استعر لهيب ثورات الشعوب في المنطقة العربية مؤخرا ضد أنظمة الظلم والاستبداد، بشكل مفاجئ وسريع لم يتوقعه أحصف الخبراء والمتابعين السياسيين، ونالت دول شمال أفريقيا حظا وافرا من مظاهر الاحتجاج والثورة، ووصل سيل الثورة الجارف بلدانا كان يعتقد أنها في منأى عن الهزاهز، وأنها بقواها الأمنية الجرارة ومخابراتها التي تحصي نجوى المواطنين وخفقان قلوبهم، وتحالفاتها الدولية المتشابكة المصالح، في منعة واقية، غير أن إرادة الشعوب في الحرية لم تقف في وجهها الحوائل، فأسقطت أصناما عتيقة عُدت طليعة الاستبداد في المنطقة لأمد ليس بالقصير. وتوقع أكثر الملاحظين أن يكون المشهد الجزائري سباقا في الثورة والتغيير، في أي حراك سياسي واجتماعي تعرفه المنطقة، للطبيعة الثورية التي عُرف بها الإنسان الجزائري، لكن الأمور لم تجر على منوال توقعاتهم، حيث لم يعرف المشهد الاحتجاجي في الجزائر كبير حراك، ما خلا بعض التظاهرات المحتشمة التي تفرد بتنظيمها طرف سياسي دون غيره. وفي محاولة منها لشراء السلم المحلي، وسعيا للحيلولة دون توسُع أَوَار الثورة في الشارع المحلي، بادرت السلطات الجزائرية الحاكمة بالإعلان عن حلول ترقيعية عاجلة، حُصرت في الجانب الاقتصادي والاجتماعي دون غيره، كالزيادة في المخصصات الاجتماعية، ووعود بتوفير ملايين مناصب الشغل، ولم يمس سقف تلك الإجراءات والوعود في حدها الأقصى أي تغيير سياسي ولو جزئي لبنية النظام المتكلسة، القابضة على زمام السلطة ظاهرها وباطنها منذ عقود مديدة، أهم مميزاتها الأُحادية الحزبية وتدوير السلطة بين عُصب نافدة تتبادل الأدوار، وتتقاسم الريوع النفطية والتجارية، عاد معه المسار التنموي القهقرى رغم عائدات البلاد النفطية الخرافية. ولم تكن تلك القراءة الخاطئة والمبتسرة لمطالب الجماهير بالجديدة على القائمين على سلطة احترفت طويلا سياسة الهروب إلى الأمام إزاء المطالب الشعبية الحقيقية، الداعية لضرورة التغيير السلمي والعميق لنظام الحكم، وحرقت السلطة كل فرصة إصلاح وتغيير سلمي وفرتها التغيرات الدولية والمحلية المتسارعة، وكان أجدر برموز النظام أخذ العبرة مما لحق برفاقهم في تونس ومصر، وإنقاذ مصيرهم المحتوم أمام أي هبة شعبية متوقعة في أي لحظة. ويبدو أن رموز الحكم في الجزائر، الظاهر منهم والمستتر، مطمئنون إلى أن إجراءاتهم الاقتصادية والاجتماعية الأخيرة، هي الرد الناجع لتلك المطالب، ويعتبرونها حلولا كافية لامتصاص النقمة الشعبية، وتفريغ شحنة الغضب من صدور الشباب، أما عن المطالب السياسية الداعية لفتح مجال الحريات السياسية والإعلامية، وضرورة تغيير الوجوه الفاشلة والفاسدة المتحكمة في مفاصل النظام، فتلك في زعمهم دعوات مأجورة، وخيوط تآمرية من أطراف حاقدة و... ويعول أركان الحكم في البلاد على حالة التخويف من عودة أجواء الفزع والرعب، وهي حالة خلقت نوعا من السكون، وضبط النفس، تداعت إلى الحفاظ عليه الكثير من الأوساط الشعبية والرموز الثقافية والاجتماعية الجزائرية، والذي جاء كتداعيات طبيعية لسنوات الدم والدموع التي عرفتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي، وإفراز طبيعي لتجربة مريرة ومؤلمة عاشتها البلاد، غير أن تجارب مماثلة