كان هناك رجل يهودى فقير كثير العيال، يعيش فى ضنك لدرجة أنه كان ينام مع زوجته وأولاده العشرة فى حجرتين، ولما زادت معاناته ذهب إلى الحاخام وقال: - لم أعد أحتمل بؤس حياتى.. صلّ من أجلى أيها الحاخام وقل لى ماذا أصنع؟! استمع إليه الحاخام بهدوء وطلب رؤيته فى اليوم التالى، ولما جاء وجد الحاخام ممسكاً بخنزير وقال له: - إن الله يطلب منك أن تأخذ هذا الخنزير ليعيش مع أسرتك. أصيب الرجل بالذهول، فالخنزير حيوان نجس فى الديانة اليهودية، كما أن بيته قد ضاق بأولاده فكيف يضيف إليهم خنزيراً؟! حاول الرجل التملص من اصطحاب الخنزير ولكن عبثاً، فقد أكد له الحاخام أن هذه إرادة الله التى لا راد لها. استسلم الرجل واصطحب الخنزير إلى بيته فتحولت حياته إلى جحيم، صال الخنزير وجال فى البيت وحطم الأثاث وتبرز وفاحت رائحته البشعة فى كل مكان. بعد أسبوع استغاث الرجل بالحاخام لكى يخلصه من الخنزير، لكنه رفض بحزم. مرّ أسبوع آخر وجاء الرجل إلى الحاخام فقبّل يديه وبكى بحرارة، وقال: - أيها الحاخام، ارحمنى. رائحة الخنزير لا تطاق، وقد تحطم الأثاث جميعاً ونحن عاجزون عن الحياة فى البيت بسبب الخنزير. عندئذٍ سمح له الحاخام بالتخلص من الخنزير. مرّ أسبوع وظهر الرجل، ولما سأله الحاخام عن حاله ابتسم وقال: - الحمد لله، أنا صحيح أعيش مع أولادى العشرة فى حجرتين ونحن فقراء للغاية لكننا نعيش فى نعمة بعد أن تخلصنا من الخنزير. هذه الحكاية المعروفة تُستعمل عادة للتدليل على أن الإنسان يجب ألا يتذمر من أحواله السيئة لأنها يمكن أن تكون أسوأ بكثير، لكننى كلما قرأتها تساءلت: لماذا كان قدر الرجل فى الحكاية أن يختار بين الفقر والحياة مع خنزير؟! ما الذى فرض عليه أن يختار بين السيئ والأسوأ؟! أليس من حق هذا الرجل أن يعيش حياة آدمية مع أسرته فى مكان مناسب؟!.. حكاية الحاخام والخنزير تمثل حالتنا فى مصر الآن.. عندما قامت ثورة 25 يناير اشترك فيها ملايين المصريين ودفعوا ثمناً باهظاً من دمائهم حتى تمكنوا من خلع «مبارك» من السلطة. عندئذٍ سادت حالة من التفاؤل وأحس المصريون بأنهم يبدأون عهداً جديداً يتخلصون فيه من الظلم والاستبداد، ويحققون العدالة والحياة الكريمة، لكن الأمور بعد عامين تدهورت بشدة إلى الأسوأ: انفلات أمنى وغلاء وبطالة وفوضى فى كل مكان لدرجة دفعت مصريين كثيرين إلى الحنين إلى نظام مبارك الفاسد الظالم، تماماً كما حنّ الرجل اليهودى فى الحكاية إلى حياته البائسة قبل وصول الخنزير إلى بيته.. إن تردى أحوال المصريين بعد الثورة هو غالباً ما دفع مبارك إلى الابتسام فى الجلسة الأولى من إعادة محاكمته، كان يبدو واثقاً راضياً تماماً عن نفسه، وراح يحيى أنصاره وكأنه مرشح رئاسى.. بدا «مبارك» وكأنما يقول للمصريين: - لقد ثرتم ضدى وأرغمتمونى على ترك السلطة فماذا أخذتم من الثورة إلا الفوضى والبؤس؟! إذا كان حكمى سيئاً فها أنتم ترون أن حكم الإخوان أسوأ بكثير. إن «مبارك» يعتبر نفسه بطلاً قومياً، ويؤمن بأنه أدى لوطنه إنجازات كبرى، وهو لا يشعر إطلاقاً بفساد نظامه وجرائمه التى أدت بمصر إلى الحضيض فى كل المجالات. هذه الحالة من خداع النفس تكررت دائماً عبر التاريخ مع الحكام المستبدين جميعاً. الطاغية يعيش فى حالة تبرير لجرائمه غارقاً فى أفكار تعكس تصوراً مزيفاً عن