الساعة تقترب من منتصف النهار، الحادية عشر و50 دقيقة بالضبط، يتقدم شاب تختفي جزء من ملامحه وراء نظارته وقبعته الشمسيتين وعلى كتفه قيتار من الحجم المتوسط. ألقى آخر نظرة على عقارب ساعته اليدوية ثم اتجه صوب مقهى أركانة، وكلما دنت خطواته الا وتسارعت دقات قلبه. يصعد الدرج بخطوات لم يظهر عليها أي من علامات الارتباك. بدا كأي سائح قادم لتوه من أوروبا..
يجلس. يأخذ نفسا عميقا، ثوان قليلة، يطلب كأس عصير. يحتسي جرعة بسرعة علها تبل ريقه الجاف، وبسرعة يغادر تاركا حقيبته بالمقهى..
وما هي إلا لحظات حتى يٌسمع دوي تفجير جبان ودموي يهز ساحة جامع الفنا...
أشلاء هنا وهناك، صفير سيارات الاسعاف لم يتوقف، تطويق أمني مكثف، وحالة من الذعر تسري في نفوس الجميع. انفجار قنينة غاز بمقهى أركانة، أم عمل ارهابي يستهدف الأجانب؟ أم ماذا ..، كلمات ترددت حينها، دون أن يعرف أحد طريقه الى الجواب الصحيح. وأخيرا حضر وزير الداخلية مولاي الطيب الشرقاوي وكبار رجال الأمن بالمملكة، داخل ولاية مراكش، ليعيد التصريح الرسمي شريط أحداث 16 ماي 2003 إلى الأذهان:"إنها عملية إرهابية" راح ضحيتها قتلى مغاربة وأجانب: 17 شخصا، بينهم 8 فرنسيين، مغربيين، كنديين، بريطاني، سويسري، روسي، برتغالي وهولندي.
بالقرب من مقهى أركانة التي عجز غطاء أبيض عن إخفاء آثار الإرهاب، وقفتُ دقائق قليلة لأسترجع لحظات الرعب في الثامن والعشرين من هذا الشهر من السنة الماضية.
ففي مثل هذا اليوم أفسدت تفجيرات أركانة على مدينة مراكش ومعها كل المغرب هدوءه وتشبثه بحالة الاستثناء، التي تجعله بمعزل عن التهديدات الإرهابية.
اليوم بعد مرور سنة على هذه المأساة، دشن وزير العدل مصطفى الرميد والعديد من المسؤؤلين الحكوميين مغاربة وأجانب نصبا تذكاريا حمل أسماء الضحايا ال17 الذين قضوا في هذا الإعتداء، وغرسوا شجرة زيتون عنوانها لا للإرهاب ولا للكراهية بحديقة عرصة البيلك قرب ساحة جامع الفنا.
بعد مرورعام على نكسة أركانة، عدنا لساحة جامع الفنا، لنضيع بين حكواتيها وفنانيها، بين"النقاشات" وأصحاب العصير وال"كرابة"، نجوب ثنايا هذا التراث الشفوي الإنساني. نذوب "العمل الإرهابي" لم تندمل والجروح لازالت غائرة.
سألنا هنا وهناك، التقينا الزواروالتجار، الفرجويون وأرباب مطاعم، وإيجابتهم ترسم لوحة قاتمة عن ساحة الفرجة وعن المدينة الحمراء.
حسن أحد زوار الساحة يؤكد أنه من "الطبيعي أن يترك هذا العمل الإرهابي الشنيع حالة من الذعر لدى السياح الأجانب ما يجعل حضورهم داخل الساحة ضعيفا مقارنة مع ما كان عليه الحال قبل هذا التفجير".
بعد مرور سنة، لم تعد الحياة بعد إلى حيطان مقهى أركانة. فرغم انطلاق أشغال الترميم لمحو آثار الخراب، لا زالت أبوابها مقفلة، ولازال جرحها مفتوحا وقد عجز الغطاء الأبيض الذي يعلوها عن إخفائه.
هي أركانة، أو المقهى التي اختار أصحابها أن تتوسط ساحة جامع الفنا وأن تؤثث فوانيسها ليلا ساحة لها طابع السحر، إلى درجة أن المترددين عليها كان يحلو لهم أن يرتشفوا مشربواتهم وهم يطلون من شرفتها على الساحة وهم يتتبعون كل صغيرة وكبيرة في ساحة جامع الفنا.