لدول قريبة تجاوزت مثل هذا التخوف، استطاعت تجاوزه ونجحت إلى حد بعيد، ومن الطبيعي أن تشكل تجربتها أنموذجا صالحا للاقتداء عند الشباب الثائر على واقعه المر . ويزيد ثقة النظام الجزائري في حتمية تراجع زخم التظاهرات الحالية، تفرد تيار سياسي معين بتَصَدُر الفعاليات الشعبية الحالية المطالبة بالتغيير، في حين أنه لا يمتلك الحاضنة الشعبية التي يمكن أن يُعَول عليها في قلب الطاولة وصناعة التغيير الحقيقي، وهذا لتبنيه الاطروحة الجهوية والإيديولوجية الليبرالية المتطرفة، وهو ما عاد عليه بالانتكاس وتراجع الانتشار الشعبي طوال مسيرته السياسية، كما أنه السبب الرئيس في تجنب القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة المشاركة في الاحتجاجات هو حمل هذا التيار لرايتها، وقد عمل النظام القائم على إذكاء روح التنافر بين أوساط المعارضة، وتوسيع شقة الاختلاف بين أركانها، بتقريب بعضها فترة عبر التنازل لبعض مطالبه الثانوية، أو توزير أحد أو اثنين من قادته في وزارة تقنية، يصبح بعد أشهر قليلة ورقة محروقة شعبيا، ويسهل بعدها احتواؤه أو تفتيته. على أن التعويل على استمرار الوضع على ما كان عليه لمدة أطول، هو ضرب من غياب الرشد السياسي، بالنظر إلى الاحتقان الشعبي الطافح هذه الأيام بالإضرابات الفئوية لبعض قطاعات العمال والطلبة والفئات الاجتماعية المُهمشة، التي من غير المُستبعد أن تُطَوِر في نسق الاحتجاجات، وأن تُعلي من سقف المطالب، وهو المسار الذي أخذته بعض الثورات الشعبية العربية في الأيام الأخيرة، ولم تعد القوى السياسية التقليدية تملك زمام الشارع الغاضب، فقد استلم المشعل جيل شاب لا يعرف أنصاف الحلول ولا يفهم كيف يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار. إن سياسة التقتير في إعطاء الشعوب حقوقها سيدفع حتما الأمور نحو احتمالات التصادم مع أنظمتها، لأن عصر صبر الشعوب في البلاد العربية على الضيم والحرمان من حقوقها الجوهرية، انتهى منذ ثورة محمد البوعزيزي في تونس، فلا مجال بعد الآن للخيار الثالث، فإما النزول لمطالب الشعب بالتغيير الحقيقي والفوري، وإما النزول إلى المنافي والانخراط في حزب المنبوذين الذي يعرف في المدة الأخيرة إقبالا متزايدا من قبل حكام العرب المتساقطين تباعا. على الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي مازالت قطاعات غير قليلة من أوساط الشعب تحفظ له جهده الإيجابي في إقرار قوانين المصالحة الوطنية وطي صفحة العنف المسلح، أن يبادر لإنقاذ مصيره ويُنصع صورته وهو في خريف عمره، بالمسارعة لفرض رؤية إصلاح وتغيير جذري وعميق لمفاصل النظام الجزائري، وإقرار الحقوق الأساسية للشعب، ضمن إطار زمني محدد، يسمح في نهايته بالتداول السلمي على السلطة والتوزيع العادل للثروة، وهو المناخ الطبيعي لتحقيق قيم الحرية والعدالة على أرض الواقع، وهي قيم دفع الشعب الجزائري مهرها غاليا إبان ثورته التحريرية، قبل أن تسرقها زُمر من نهازي الفُرَص وسُراق الثورات باسم الشرعية الثورية تارة والشرعية العسكرية تارة أخرى، ولا نستغرب أن يقدم الشعب الجزائري على دفع مهر مماثل لاستعادة حقوقه المغتصبة، فهل في النظام الجزائري رجل رشيد؟ *كاتب جزائري