الحديث عن معركة تأهيل الحقل الحزبي، يستتبع التوقف عند واحدة من أهم خلاصات هذه المعركة، من خلال محطاتها الأساسية، في السنوات الأخيرة، وهي أنه: لا يوجد حزب في المغرب يملك القوة والقدرة على الفوز في الانتخابات البرلمانية، وحتى الجماعية، نظرا لأسباب متعددة، تمتد من ضعف الأحزاب، إلى التشتت، الذي يميز الحقل الحزبي، وصولا إلى نمط الاقتراع، وضعف المشاركة...، وهذا ما يجعل مسألة بناء تحالفات تطرح نفسها، منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، بموازاة مع شروع المغرب في الإصلاحات السياسية والدستورية. أهمية طرح هذه الإشكالية، تمليها زاويتان للنظر: أولها الظرفية الراهنة الدقيقة، إذ لم يعد أمام مختلف الفاعلين السياسيين فيها، كثيرا من الوقت للاستعداد لتحدياتها الكبرى، وفي المقدمة مأزق المشاركة، التي ظهرت، بصورة صارخة في استحقاقات 2007، وثانيتها مخاطر استمرار العزوف، الذي سيكون له معنى واحد هو الحكم بالإفلاس على مختلف مكونات الحقل الحزبي، الشيء الذي يفتح الباب أمام المجهول. الوعي بهذه المحاذير يفترض أن يشكل حافزا للأحزاب السياسية، لإجراء مراجعات جذرية، للبرامج، ولآليات العمل، ومستويات الفعل في الساحة الوطنية، ولعل أول تحرك، في هذا الصدد، تشهده بداية سنة 2011، جاء من قواعد حزبية، استثمرت الإمكانيات الهائلة، التي يتيحها الموقع الاجتماعي "فايسبوك"، لبلورة مبادرة وحدوية، مثلما فعل عدد من مناضلي تحالف اليسار الديمقراطي، الذي يتشكل من الاشتراكي الموحد، والطليعة الديمقراطي الاشتراكي، والمؤتمر الوطني الاتحادي، الذين بعثوا، بمبادرتهم، إشارة قوية إلى قيادات أحزابهم، لتطوير وتوسيع عمليات التنسيق المشترك سياسيا، في أفق الاندماج تنظيميا. لا يهم حجم هذه المبادرة، ولكنها تعكس مناخا عاما سائدا لدى هذه الأحزاب، تترجمه مبادرة إصدار بيان مشترك، تتويجا لاجتماع للمكاتب السياسية للأحزاب الثلاثة، الأسبوع المنصرم، عبرت فيه عن "إرادتها القوية للارتقاء بالعمل الوحدوي لتحالف اليسار الديمقراطي، إلى مستويات أعلى، والانفتاح على كل اليساريين والديمقراطيين، بهدف إعادة بناء قطب يساري ديمقراطي"، من شأنه أن "يحقق آمال الشعب المغربي، وطبقاته الشعبية في الديمقراطية والحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم". في الاتجاه نفسه، تأتي خطوة التخليد المشترك للذكرى 67 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال من قبل أحزاب الكتلة الديمقراطية، حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية، التي شدد قادتها على "ضرورة استمرار الكتلة الديمقراطية"، و"ضرورة التحضير لإصلاحات مؤسساتية، وإصلاحات تستهدف تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والكفاح من أجل استقلال القضاء ومحاربة آفة الرشوة". وحسب المعطيات المتوفرة، قد يشهد شهر فبراير مبادرات تنسيقية، واتصالات في الموضوع تشمل باقي الأحزاب، وفي المقدمة الأصالة والمعاصرة، والحركة الشعبية، والعدالة والتنمية، إضافة إلى التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري، اللذين دخلا في