يطرح التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، شأن باقي تقاريره السنوية السابقة، كثيرا من علامات الاستفهام، حول مآل كوارث "الزلازل" و"الفيضانات"، التي تضرب المال العام، من خلال ما سجله المجلس من اختلالات مالية وإدارية وتنظيمية بالعديد من المؤسسات العمومية، والوزارات، والجماعات المحلية، والمراكز الاستشفائية، والجامعات، وبعض المكاتب التابعة للدولة. تقارير المجلس الأعلى للحسابات ليست قرآنا منزلا، ونتائج افتحاصاته ومهامه الرقابية ليست، بالضرورة، هي "الحقيقة"، أخذا بالاعتبار ملاحظات خبراء مختصين، وكذا معنيين من الخاضعين لرقابة المجلس، الذين يصل ببعضهم الأمر إلى حد اتهام المراقبين بضعف الحرفية والمهنية، وأحيانا بسوء التقدير والجهل بخصوصيات القطاع الخاضع للمراقبة. ليس الإشكال، هنا، ولا هو موضوعنا. الإشكال هو في مآل هذه التقارير. المحقق الأول في المملكة، أحمد الميداوي، يقول كلاما جميلا: إن غالبية ملاحظات المهام الرقابية المنجزة أرفقت بتوصيات، اتخذت مسارا يمكن الهيئات، التي تخضع للمراقبة، من تقديم آرائها حول الملاحظات. ثم يسجل: بعض الحالات تخضع للمتابعة، في إطار التأديب المالي، أو المتابعات الجنائية، حسب الحالات، زجرا للاختلالات، التي تعرفها بعض الإدارات العمومية. هذا صحيح، لكنه جزئي، إذ أن عمليات المتابعة، سواء منها الإدارية أو الجنائية، تبقى محدودة جدا. وهذا يطرح مشكلا كبيرا. المشكل لا يعني المحقق الأول، فهو أنجز عمله، أما توابع عمله، فلا تعني المجلس الأعلى للحسابات، وإلا سيحدث تداخل وتنازع في الاختصاصات، وإنما تعني جهات أخرى، تعني الحكومة والجماعات والمؤسسات العمومية، عندما يتعلق الأمر بإجراءات إدارية، التي قد تبدأ من التأديب وتصل إلى التوقيف، مثلما تعني الحكومة، أيضا، عبر وزارة العدل، باعتبارها رئيسة النيابة العامة، عندما يتعلق الأمر بالمتابعة الجنائية. وهذا هو المشكل، إذ أن النيابة العامة لا تحرك المتابعة، رغم ما يرد في تلك التقارير من اختلالات وخروقات، بعضها تشكل جرائم مالية، وتدخل في خانة الفساد الإداري. فضلا عن ركام من الحالات، التي تندرج في خانة سوء التسيير والتدبير، وتهدد بالعودة إلى سنوات الرصاص الإداري، حين كان مسؤولون يتعاملون مع المؤسسات، التي يشرفون عليها، وكأنها ضيعات خاصة، يفعلون بها ما يشاؤون، ويتصرفون في المال العام، وكأنه "خلاوه ليهم اباواتهم"! خلال العشرية السابقة، اتخذت العديد من الإجراءات والتدابير، التي تترجم إرادة الدولة والمجتمع، في إحداث قطيعة مع الماضي، وإشاعة ثقافة جديدة للمرفق العمومي، ولا أدل على ذلك، من أن إثارة قضايا الرشوة والفساد الإداري والتعسف والتسلط واستغلال النفوذ والزبونية والمحسوبية لم تعد من المحرمات. نذكر، هنا، أيضا، إقدام حكومة عبد الرحمن اليوسفي، في بداية العشرية السابقة، على إلغاء جملة من الامتيازات، التي كان يستفيد منها الموظفون السامون، من قبيل مجانية الماء والكهرباء والهاتف والتعويضات على الصوائر الخاصة، إلى غير ذلك من الامتيازات الضخمة والمصاريف والنفقات الباذخة، التي تبذر فيها الأموال العامة، بصورة مثيرة للتناقضات الصارخة، إزاء ما يعيشه المغرب من صعوبات مالية ومعضلات اجتماعية. الأمثلة على الاختلالات كثيرة، منها، في ما يتعلق بهذه المسألة الأخيرة، ما أشار إليه التقرير من استفادة العديد من الموظفين من سيارات الدولة، ومن المصاريف المرتبطة بها من إصلاح وفاتورة الوقود، وفي الوقت ذاته، يستفيدون من تعويضات جزافية عن التنقل واستعمال سياراتهم الخاصة لممارسة نشاطهم المهني، وهي تعويضات تحسب بالملايير وليس بالملايين! جميع الاختلالات نشرت على العموم، منذ أزيد من أسبوعين، واطلع عليها الخاص والعام، وضمن هذا العام جهاز النيابة العامة، التي لا نعرف كيف لا تجد نفسها، أمام ما تسمع وتقرأ، غير ملزمة بتحريك المتابعات القضائية. وفي غياب هذه المتابعات، يتكرس منطق الإفلات من العقاب، الذي يلعب دورا خطيرا في تغذية الفساد. فلا يمكن أن نمضي بعيدا في مسيرة التحديث والدمقرطة في ظل الفساد والرشوة وانتهاك حقوق وأموال الشعب والدولة معا. الإخفاق في مواجهة الفساد يحكم بالفشل على مسيرة الإصلاح، وبالتبعية الفشل في تمكين البلاد من مؤسسات محترمة وقادرة على تحقيق إصلاحات جوهرية في البنيات الأساسية للبلاد، وضمان المصداقية والشفافية واحترام القوانين، صونا لكرامة المواطنين، وسعيا وراء استرجاع ثقة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، والتشجيع على الاستثمار والإنتاج. المغرب، اليوم، أمام معركة مصيرية، من أجل البناء والنماء، وضد الأزمة، بكل عناصرها وخلاياها.. وهي معركة لا يمكن أن نكسبها بالمسلكيات نفسها التي صنعتها، والعقليات ذاتها التي أنتجتها، وكان الشعب ضحيتها... معركة مواجهة الفساد لا يمكن كسبها بالحكاية المعلومة لذلك الذي: لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم...