افترض أن لديك شقة مفروشة تؤجرها وتستعين بإيرادها على أعباء الحياة. ذات يوم جاء إليك رجل متدين ملتح يطلب استئجار الشقة فكتبت معه عقداً لمدة أربع سنوات.. تسلم المستأجر الشقة، وبعد أيام فوجئت بأنه استولى على الأثاث الفاخر الذى تملكه، وقام بتوزيعه على أقاربه، كما أنه هدم حوائط الشقة وأعاد بناءها ليغير من تصميمها الداخلى. ستغضب لأن المستأجر خالف شروط العقد، ولأن ما يفعله يدل على أنه يخطط للاستيلاء على شقتك والبقاء فيها إلى الأبد. افترض أنك ذهبت إلى محاميك وأرسلت إنذاراً بالطرد إلى المستأجر لأنه خالف العقد، لكنك فوجئت بأن المستأجر يرسل إليك صورة من عقد مزور لم توقعه يسمح له بأن يفعل ما يشاء فى شقتك. هنا ستدرك أنك وقعت، لسوء حظك، فى مستأجر كاذب يسعى للاستيلاء على شقتك بأى طريقة. عندئذ سوف تصر على خروجه من شقتك فوراً، لكنه سيلجأ إلى العنف. عندما ذهب أصدقاؤك لإقناع المستأجر بترك الشقة خرج عليهم بلطجية أطلقوا الرصاص فقتلوا بعضهم. المستأجر الكاذب المزور الآن تحول إلى قاتل. لا يمكن أن تكتفى بطرده من شقتك، بل ستطالب بمحاكمته بتهمة قتل الأبرياء. الغريب أن المستأجر بعد أن ارتكب كل هذه الجرائم سيبعث إليك بمن يدعوك للحوار معه وهو يحاول إغراءك بأن يزيد الإيجار بضعة جنيهات. إن الحق واضح قاطع فى صفك ضد المستأجر القاتل الكاذب لكنه، للأسف، يتظاهر بالورع ويصلى فى المسجد مع زملاء له ملتحين يتعصبون له بشدة. هؤلاء يدافعون عنه بالحق وبالباطل ويبررون كل جرائمه. تدور بينك وبينهم حوارات عجيبة. يقول لك أحدهم مثلا: - لماذا تكره الإسلام إلى هذا الحد؟! فترد عليه قائلا: - كيف أكره الإسلام وأنا مسلم؟! - أنت تريد طرد صاحبنا من شقتك لمجرد أنه مسلم ملتزم. - لو أننى أعاديه لأنه ملتزم، كما تقول، لما وافقت على تأجيره الشقة من الأساس. ثم إن صاحبكم هذا ليس ملتزماً بالدين ولا يحزنون. وإنما هو شخص كذاب يقول دائما ما لا يفعله وينكث عهوده جميعا. كما أنه قاتل مسؤول عن أرواح كثيرة أزهقت ظلما. - حتى لو كان ذلك صحيحا، فإنك لو طالبت بطرده من شقتك تكون ضد الشرعية. من حقه أن يفعل ما يشاء فيك لمدة أربع سنوات. - ليس معنى توقيعى معه عقداً لم يحترمه أن أتركه يقتل من يشاء. شرعية أى عقد مشروطة باحترام بنوده، وصاحبكم قد انتهك القانون وزوّر عقداً آخر باسمى، كما أنه قتل أبرياء ولابد من محاكمته. - يا ساتر. ما كل هذا الحقد على الإسلام الذى يأكل قلبك؟! - أنا سأطرد صاحبكم لأنه قتل وكذب وغش ونكث وعوده، وليس لأنه ملتح منتظم فى الصلاة. - لماذا ترفض دعوة الحوار مع صاحبنا؟! - كيف أجلس للحوار مع صاحبكم، وأنا أطالب بمحاكمته؟.. ثم ماذا نقول فى الحوار وكل ما أطلبه الآن أن يترك الشقة فورا؟ - ولماذا ترفض زيادة الإيجار التى يعرضها عليك؟! - لأننى لو قبلت زيادة الإيجار، معنى ذلك أننى أعترف بالأمر الواقع الذى فرضه صاحبكم بالكذب والقتل. لن أتغاضى عن حقوق الشهداء الذين قتلهم مقابل بضعة جنيهات زيادة. - أنت ترفض الحوار والصلح. أنت قطعا ممول من الخارج لإثارة الفتن. هل أنت عميل للكنيسة أم للصهيونية العالمية؟! - لست عميلا لأحد، لكنى أطالب بحقوقى. - الإسلام قادم رغم أنفك. سيكون المسلمون أساتذة العالم كله وسوف ترى. مُت بغيظك. ■ ■ ■ هذه القصة المتخيلة تبرز تناقضات الوضع فى مصر الآن.. لقد انتخب المصريون محمد مرسى، وفقاً للقانون، لكنه استأثر بالحكم مع جماعته، وعين نائبا عاما تابعا له، ووضع نفسه وقراراته فوق القانون، وحصّن اللجنة التأسيسية الباطلة ومجلس الشورى الباطل، ثم فرض على المصريين دستورا لا يعبر عنهم، ثم سمح بقتل عشرات المتظاهرين بخلاف مئات الأبرياء الذين تم تعذيبهم بطرق بشعة، بدءاً من الصعق بالكهرباء، حتى هتك أعراض الرجال واغتصابهم. المسؤول الأول، جنائيا وسياسيا، عن كل هذه الجرائم هو محمد مرسى. لقد فقد هذا الرئيس شرعيته بالإعلان الدستورى الذى يدهس به القانون، فقد شرعيته عندما سقط الشهداء برصاص الشرطة التابعة له. تسقط شرعية الرئيس «حتى لو كان منتخباً» بمجرد أن يعطل القانون ويقتل مواطنيه. المظاهرات تعم مصر الآن لتطالب بإسقاط الدستور الباطل الذى فرضه الإخوان على الشعب، وكتابة دستور يعبر عن إرادة الشعب، ثم إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.. من حق مرسى، عندئذ، لو أراد، أن يترشح لمنصب الرئاسة من جديد، لكن بعد محاكمته على قتل وتعذيب المصريين. إسقاط الدستور وانتخابات رئاسية مبكرة وإقالة النائب العام ومحاكمة القتلة.. هذه مطالب ثورية واضحة لا يجوز الالتفاف عليها أو القبول بنصفها دون نصفها.. التاريخ يعلمنا أن القبول بأنصاف الحلول يقضى على أى ثورة. فى وقت الثورة لا يجوز أن نمارس السياسة. السياسة والثورة نقيضان لا يجتمعان. السياسة مصالح والثورة مبادئ. السياسة فن الممكن والثورة حلم بالمستحيل. السياسة تحافظ على النظام القائم وتستعمله لخدمة مصالحها، والثورة تنسف النظام الفاسد من أساسه لتبنى مكانه نظاما عادلا. لقد انتصرت الثورة المصرية خلال 18 يوما، لأنها حافظت على الحلم ولم تستبدل به الأمر الواقع. انتصرت لأنها طالبت برحيل مبارك، ولم تقبل أنصاف الحلول التى عرضها مبارك، ورفضت التفاوض معه أساسا. الحل الوسط يعنى نهاية الثورة.. فى تاريخ مصر لحظات كانت تمثل فرصا حقيقية لبناء الديمقراطية لو تصرف من عاشوها بطريقة ثورية، لكنهم تصرفوا بمرونة سياسية كانت كفيلة بالقضاء على الفرص المتاحة. عندما نجحت ثورة 1919 وأجبرت بريطانيا على الاعتراف باستقلال مصر، وحان وقت كتابة أول دستور بعد الثورة. طالب حزب الثورة «الوفد» بأن تكون اللجنة التأسيسية للدستور منتخبة، ورفض الملك فؤاد لأنه يعرف أن اللجنة الوفدية المنتخبة سوف تقلص من صلاحيات الملك. عين الملك فؤاد لجنة لكتابة الدستور، وكان بإمكان سعد زغلول أن يحشد المصريين ضد هذه اللجنة المعينة ويسقطها، ثم يرغم الملك على الاستجابة لمطلب الثورة لكن الزعيم، لسبب ما، آثر المرونة السياسية على الموقف الثورى، فاكتفى بإدانة اللجنة المعينة وسماها «لجنة الأشقياء». أصدرت هذه اللجنة «دستور 23»، الذى وضعت فيه مادة تبيح للملك تغيير الحكومة وحل البرلمان، وكانت النتيجة أن تم تفريغ الديمقراطية المصرية من محتواها لمدة ثلاثين عاما حكم خلالها حزب الأغلبية أقل من سبع سنوات. مثل آخر عندما قرر جمال عبدالناصر إلغاء الديمقراطية. كان حزب الوفد آنذاك مازال محتفظا بجماهيريته وقواعده فى كل أنحاء مصر، وكان مصطفى النحاس، زعيم الوفد، قادرا تماما على حشد الجماهير للدفاع عن الديمقراطية، لكن الزعيم النحاس