فرض السجناء شريعة الاضطراب والاحتجاج العميق ولمدة زمنية طالت داخل باحات المؤسسة وفرضت تدخل فرق الأمن المختلفة بسلاحها وهراواتها ورصاصها وحضور النيابة العامة والسلطة المحلية وأجهزة الأمن السرية والعلنية….؟ لاشك بان الجدل سيثور في موضوع الانتفاضة خلفياتها وأسبابها و المسؤولين عنها، وهذا امر طبيعي جدا ، بل من المفروض طرح الموضوع ودراسته بموضوعية دون خضوع لحرارة الواقعة ونتائجها الظاهرة، لان الحدث سابقة من حيث حجمها و مكانها والمباشرين لها. ولمحاولة الجواب يمكن الانطلاق من فرضيات اعتقد بأنها ستقربنا من محاولة الفهم، ومنها: فرضية الاسْراف في الاعتراف بحقوق السجناء الاحداث و الغلو في حسن معاملتهم، حيث هناك من سيقول بان السجناء كانوا يعاملون معاملات جد حسنة من حيث ظروف الإقامة والاستمتاع بكل ما يعطيهم القانون، لدرجة ربت في عقولهم الشعور بنوع من القوة ومن النفوذ على الادارة وموظفيها، فقرروا الانقلاب عليهم وعلى مرونتهم وعلى لطفهم، حتى يظهروا ما يضمرونه من حقد على العقوبة نفسها وعلى نظام السجن وعلى القانون وعلى القضاء وأخير على المجتمع بكامله، بيد أنني أقول ومن الآن ورغم ما حدث، بأننا سنجني على أنفسنا قبل أن نجنى على نظامنا السجني لو صدقنا هذه الفرضية، لأنها ستذكرنا بذكريات مضللة أي بما راج في الوسط الأمني والقضائي يوم أدخلت تعديلات على المسطرة الجنائية سنة 2002 في اتجاة تقليص مدة الحراسة النظرية والإعتراف ببعض الضمانات للمشتبه فيهم ومنع تعذيبهم لانتزاع اعترافات منهم…وحينها قامت القيامة انطلاق ألسنة أعتبرت بأن هذه الحقوق ستحد من فعاليات واختصاصات الضابطة وستمنع الحصول على ابحاث تمهيدية كما يريدها البعض وسيستغلها المنحرفون لرفع درجات عدوانيتهم.. وسيصبح المغرب ساحة إجرام. . فرضية استعمال العنف من أجل مواجهة العنف، لأن هناك من سيقول كذلك بان السجناء الاحداث لم يكن من السهل عليهم الوصول لحالة من الغضب ومن التمرد ومن الفوضى هكذا بنَزقَ وخِفة وتهَور، لو لم تكن هذه أسباب قاسية عليهم يعيشون تحت لهيبها نفذ صبرهم أمامها ولم تكترث الادارة لقسوتها فاهملتها واستخفت بتداعياتها، فكان التمرد الذي فكر فيه السجناء ونفذوه هو جوابهم الخاص والطريقة القصوى التي يمكنهم بها أن يسمعوا صوتهم ويعلنوا غضبهم ويوجهوا رسائلهم ويفلتوا إليهم نظر السلطات العامة ونظر بالمندوبية العامة للسجون والسلطة القضائية والرأي العام والمجتمع المدني والسياسي والمؤسساتي. . فرضية المؤامرة والتدبير الخارجي للأحداث، حيث أن هناك من سيتحدث ويقول بأن حجم الاحداث وقوتها وعنفها من جهة، وعدد السجناء المشاركين في هذا الاحتجاج من جهة ثانية، والتقنية التي استعملها المتمردون أو المحتجون أو الغاضبون لتدبير عملية الخروج من الزنازين والسيطرة على مرافق المؤسسة وإفشال مقاومة الموظفين والحراس ورجال الأمن …الخ، كل ذلك وغيره أمر يفوق قدرات السجناء الداخلية ويتعدى ذكاءهم ولا يتناسب مع طاقاتهم الفكرية، وأن الانتفاضة بهذه المواصفات لا يمكن أن يتحقق نجاحها الظرفي من دون تدبير خارجي من قبل جهة ما من خارج المؤسسة السجنية تريد زعزعة وترويع حالة السجن لتصل إلى بث الرعب وإلى إفشال التوجهات السياسية الاستراتيجية التي تقودها المندوبية العامة للسجون في إطار جهود إصلاحات عميقة تهدف مصالحة السجون مع المجتمع ومع دولة القانون ومع معايير حقوق الانسان للقضاء على الشطط داخل السجن أو سوء التدبير المرفقي أو وقف سلوكات مشينة، ومع المندوبية طبعا في توجهاتهات شركاؤها من عدد من المنظمات الحقوقية وبدعم