العالم. إن الأفكار التى أسست لنظام مبارك، مع تردى الأحوال وانتشار الإحباط، بدأت للأسف تنتشر بين بعض المصريين، ولعله من المفيد أن نناقشها: أولاً: يعتقد حسنى مبارك أن الشعب المصرى لا يصلح لممارسة الديمقراطية، وبالتالى على المصريين دائماً أن يختاروا بين الاستبداد والفوضى. هذه الفكرة، التى طالما استُعملت لتبرير تزوير الانتخابات وقمع المعارضين، لا أساس لها، كما أنها تنم عن جهل قائلها، فالمصريون قد بدأوا ممارسة الديمقراطية مبكراً، ومنذ 1923 حتى قيام ثورة 1952 لم تجر أى انتخابات نزيهة إلا اكتسحها حزب الوفد الذى كان آنذاك يمثل إرادة الشعب، معنى ذلك أن الفلاحين البسطاء كانوا يصوّتون ضد ملّاك الأراضى، وأن صغار الموظفين كانوا يصوّتون ضد كبار المسؤولين.. لعلنا نذكر الأعداد الضخمة من المصريين الذين اشتركوا فى استفتاء مارس 2011، ولا ننسى وقوف ملايين المصريين (خصوصاً النساء) فى طوابير الاستفتاء الأخير ليرفضوا الدستور الباطل الذى فرضه علينا الإخوان.. لم يحدث فى تاريخنا أن تخلف الشعب عن أداء واجبه بشرط أن يشعر بجدية الانتخابات، أما الفوضى التى نعانى منها فهى متعمدة صنعها نظام مبارك الذى مازال فى السلطة.. لقد استبقى المجلس العسكرى أجهزة الشرطة القمعية، ثم جاء الإخوان فتحالفوا معها ضد الشعب ومازال كثيرون من ضباط الشرطة يمتنعون عن استعادة الأمن حتى يعاقبوا المصريين على قيامهم بالثورة. ثانياً: يعتقد «مبارك» أن الكرامة والحرية وغيرهما من المعانى ليست إلا شعارات فارغة طالما سخر منها، لأنه يرى غاية المصرى أن يأكل ويشرب ويعمل ليكسب نقوداً يربى بها عياله. لقد أثبتت الثورة المصرية فساد هذه الفكرة، فقد نزل إلى الشوارع عشرون مليون مصرى، وقدموا أرواحهم من أجل الحرية والكرامة، بل إن معظم شبان الثورة الذين استشهدوا أو أصيبوا كان بإمكانهم أن يحصلوا على عقود عمل فى دول الخليج حيث يقضون سنوات ويعودون بالثروة. كان بإمكانهم أن يبحثوا عن حل فردى لأزمتهم، لكنهم قرروا أن يغيروا مصر كلها، أى أنهم فضّلوا الثورة على الحياة الآمنة الذليلة. ثالثاً: يعتقد «مبارك» أن مبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون تصلح فى البلاد الغربية ولا تصلح فى مصر لأن لها خصوصية ثقافية تجعل علاقة المواطن بالسلطة مختلفة عن المواطن الغربى. هذا المنطق كان يُستعمل أيام «مبارك» لتبرير القمع ضد المصريين، وللأسف تسربت هذه الثقافة من قمة النظام إلى المستويات الأدنى من السلطة التنفيذية. ضباط شرطة كثيرون يعتقدون أن هناك أنواعاً من المصريين (مثل البلطجية والمعارضين السياسيين) لا ينفع معها إلا القمع والتعذيب.. هذه الفكرة الإجرامية خاطئة بالطبع ولا تستحق حتى المناقشة، فحق الإنسان فى المعاملة الآدمية لا علاقة له بما يرتكبه من جرائم ولا يتغير أبداً من بلد إلى بلد. هنا قد يردّ «مبارك» وأنصاره بأن قمع المصريين استمرّ بعد خلع «مبارك» مما يدل على أن السلطة فى مصر مضطرة إلى قمع المواطنين حتى تسيطر عليهم. صحيح أن المجلس العسكرى مسؤول عن مذابح عديدة تم خلالها قتل المواطنين وتعذيبهم، كما أن الشرطة فى عهد الإخوان قتلت مائة شهيد، وقامت بتعذيب آلاف المواطنين. لكن استمرار القمع بعد تنحى «مبارك» لا يدل على أنه ممارسة ضرورية لحكم المصريين وإنما يدل