مبادرات مشتركة، أبرزها تشكيل فريق برلماني موحد في مجلسي النواب والمستشارين. عموما، لم تظهر، لحد الآن، إلا تجربة واحدة للتحالف، تمثلت في الكتلة الديمقراطية، في حين فشلت تجربة الوفاق، وماتت في المهد. وسجل، منذ سنوات، أن الكتلة صارت عاجزة عن الاستمرار في النهج، الذي سارت فيه، في السنوات الأولى لتأسيسها، لعدة أسباب متراكبة. وكانت التحالفات، التي نسجت بعد الانتخابات الجماعية الأخيرة، علامة أخرى على الصعوبات، التي يواجهها استمرار الكتلة، رغم مبادرة تجديد ميثاقها، التي لم تكن منتجة، في النهاية. وهناك اليوم تحالفات جديدة تصاغ بين قوى سياسية قديمة وجديدة، ودعوات للتحالف في أفق انتخابات 2012، يدور حولها نقاش أولي بين الفرقاء الحزبيين، لا أحد يمكن أن يتنبأ من الآن بما سيسفر عنه عمليا. غير أن هذا النقاش مفيد، ويفرض نفسه بقوة، لأن البلاد في حاجة إلى إعادة هيكلة الحقل الحزبي، ولأن تقدم الديمقراطية يستدعي تكوين قوى وتحالفات على درجة كبيرة من الانسجام، أو التقارب السياسي والبرنامجي، ذات قدرة فعلية على الفوز بالأغلبية في الانتخابات، وعلى تشكيل حكومة قوية، لا ترهن إرادتها وقدرتها على العمل والإنجاز هشاشة ائتلاف بلا قواسم مشتركة، قابل للانفراط بسرعة. تحديات معركة الدمقرطة تفرض على الأحزاب، بقوة ودون انتظار، الانخراط في رهانات التحالفات، لحسم أسئلتها الملحة، بالنظر لتعدد هذه الأسئلة، وتعدد التقييمات لتجارب التحالفات السابقة، من قبيل: ما هي القواسم المشتركة المفروض توفرها بين شريكين حزبيين أو أكثر لنسج تحالف؟ هل يجب أن يتوفر التقارب الإيديولوجي، كما تدعو إلى ذلك أطراف يسارية اليوم؟ أم هل يجب أن يتوفر التقاطع السياسي والبرنامجي، والاتفاق على أهداف بعيدة المدى، كما يعكس ذلك ميثاق الكتلة؟ أم هل يكفي الاتفاق على أهداف أو برامج تهم المدى القصير والمتوسط، كما يحصل منذ تكوين حكومة التناوب؟ أم أن هناك شروطا أخرى يجب توفرها لنشوء تحالف بين الأحزاب؟ وما هي المرحلة، التي يجب أن يتجسد فيها التحالف: هل قبل الانتخابات أم بعدها؟... الأسئلة المذكورة لا تعني الجميع على قدر المساواة، فمنها ما يتعلق بالأحزاب المشاركة في الحكومة، وأخرى بأحزاب المعارضة، ومنها ما هو مشترك مع الجميع، لكن الأساسي يبقى هو ضغط الوقت، الذي لم يعد يسمح بإضاعته في ما هو هامشي، إذ أن حلول الاستحقاقات، في غياب وجود حقيقي للقوى والتحالفات، سيحكم على هذه القوى بالهامشية، والتهميش، في كل مداخيلهما، وفي المقدمة المدخل الشعبي، لأنه لا يمكن ادعاء التعبير عن نبضات الشعب، ليكون الحزب جماهيريا، يستقطب دعم والتفاف وعطف الشعب... مرة أخرى تواجه الأحزاب المغربية اختبار المصداقية، أمام المهمة الملقاة على عاتقها، ومسؤليتها التاريخية من أجل الدور الموكول إليها في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد، على طريق بناء الديمقراطية، كإطار لتدبير الاختلاف والتدوال السلمي على الحكم، بما يوف الشروط لاستكمال الإصلاحات الديمقراطية وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، في محيط إقليمي ودولي حافل بالتحديات.