من المجلس الوطني لحقوقه الانسان ومن المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي التي تصنع مع المندوبية الأمل في مستقبل أحسن لحالة السجون… وهذا التحليل خطير كذلك لأنه يدفع للتشكك في فعالية نظام المؤسسات السجنية وفي يقظة أطرها وفي سذاجة مسؤوليها. ولن يؤثر هذه الفرضيات الأساسية، من أن تفتح النيابة العامة بالدار البيضاء تحقيقات وتطالب بمتابعات وإصدار أحكام ضد عدد من الفاعلين والمساهمين فيما حدث، فالجميع يترقب ذلك ومنطق العقاب عن ارتكاب الجريمة يقتضي ذلك، كما أن المندوبية العامة للسجون ستبحث من جهتها فيما جرى وستفوم بتحركاتها وتحرياتها وستؤدب من موظفيها من ستعتبره مسؤولا عن كل إهمال أو رعونة أو أخطاء وغيرها، ولكن هذا في اعتقادي غير كافي ولن يكون هو الحل الحقيقي. ومن هنا يُطرَح السؤال ما العمل اليوم؟ وماذا عسانا فاعلون بعد الأحداث الدامية المدهشة والخطيرة التي وقعت بسجن عكاشة للأحداث، وما هي الدروس التي علينا استخلاصها حتى نقول : لن يتكرر أبدا ما حصل بالأمس: اولا : علينا أن نسائل الاحكام القضائية وسياسة العقاب ودور النيابة العامة و قضاء الحكم، فهذه المؤسسات تواصل بكل أسف » تشجيع السجن » على غيره من البدائل غير الاحتجازية، وما دامت ثقافة الحبس والاعتقال هي الحاضرة في الممارسة اليومية بدءا من مراكز الشرطة ومرورا بالنيابة العامة وقضاء التحقيق وقضاء الحكم فلن يكتب أي نجاح لأية حلول وسنظل نرقع ونكذِب على من حولنا وعلى أنفسنا وسنكون نحن المتسببون في العمق فيما جرى وربما ما سيحدث من اضطرابات استقبالا إن لمتقف لتغيير منظورنا للعقاب. ثانيا: علينا أن نسائل فشل وفساد سياسة الاندماج وقصورها، وعلينا أن نطرح السؤال لا على المندوبية العامة فحسب بل على مؤسسة محمد السادس ووزارة العدل واللجن الإقليمية وعلى قضاة تنفيذ العقوبة، ونحاسبهم لماذا في سجن يضم أكثر من ثمان مائة نزيل انتفض العديد إن لم نقل الجميع، وأعلنوا الثورة ؟ إن الأحداث تطرح التساؤلات حول مفهوم الادماج، و تدبير الادماج، والمدبرون له من طل المتدخلين، ويؤكد في النهاية حقيقة أساسية لابد من الإفصاح عنها وهي أن المكاسب التي تحققت من خلال محاولات الادماج ليست بمكاسب واقعيا، وأنها لم يعط نتيجة حتى بنسبة ضئيلة لتبقى النتيجة أن الادماج شعار مزعوم ودعاية إعلامية فقط، وأن كل ما يصرف على محاولات الادماج هو هدر للمال العام ولو أنه دون قصد، لان نتائج محاولات الادماج غير مرضية بل إن مردودها كله عنف واضطراب وحرب داخل المؤسسة كادت لا قدر الله ان تصبح حربا تربك الدولة كلها، ومن هنا يحق التساؤل كذلك هل يوجد تصور حقيقي وسياسة حقيقية مرسومة لتعليم و تكوين مناسبين داخل المؤسسة يساعد على الإدماج، وهل هناك أطر متخصصة في هذا المجال تشرف على مجال الادماج، وهل هناك متابعة يومية ومراقبة دقيقة لبرامج الادماج، وهل هناك إمكانيات بشرية ومالية مخصصة لهذا القطاع؟ وأخيرا هل يمكن للسجن أن يشرف على الإدماج؟ ومن المؤكد ان هناك مجهودات في مجال محاولة الرقي بعملية وشروط الادماج، ولكنها محاولات تبث فشلها مع كل اسف مما يفرض على المدبرين له مؤسسات ووزارات وغيرهما تقديم الأسباب لهذا الفشل والإعلان عن عجزهم. ثالثا: علينا مساءلة الاكتظاظ، أي أن نستخلص من عدد يقارب الثمانين ألف سجين بسجون المغرب عامة، – ومن دون أن نجعل الاكتظاظ حصان طروادة – لنقول ماذا يعني تكديس المآت والآلاف من البشر في سجون وفي عنابر استعملت سابقا لعدد ضئيل للاستقبال وللائيواء ولا زالت تستعمل بنفس حجمها اليوم لاستقبال الأضعاف المضاعفة من النزلاء، ولنقول هل أن الاكتظاظ هو مسألة موضوعية مفروضة حقيقة على السجون أم هي مسألة مٌدبرة ومٌقررة بِقناعة ونوايا من قبل من يعنيهم الشأن العام والشأن الأمني والقضائي ؟ وهذا السؤال مشروع و نجد له مبرراتات ومؤشرات سواء من خلال رفض الدولة ومنذ عشرات السنين وضع تصور حديث وجديد للعقوبة وفلسفتها وترشيدها وتحديد الرغبة منها واستخلاص الدروس من فشل قطاع في اختياراتها، وهكذا ما دامت العقوبة كما تحددها المنظومة الجنائية لم تجن لها فعالية وتأثير على وقف ارتفاع الجريمة وتطورها وتوسع نطاقها أو على تقليص عدد المجرمين أو من على إدماج بعضهم أو على وقف زحف حالات العود أو على كبح جماح صناعة عصابات الاجرام من داخل المؤسسات السجنية … فإن هذا الوضع وهذه الاختيارات تعني أن هناك انهيار للمنظومة العقابية لم ترِد السياسات العمومية بل رفضت الاعتراف به وامتنعت من دراسته وبحث الحلول الحقيقية والمستعجلة له، بل حتى تصورات مسودة مشروع القانون الجنائي الذي طرحت تم توقيفها والسكوت عنه، ومن هنا يظهر عدم اكتراث الدولة و سلطاتها بقضية السجون وقررت تركها لمشاكلها وقررت ترك الفتنة تعُم وتتوسع لتأخذ كل الأبعاد الممكنه بما في ذلك التمرد والانتفاضات والإضرابات عن الطعام وما يكمل ذلك من فساد إداري ووظيفي، ولتترك المندوبية تتخبط وحدها وفي عزلتها وبقليل من الإمكانيات البشرية والمالية، مع ظروف قاهرة وأحيانا لا إنسانية يشتغل فيها أطرها داخل السجون في صمود البعض منهم ضد المغريات وضد الرشوة وضد مظاهر الفساد. علينا أن نبدع الحلول في حوار ونقاش مسؤول، وعلينا أن نبتعد عن تجارب سجون الولاياتالمتحدةالامريكية أو المكسيك أو تركيا أو غيرها، لكي لا يصبح سجن عكاشة السجن العاشر في قائمة افضح سجون العالم. إن ما يخيفنا اليوم كمجتمع وكمواطنين ليس فقط من أن تكرر مآسي إصلاحية عكاشة، ولكن خوفنا أن تعم ثقافة العصا الغليظة على النزلاء كخيار مفروض على المؤسسة ومسؤوليها أو رد فعل غاضب عليهم، خوفنا من فتاوى متطرفة تثير العنف بالمؤسسات السجينة من جديد أكثر من أن تهذب من العنف نفسه، خوفنا من أن تتوقف مبادرات و نوايا الإصلاح التي انطلقت، وأن يُرَوِجَ اصحاب لغة الخشب والمناهضون لقيم حقوق الانسان لخيارات الانتقام والكاشو والعزلة والترحيل المفرط، خزفنا من أن ينطلق العد العكسي للقضاء على ثقافة حقوق الانسان بالسجون وأن تتوقف عقاريب الساعة لتعلن رجوعها للخلف لتعلن لا قدر الله أنه لا كرامة للسجناء بعد اليوم ولا حقوق لهم ولن يقبل أحد أن يبعثوا في اليوم المعلوم مع البشر حتى لا يشفع لهم أحد … هذا مجرد تخوف لان السلوكات المتطرفة المقارنة مخيفة في التاريخ، إذ علينا الانتباه لمآسي وانتفاضات سجون الولاياتالمتحدةالامريكية بنيويورك 1971، سجون بورتو ريكو 1994، انتفاضة سجن ببوليفيا 2013، انتفاضة سجن مونتغومري بالمكسيك 2016، انتفاضة سجن سلا قبل بضع سنوات…. فهي مكلها وغبرها محطات في تاريخ العنف السجني علينا ان نحفظ ونحمي سجوننا من أن تسقط فيها أو تقترب منها، فمثل هذه الاستشهادات تساعدنا على النظر موضوعيا لما هو منتظر منا ولمساعدتنا على إيجاد جواب عن السؤال : ما العمل قبل وبعد المساءلة والمعاقبة على ما حدث؟ والاجدر في اعتقادي و الأولى، هو البدء بالإنصات للنزلاء الأحداث بالإصلاحية أنفسهم والتحدث اليهم والتحدث لأسرهم والاستماع لهموم الموظفين وأطر المؤسسة… أي عدم إهمال خيار الحوار والتواصل مع كل الأطراف ليكون الجميع على دراية بالحقائق، فهذا باب قوي نحو الحلول و الطريق السهل للوصول.