على أن نظام «مبارك» لم يسقط بعد. رابعاً: يعتقد «مبارك» أن نظامه، رغم عيوبه، كان العائق الأخير أمام وصول الإخوان إلى السلطة. هذه الفكرة كان «مبارك» ينشرها خارج مصر وداخلها حتى يتقبل العالم أجمع نظامه الاستبدادى الفاسد كبديل أقل سوءاً من وصول الإخوان إلى الحكم. وكأن الله قد كتب على المصريين أن يظلوا إلى الأبد بين مطرقة العسكر وسندان الإخوان، وقدّر عليهم دائماً أن ينحصر اختيارهم بين الفاشية العسكرية والفاشية الدينية. هذه أيضاً مغالطة كبرى.. لأن تزايد نفوذ الإخوان وتأثيرهم قد جاءا نتيجة تقييد الحريات السياسية فى عهد «مبارك».. فى عام 1950 كان الإخوان المسلمون فى أوج قوتهم، وكانوا قبل ذلك بعام قد اغتالوا رئيس وزراء مصر محمود فهمى النقراشى، ورغم ذلك ما إن أجريت انتخابات نزيهة حتى اكتسحها حزب الوفد كالعادة، ففاز بأكثر من 90 فى المائة من المقاعد. لم يحمنا نظام «مبارك» من التطرف بل هو الذى صنعه. إن الاستبداد لا يمنع التطرف وإنما يساعد على انتشاره، كما أن علاقة الإخوان بنظام «مبارك» لم تكن دائماً صراعاً بل تخللتها فترات كثيرة من الهدنة والصفقات. هنا يضيق المجال عن التصريحات والمواقف الموثقة لقيادات الإخوان التى أعربوا فيها عن تقديرهم ل«مبارك» باعتباره والد المصريين ورمز الوطن. لقد كان وصول الإخوان للحكم خطوة ضرورية، تجربة مؤسفة لكن لا مفر من اجتيازها حتى يتعلم المصريون كيف يفصلون بين الدين ومن يتاجر به. كان لابد للمصريين أن يجربوا كذب الإخوان وتصرفاتهم البعيدة تماماً عن أخلاق الدين حتى يفهموهم إلى الأبد.. ها هو الشعب الذى انتخب الإخوان فى البرلمان يسقطهم فى انتخابات اتحادات الطلاب والنقابات المهنية، والبقية تأتى. لم يكن نظام «مبارك» يحمينا من الإخوان بل كان يمكّنهم منا، ولولا استبداد «مبارك» لما انتشر نفوذ الإخوان ولما وصلوا إلى الحكم.. ليس هناك إذن سبب حتى يشمت «مبارك» بالمصريين. إن الثورة التى صنعناها أكدت أن بلادنا مازالت حية، وأنه لايزال بمقدورنا أن نطالب بالحرية والكرامة. لم يخطئ المصريون عندما خلعوا «مبارك» لكنهم أخطأوا عندما تركوا نظام «مبارك» فى السلطة. أخطأوا عندما طلبوا تحقيق أهداف الثورة من المجلس العسكرى، ونسوا أنه مكون من تلاميذ «مبارك». أخطأ المصريون عندما وثقوا بالإخوان وتوقعوا من «مرسى» تحقيق أهداف الثورة، وسرعان ما اكتشفوا أنه ليس إلا مندوباً للإخوان فى الرئاسة، وأن الإخوان يريدون أن ينفذوا خطة تمكنهم من السيطرة على الدولة إلى الأبد. أخطأ المصريون لكنهم سرعان ما تعلموا من أخطائهم. إن الثورة ليست لحظة وإنما مرحلة فى تاريخ الشعب. الثورة تغير إنسانى إذا حدث لا يمكن التراجع عنه. الذين صنعوا الثورة وقدموا التضحيات ثمناً للحرية يرفضون استبداد الإخوان الآن كما رفضوا استبداد «مبارك». لا يجوز أن ينحصر اختيار المصريين بين العسكر والإخوان. لا يجب أن نفكر مثل الرجل اليهودى فى الحكاية فنقبل السيئ هرباً من الأسوأ .الثورة حلم لن نتنازل عنه حتى يتحقق. لابد من استمرار الضغط السلمى حتى نرغم الإخوان على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهو مطلب ديمقراطى مشروع. الثورة مستمرة بإذن الله حتى تحقق أهدافها جميعاً، وعندئذٍ لن يجد «مبارك» سبباً للابتسام. الديمقراطية هى الحل