الديمقراطية مسيرة تربوية طويلة، تتطلب البناء اليومي على عدة جبهات، وفي مقدمتها تطوير الأحزاب السياسية لأدوات عملها، وتربية مناضليها على التشبع بقيم الديمقراطية، عبر الإيمان العميق، وليس اللفظي، بالحق في الاختلاف، واحترام الرأي الآخر، باعتبار أن هذا السلوك يتحقق عبره الإنصات، ويتأسس الحوار، وتبنى الثقة، مع الآخرين، المنتمين لهيئات أخرى أو غير منتمين، وكذا مع عموم المواطنين، وباعتبار أن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم لها قائمة من غير ديمقراطيين. هذا السلوك الديمقراطي هو الذي يؤمن للحزب القدرة على توسيع دائرة التعبير عن مطالب الناس وانتظاراتهم، والكفاءة في إنجاز مهام الوساطة بين مناضلي الحزب وبين الناس ومؤسسات المجتمعين المدني والسياسي، والطاقة على النهوض بالمهام المنوطة به في مجالات التأطير والتعبئة والتربية على قيم الحوار، والتسامح، والاجتهاد، والنضال من أجل تحقيق الأهداف السياسية للحزب، والإبداع في التعبير عن برامجه والدفاع عن مشاريعه وخططه، في شتى مناحي الحياة العامة وحتى الخاصة. إلا أن المعاينة والاحتكاك بقياديي وقواعد الأحزاب يكشفان عن خلل سياسي وتربوي، وعن أزمة بنيوية في الهياكل الحزبية المغربية، على مستوى التنظيم والممارسة، بما يضع التشكيلات السياسية أمام تحديات تأهيل الذات تنظيميا، وسياسيا، وإيديولوجيا، من أجل الارتقاء بالعمل السياسي إلى مستوى تطلعات الأجيال الجديدة. وفي أي حديث عن متطلبات تأهيل الحقل السياسي، غالبا ما ينصرف الاهتمام إلى التركيز على قضايا تطوير التنظيم والتأطير والتوجيه ودمقرطة العلاقات الداخلية، بينما تلغى من الحساب مسألة تأهيل المنتمين إلى هذه الأحزاب، ولا يقع الانتباه إلى أنه يستحيل تحقيق نقلة نوعية في عملية التأهيل، إذا كانت هذه الأحزاب منخورة بوجود قياديين على رأسها ومناضلين في صفوفها، يتصرفون بعقليات تقليدية محافظة، ويقدمون صورة ملوثة عن الحزب والممارسة الحزبية عموما، تفاقم مظاهر النفور والعزوف عن السياسة والسياسيين. إن المعاينة الحثيثة تكشف أن الأحزاب غالبا ما تتفادى فتح هذا الملف، الذي يتعلق بأخلاقيات الممارسة السياسية لدى الأعضاء، من منطلق مهزوز، بمبرر مراعاة توازنات معينة، وحتى لا "تجبد عليها النحل"، الذي قد يهدد وحدتها أو تماسكها، ما يعني أن بنيانها التنظيمي، رغم كل شعارات الدمقرطة، يعيش وضعية مهزوزة، تجعلها مسكونة دوما بالرعب من الانشقاق والتشرذم. وثبت، من خلال التجارب الانتخابية، وغيرها، أن كثيرا من الأحزاب تضم في صفوفها قياديين ومناضلين مصابين بكل الأمراض، والأعراض، والأعطاب، التي تدعي هذه التشكيلات محاربتها في الدولة والمجتمع، فتجد فيهم "مقدمية" و"شيوخ" و"بركاكة" ومتعيشين بالكولسة والتآمر، لا ينظرون للآخر إلا من زاوية المؤامرة. هؤلاء، الذين يمكن تسميتهم ب"ذوي الاحتياجات السياسية الخاصة"، غالبا ما يكونون يعانون الفقر الفكري والضحالة السياسية، فيعوضون هذا النقص بممارسة التكوليس والتآمر، لضمان موقع متقدم في التنظيم، كل شيء يفسرونه بالمؤامرة، ويتحركون في الزوايا المعتمة، ويجلدون المنافسين داخل حزبهم، مثلما يفعلون مع من لا ينتمي إلى "زاويتهم"، بالنميمة والتقولات وافتعال واصطناع الحكايات، يغلفونها بكل أساليب الإقناع، حتى لا تنفضح صورهم كأنذال يحترفون ضربات الخلف وتحت الحزام. وهذه الزاوية من المعالجة غالبا ما يقع تفاديها بدعاوي متعددة، من قبيل أنها مسائل شخصية، دون أن يدرك أصحاب هذه النظرة القاصرة، والقصيرة، أن الحزب يدفع غاليا ثمن الاستمرار في إلغاء مسألة "أخلاقيات الممارسة السياسية"، إذ تجعل الجماهير تبتعد عنه، وتتفكه حوله وتحبك النكت للضحك عليه، أو على بعض قيادييه، وتستعدي عليه المحيط في وقت هو في أمس حاجة لاستقطاب التعاطف والانخراط، بينما هؤلاء المرضى مستعدون، في العمق، للتضحية بكل مخططات توسيع جماهيرية الحزب، في سبيل ضمان كرسي في القيادة، أو موقع متقدم في التنظيم. صحيح أن الأحزاب هي نتيجة تركيبة سياسية وثقافية محددة، لكن صحيح، أيضا وأساسا، أن كل عمليات التأهيل الديمقراطي، التي يمكن أن تتبلور داخلها، لا يمكن أن تأخذ كل أبعادها وتحقق كل نتائجها، إذا كان حاملو المشروع الحزبي غير مؤهلين وغير ديمقراطيين يسكنهم فكر المؤامرة، وتخترقهم قيم التقليد والمحافظة، ويشكلون عرقلة كبرى أمام الانخراط في مشروع التجديد والتطوير، وإحداث قطيعة مع تراث ثقيل من الممارسات السلبية، في أفق خلق ثقافة سياسية جديدة تؤطر العمل السياسي، والعلاقات داخل الأجهزة القيادية، ومع التنظيمات الإقليمية والجهوية، فضلا عن الامتدادات الأفقية لهذه الثقافة عبر المنظمات القطاعية والمجالس المنتخبة. هذه مجرد "نغيزة" حول ما ينتظر الأحزاب المغربية، من متطلبات التأهيل، وهي على أبواب استحاقات انتخابية دقيقة، في ظرفية دقيقة. فالتأهيل المنشود، يفترض أن يكون شاملا، يمس أخلاقيات المناضل الحزبي، مثلما يهتم بالتنظيم والتأطير والهيكلة والدمقرطة داخل الحزب، ليجسد، بصفة عملية، مدرسة حقيقية للوطنية والمواطنة، وأداة مثلى لتربية المواطن على حس المسؤولية، والمشاركة في الشأن العام، وممارسة العمل السياسي في بعده الإيجابي النبيل، وتقوية الاستعدادات النضالية لمواجهة مظاهر الفساد والإفساد في الدولة والمجتمع. خارج هذا الأفق، ستبقى الأحزاب ونخبها أسيرة القنوات التقليدية، القائمة على روابط الثقافة المحلية والمصالح الشخصية والفئوية، وعلاقات الشيخ والمريد، وفكر التخوين والمؤامرة، وفي ذلك هلاك لهذه الأحزاب نفسها، والأسوأ من ذلك، خسارة جسيمة للديمقراطية.