يظل عبدلله العروي في استجوابه الأخير مع مجلة "زمان" وفيا للحقيقة والعلم والوطن. يقول أن العالم قد تغير وكان علي أن آخد بعين الاعتبار هذا التغيير مع الاحتفاظ بطريقتي في التفكير. يقول لقد كانت نسبة الامية في الستينات 70 % وباتت 30% بعد أربعين سنة. في الزمن الأول كان البلد يبدو متجانسا ومستقرا وكان من الممكن تجنيده وراء أفكار ومٌثل حتى وإن كانت "يوتوبية"، وفي الزمن الثاني بعد انخفاض نسبة الامية وارتفاع نسبة التحضر أصبحت الشعوب أكثر وعيا بحقوقها واختلافاتها وظهرت نخب مختلفة، ويضيف إنه من الوهم الخلط بين تجانس نخبة سائدة والشعب.
ويأتي العروي هنا بفكرة المغرب العربي كمثال، فبالنسبة له إذا كانت هاته الفكرة شعبية لدى نخب الستينات، فمن الخطأ إسقاط ذلك على الحاضر. من يستطيع أن يحسم اليوم أن لفكرة المغرب العربي شعبية في أي قطر مغربي؟ إن العروي يطرح هنا أسئلة عميقة حول التحولات الديمغرافية والعمرانية والحضرية والثقافية التي عرفها العالم العربي، بحيث هناك فجوة بين النخب التقليدية والحكم من جهة والمجتمع من جهة أخرى. أليس هذا من بين أسباب إنتفاضات العالم العربي؟ لكن يظل السؤال الرئيسي هو كيف السبيل إلى المشروع الذي من شأنه التمهيد لإفراز عقد اجتماعي جديد؟ إذا تساءلنا عن الفرق بين الملكية الدستورية كما يطرحها العروي والملكية البرلمانية التي يطرحها البعض سنجد أن العروي ينطلق من السوسيولوجيا والتاريخ، بينما يرغب الآخرون في تقليد تاريخ الانجليز دون الأخذ بالمعطيات السوسيولوجية التاريخية.
إن النظام حيث يسيطر البرلمان غير ملائم للعالم العربي، ففي مصر وتونس والمغرب سيقوي التقليد الذي لا زال متجذرا وستفرز الانتخابات غلبة القوى المحافظة، بل سيفتح الباب في بلدان أخرى أمام قوى الطائفة والقبيلة كما في سوريا واليمن وكما حدث في العراق.
التعبير الذي يستعمله العروي، أي الملكية الدستورية، أعمق، لأنه يقترح الملكية الحامية للتحديث السياسي ضد التقليدويين والمحافظين. قد نختلف مع العروي في بعض التفاصيل، لكن هذا لا ينفي انتحارية أولائك الجد متياسرين وأحيانا متيامنين الذين يريدون نظاما برلمانيا لم تتحمله فرنسا بتقدمها الصناعي وحداثتها الثقافية وتبنت نظاما رئاسيا، وما يطرحه العروي عن تأخر المجتمع التاريخي أثبتثه الأحداث إلا لمن وضع على عينه قشرة الشعبوية.
لكن، مع هذا أعترف أن موقف العروي يحيرني قليلا، فهو يعتقد أن اضمحلال الأمية وارتفاع نسبة التحضر ومستوى التعليم، أديا إلى نضج المجتمع وظهور وعي بالحقوق وتحركات نسوية ومطالب هوياتية، وفي نفس الآن يؤكد إنه لا يؤمن في الوقت الحالي بقوة المجتمع، ويردد مع هيغل أن الدولة هي العقل، وأن الدولة منذ بداية العصر الحديث في المغرب كانت أكثر تقدما من المجتمع.
وهنا قد نجد بصمات جدل هيغيلي ونفس ماكيافلي، لكن يبقى التساؤل مطروحا حول كيفية الجمع بين الحدين؟ أفكار العروي تطرح أيضا سؤال المشروعية، إذ أنها تستعيد مقولة المستبد العادل المعوضة بالمستبد الحداثي، لكن أليس من شأن هذا أن يعمق الهوة بين الدولة والمجتمع؟ إذا كانت القوى الحداثية لا تملك نفس رصيد قوى التقليد لدى المجتمع، فما الذي يمنحها المشروعية لفرض توجهاتها على المجتمع؟ ثم إن هناك سؤال الدولة:هل نستطيع أن نؤكد أن مسألة حداثة الدولة قد حسمت؟ ألا تتأرجح الدولة بين السلطانية التراثية والعصرية؟ ألا يتأرجح تأويل الدستور نفسه داخل الدولة دائما بين التأويل التقليداني والعصري؟ على أي لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر أن الثقافة المخزنية لا توجد فقط في الدولة، لأنها مترسخة في المجتمع إلى جانب ثقافة الزاوية والقبيلة. إذن فالعلاقة بين الدولة والمجتمع ومواضيع الدولة والإصلاح والمجتمع والتقليد والثقافة الأم كما كتب العروي، في حاجة إلى مراجعة، بما في ذلك منطق الشيخ والزعيم والخليفة وداعية التقنية تحتاج إلى العودة إلى المجال العام لتجديد منظومة الحلول والبدائل ولتلتقي روح 20 فبراير مع فكر العروي، حيث أن جل محاولات المطالبة بالإصلاح الأخيرة تغلب عليها الحماسة وينقصها العقل والمشروع والفكر.