الكساد تركنا مقهى أركانة الشامخة رغم ما طال أركانها من تدمير، لنجول وسط الساحة، وننغمس في أجوائها، صورة قاتمة بدأت ترسم أمام أعين زوار الساحة على قلتهم، وقبلهم فرجويوها من مروضي الثعابين وأصحاب الألعاب الفولكلورية وكذا "النقاشات" وغيرهم ممن يؤثثون هذه اللوحة. وبلغة الأرقام المشهد قاتم السواد: نسب الحجز في الفنادق بمراكش لا تتجاوز، بعد أحداث أركانة، ال20 بالمائة، بعد أن كانت في لحظات الشدة وبعيد الأزمة المالية العالمية تتجاوز هذا الرقم بكثير. أما بلغة "النقاشة" وبائعي أكواب الليمون وكل من يعيش من صخب الساحة وعلى اقتصادها، فإشاراتهم لا تزيد المشهد إلا قتامة. إلتقيناها، عجز الخمار الأسود في إخفاء حزنها، فعينيها الدامعتين تفضحان معاناتها.
فاطمة، وهو اسمها المستعار، لم تجد من كلمات تعيد بها شريط تفجيرات أركانة في الذكرى الأولى لحدوثها إلا تلك الممزوجة بالدموع، لاسيما وهي تلاحظ كيف قلّ عدد السياح الذين يجلسون على الكرسي الذي أعدته لاستقبالهم، ونادرا ما يستسلمون إلى حقنتها لتخضب أذرعهم أو أيديهم بالحناء:"الله يلعن اللي كان السبب. يا ربي تنتقم من الإرهابيين. محال واش ترجع الأيام القديمة..كنا تانترزقو في الساحة وحامدين الله تانصورو مصروف اليوم، لكن من بعد تفجير أركانة قلالو السياح الأجانب..مابقاوش تايجيو بزاف باش ننقشوا ليهم..بحال الا ولاو مفتونين..معندهومش الثقة يجلسوا على الكرسي وننقشوا ليهم على خاطرهم دراعهم أو ايديهم..".
غير بعيد عن فاطمة "النقاشة"، لا تختلف لغة مروض القروض عن لغة فاطمة:"واش هاذ جوج ريال هي لي بغات تعيشنا كلنا؟" ثم يضيف:"راه داكشي لي تانصوروه، مرة يقدنا حنا وماكلة لقرودة ومرات ما يقدناش"
اقتربنا من أصحاب بعض المأكولات الشعبية، فإذا بهم يشتكون من تراجع عدد حافلات السياح المتوافدة على ساحة جامع الفنا، وندرة المرشدين السياحيين الذين يجلبون السياح لتناول الوجبات في مطاعمهم المفتوحة على الهواء، وحسب أغلبهم، فقد بات السائح يفضل تناول وجباته في المطاعم، أي بعيدا عن ساحة جامع الفنا التي ارتبطت في مخيال بعضهم بتفجيرات أركانة!
وأنت تتجول داخل ساحة جامع لفنا، لابد وأن تلحظ بعض المشاهد التي لا تزيد الساحة إلا كسادا. "كلينيكس..كلينيكس..كارو.. كارو.. خويا شري من عندي مسكةMonsieur donne moi un dirham" هذا ما يردده أطفال في مقتبل العمر داخل الساحة، إنها زهور تذبل يوميا وتزعج السياح في غفلة من القائمين على الشأن السياحي بمدينة سبعة رجال.
إنهم أطفال عوض أن يلتحقوا بفصول الدراسة أو بمراكز اجتماعية لإعادة تربيتهم وإدماجهم في المجتمع تراهم هنا وهناك بالساحة، حتى أضحوا جزءا من سينوغرافيتها تؤثر بشكل سلبي على جماليتها. تصرح سعاد إحدى زائرات الساحة ل"فبراير.كوم":"البعض من السياح يصدم بكثرة الأطفال المشردين، خاصة أنهم يضايقونهم أثناء تناولهم إحدى الوجبات أو أثناء التبضع".
تركنا الساحة إحدى الواجهات الأساسية لمراكش ورمزها السياحي والثقافي، بعد مرور سنة على تفجيرات أركانة، لا السياح عادوا كما كانوا ولا ساحة الفنا استرجعت بريقها، ولا هي أعادت للمدينة الحمراء توهجها وروح النكتة وشغف الانصات للحكاية بعد أن خطفها منها الإرهاب.