مرة أخرى فضل المرونة السياسية على الفعل الثورى، فانسحب ولزم بيته، وظل يتفرج على عبدالناصر وهو يبنى نظاما استبداديا أفضى بمصر إلى كوارث مازلنا ندفع ثمنها إلى الآن «مع احترامى لوطنية عبدالناصر وإخلاصه». واقعة ثالثة ضيعت علينا فيها المرونة السياسية فرصة الإصلاح: فى سبتمبر عام 1981 أصدر أنور السادات قرارا باعتقال نحو ألف وخمسمائة من المعارضين لسياساته، وبعد ذلك بأسابيع اغتيل أنور السادات وتولى مبارك الرئاسة فأفرج عن معتقلى سبتمبر، واجتمع بهم بعد الإفراج عنهم فى قصر العروبة. كانت هذه لحظة فارقة. معظم هؤلاء المعتقلين أسماء كبيرة لها تاريخ نضالى وقيمة وطنية كبرى، لو كانوا أصروا، فى لقائهم بمبارك، على تنفيذ إصلاحات ديمقراطية حقيقية، لو أنهم رفضوا الإفراج عنهم إلا بعد تأسيس ديمقراطية حقيقية. لو حدث ذلك لاستجاب لهم مبارك غالبا لأن الظروف آنذاك لم تكن تسمح له بالاستبداد بعد اغتيال السادات. على أن هؤلاء المفرج عنهم، مع احترامى الكامل لهم، فضلوا المرونة السياسية على الموقف الثورى، فاجتمعوا بالرئيس مبارك اجتماعا لطيفا ظريفا اعتذر لهم أثناءه عن اعتقالهم، فشكروه بحرارة وتمنوا له التوفيق ثم انصرفوا إلى منازلهم آمنين.. مثل هذه الأمثلة فى تاريخنا بلا حصر. تأتى لحظة حاسمة تحتاج إلى موقف ثورى، فيتعامل معها من يعيشها بمرونة سياسية فى غير موضعها، وهكذا تضيع علينا فرصة تلو الأخرى. نحن الآن نمر بلحظة مماثلة. لقد أعاد الإخوان ترتيب الدولة بطريقة تبقيهم فى السلطة الى الأبد، وعذبوا الأبرياء وقتلوهم وهتكوا الأعراض ودهسوا القانون، ثم بعد أن أخذوا كل ما أرادوه من الثورة يبحثون الآن عن غطاء سياسى لجرائمهم. يريدون حوارات أمام الكاميرات ومعارضة شكلية فى البرلمان. أخشى أن يستدرج قادة جبهة الإنقاذ إلى هذا الفخ. أتحدث عن شخصيات كبيرة يحترمها الجميع كان لها دور مهم فى الثورة، لكنها الآن تتعرض لضغوط داخلية وخارجية، وأخاف أن تنصاع لها فتمارس المرونة السياسية بدلا من موقف ثورى قاطع. إن القبول بالحوار مع مرسى قبل محاكمته على القتل والتعذيب ليس إلا خذلاناً للثورة وتخلياً عن حقوق الشهداء. القبول بدخول انتخابات مجلس الشعب بقانون أصدره مجلس شورى باطل، بناء على دستور باطل، إنما يكرس الوضع الدستورى الباطل الذى فرضه علينا الإخوان.. من يقبل بانتخابات مجلس الشعب سيكسب بضعة مقاعد، لكنه سيضيع أهداف الثورة، ويساعد الإخوان على تغطية جرائمهم... أى انتخابات هذه والسلطة التى تجريها تابعة لجماعة غير شرعية لا تخضع للقانون؟.. أى انتخابات هذه والإخوان والسلفيون ينفقون ملايين الجنيهات لشراء أصوات الفقراء، ونحن لا نعرف شيئا عن ميزانياتهم ومصادر تمويلهم؟.. أى انتخابات والشرطة تقتل المصريين فى الشوارع كأنهم حشرات لا معنى ولا قيمة لحياتهم؟.. إننى أتوجه إلى أصدقائى فى جبهة الإنقاذ بسؤال واحد: هل نريد الدولة الديمقراطية التى قامت من أجلها الثورة ومات من أجلها الشهداء، أم نريد بضعة مقاعد فى البرلمان يمنحها الإخوان لنا من قبيل الإحسان؟.. من يقبل بالحلول الوسط الآن يخذل المصريين ويساعد الإخوان على إجهاض الثورة والاستبداد بحكم مصر إلى الأبد.. الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها جميعا. الديمقراطية هى الحل.