لعلة ما، تحركت نكتة، يعرفها الإنترنيتيون أكثر، على مدى أسبوع، لتجوب الشبكة العنكبوتية، بتزامن مع انعقاد الدورة العادية للجمع العام للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، يوم الثلاثاء المنصرم بالرباط. النكتة طريفة ومليئة بالدلالات، تتعلق بمعنى الفساد السياسي، من المفيد أن نحكيها. وفحواها أن طفلا سأل والده: ما معنى الفساد السياسي؟ فأجابه: لن أخبرك يا بني، لأنه صعب عليك في هذا السن، لكن دعني أقرب لك الموضوع: أنا أصرف على البيت، فلنطلق علي اسم الرأسمالية. وأمك تنظم شؤون البيت، سنطلق عليها اسم الحكومة. وأنت تحت تصرفها، سنطلق عليك اسم الشعب. وأخوك الصغير هو أملنا، سنطلق عليه اسم المستقبل. والخادمة، التي تعيش من ورائنا، سنطلق عليها اسم القوى الكادحة. فاذهب الآن يا بني، وفكر عساك تصل إلى نتيجة... وفي الليل، لم يستطع الطفل أن ينام، فنهض قلقا، ولما سمع صوت أخيه الصغير يبكي، ذهب إليه، فوجده بلل حفاضته ووسخ نفسه، فذهب ليخبر أمه، فوجدها غارقة في نوم عميق، وتعجب جدا أن والده ليس نائما بجوارها! بدأ يبحث عنه، فسمع همسات وضحك في غرفة الخادمة، نظر من ثقب الباب، فوجد أباه مع الخادمة! وفي اليوم التالي قال الولد لأبيه: لقد عرفت يا أبي معنى الفساد السياسي. فقال الوالد: ما شاء الله عليك... فماذا عرفت عنه؟ قال الولد: عندما تلهو الرأسمالية بالقوى الكادحة، وتكون الحكومة نائمة في سبات عميق، ويصبح الشعب قلقا تائها مهملا تماما، ويصبح المستقبل غارقا في القذارة، يكون الفساد السياسي... فقال الأب: يلعن أبوك كيف جبتها! هي مجرد نكتة، لكنها ككثير (وليس كل) من النكت، تحمل دلالة بليغة من السخرية القوية من واقع بئيس، يخترق الهياكل المجتمعية لبلدان كثيرة، ترزح تحت ثقل الفساد السياسي. الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، التي كان اجتماعها ليوم الثلاثاء مغلقا، مازالت تعاني إكراهات حداثة النشأة، التي تتطلب كثيرا من التحضير القانوني لعديد من المساطر التنظيمية، قبل أن تصبح، وهذا هو المأمول في أقرب الآجال، مؤهلة للانخراط، بقوة وفعالية، في مشاريع محاربة ظاهرة الرشوة والفساد، التي تخترق كثيرا من المصالح الحيوية بالإدارة المغربية. صحيح أن محاربة الرشوة والفساد السياسي، وتخليق الحياة العامة، يشكلان شعارا محوريا في الخطاب السياسي المغربي، إلا أن الحصيلة تكاد تكون هزيلة، بل متناقضة أحيانا، وتفتح الباب أمام متشككين، لطرح أكثر من سؤال حول جدية هذا الخطاب، وما إذا كان مؤطرا بالمصداقية، ويصدر عن إرادة سياسية، أم هو مجرد استهلاك ظرفي ومناسباتي لا يتجاوز مفعوله إرضاء الضمير، في أفضل الأحوال. يستمد سؤال الإرادة السياسية مشروعيته من وصول الفساد إلى الانتخابات والعمل السياسي، الذي تتمثل وظيفته في إصلاح المجتمع والدولة، بدل تحويله إلى أداة لإشاعة الفساد. خلال عقود الاحتقان السياسي، ظلت الرشوة والفساد ضمن أدوات المواجهة السياسية، فغيبت من التداول في الخطاب الرسمي، سواء السياسي منه أو الإعلامي، بينما استعملتها القوى المعارضة آنذاك في خضم الصراع. وأعادت انتخابات تجديد ثلث أعضاء مجلس المستشارين، في خريف 2007، وقبلها الانتخابات الجماعية، وتشكيل مكاتب المجالس المحلية، أعادت إلى الواجهة "ظاهرة" استعمال المال في الانتخابات، لشراء أصوات الناخبين، الكبار منهم والصغار، رغم أن الدولة كانت استبقت الحدث، بتدابير تنبه إلى خطورة العملية، وآثارها السلبية على الحياة السياسية، وعلى المشروع الديمقراطي برمته. أحزاب ترفع كل الشعارات الممكنة حول الطهرانية والنقاء، لكنها تزكي منتخبين فاسدين وتقبل بوجودهم في صفوفها، وبتمثيلهم لها في الهيئات التشريعية والمنتخبة. ولعل مشروع قانون التصريح بالممتلكات أبرز نموذج على عقدة الإرادة السياسية في محاربة الرشوة والفساد المالي، فضلا عما يطرحه المشروع من تساؤلات: لماذا ظل المغرب مسكونا بهاجس قانون التصريح بالممتلكات منذ الاستقلال، وكيف ظل، في الوقت نفسه، عاجزا عن ترسيم هذا القانون خلال أزيد من أربعة عقود، وعندما فعل، وجد نفسه عاجزا عن إعماله وتفعيله؟ هكذا تبدو الرشوة في المغرب بمثابة غول فعلي يتجاوز طاقة الإدارة والأحزاب السياسية والدولة بكل مؤسساتها. وفي هذه الحالة، تكون ظاهرة ثقافية وحضارية ملازمة للنظام السياسي المغربي، كما تشكل عبر التاريخ، وبالتالي تتطلب المعالجة، من أجل استئصال المرض الخبيث، ثورة ثقافية حقيقية، تشمل كل مناحي الحياة العامة، اعتمادا على معطيات الواقع وترسبات التاريخ القريب والبعيد. إلى حدود أوائل القرن العشرين لم تكن الدولة المغربية تدفع أجورا لموظفيها، إذ كان "المخزن" يفوض لأعوانه من شيوخ وقواد وأمناء... استخلاص "أتعابهم" من "الرعية" في صورة ما يعرف بنظام السخرة، ولا شك أن هذا المعطى يساهم في فهم صمود ظاهرة الرشوة في دواليب الإدارة المغربية، التي تعايشت مع الحماية، واستمرت في فترة الاستقلال، وتجسدت في نهج سلوك "الهمزة"، مقاولون وكادحون، حاكمون ومحكومون، جميعهم يطلبون "الله يجيب شي هميزة". وحدها عقلية "الهمزة والغنيمة"، في صورتها الأكثر قبحا، قد تستوعب غربة ثقافة المواطنة والنزاهة والشفافية، وتفسر تلك الجرأة في السطو على المال العام لدى "مسؤولين كبار" في الأحزاب والسلطة والإدارة، واستثمار المال والسياسة والسلطة لتأمين وتنمية النصيب من "الغنيمة".