نَشرت مجلة “الدوحة” في عددها الماضي(34)، مقالا بعنوان “صور متقابلة.. أواصر أدبية بين العربية والفارسية” للكاتب الإيراني حميد رضا مهاجراني، وكما يوحي العنوان تَوقعتُ أن يكون المقال مساهمة ثقافية في مجال التقريب الثقافي العربي الفارسي، ومحاولة لتجاوز ما راكمته العصبيات والأساطير القومية من مشاعر سلبية في كلتا الضفتين. بَيد أنني فوجئت بعكس ذلك عند قراءة المقال المذكور، واكتشفت أن كاتبنا حاول استغفال القارئ من خلال قفزات منهجية ومعرفية متوهما أن بإمكانه تمرير أفكار تنافي شعار مقاله “صور متقابلة”؛ لذلك سأحاول من خلال هذا الرد كشف ما يعتري عمل الكاتب من سقطات ومغالطات. أخطاء منهجية: فضَّل الكاتب أن يقارب موضوعه من منظور المنهج التاريخي الذي ظهرت بوادره مع الناقد الفرنسي هيبولت تين (1828-1893)، والذي يرى أن الأدب ابن بيئته، وأن ما يبدعه الإنسان من فنون وغيرها إنما هو انعكاس لواقعه العرقي والطبيعي والاجتماعي، وبالتالي يجرد الإنسان من صفة الإبداع والموهبة التي أنعم الله بها عليه. وقد استفاد المستشرقون كثيرا من المنهج التاريخي في معالجة الأدب العربي، وتلقفته منهم جماعة من المثقفين والأدباء العرب أمثال طه حسين والعقاد وزكي مبارك وأحمد أمين..لكن الدراسات الأدبية تجاوزت هذا المنهج فيما بعد لقصوره وعدم كفايته، والحقيقة أن هذا العجز هو الذي أوقع الكاتب في مغالطات معرفية أساءت إلى شعار مقاله.. فكيف ذلك؟ استهل حميد مهاجراني مقاله بمقدمة قال فيها أن العرب ساميون والفرس آريون، ونظرا لاختلاف العرق والبيئة التي عاش فيها كلا الشعبين، فقد أثر ذلك في أدبيهما؛ لذلك وعد باستعراض “البيئة والمحيط والمنشأ الذي نبت فيه الأدب الفارسي”. وبحسب السياق أظنه يقصد هنا ذكر بيئة كلا الأدبين. وبعد عرضه للبيئة التي أنتجت الأدب العربي قبل الإسلام بحسب ادعائه، نفاجأ بعدم وجود ما يشير للبيئة التي أنتجت “الأدب الفارسي الآري”، وعلى هذا الأساس لابد أن نتساءل: لماذا لم يتحدث الكاتب عن هذه البيئة؟ ولماذا اقتصر فقط على حشد نصوص معينة يدعي أنها كانت وراء وجود الأدب العربي القديم دون غيرها؟ هل كان ذلك نسيانا من الكاتب أم عجزا أم اختيارا مقصودا ؟ مغالطات معرفية: تحدث الكاتب في بداية مقاله عن “الأدب الفارسي الآري” مقابل “الأدب العربي السامي”، مستندا مرة أخرى في هذا التقسيم إلى نظرية توراتية مشهورة تزعمها العالم الألماني ماكس مولر (1823-1900)، ومارسيل كوهين (1884-1974) وغيرهما. وتقوم هذه النظرية على تقسيم اللغات البشرية إلى ثلاث مجموعات رئيسية: المجموعة الهندية- الأوروبية، والمجموعة الحامية- السامية، والمجموعة الطورانية، وهو تقسيم عرقي عنصري روج له اليهود واستفادت منه المشاريع العنصرية والاستعمارية طيلة القرن ال20 لكي تثبت صحة تفوقها الحضاري والعرقي على باقي الشعوب، وقد كانت هذه النظرية سببا مباشرا في انتشار الأحقاد بين الشعوب وموت الملايين من البشر في الحروب التي عرفتها البشرية في القرن الماضي.. وبطبيعة الحال جرد هذا التقسيم التوراتي اللغات والآداب الإنسانية الإبداع سمن طبيعته المعنوية وجعله رهيناً للعرق والاعتبارات القومية الضيقة، إن هذه الخلفية النظرية التي أطرت مقاربة الكاتب لموضوع مقاله جعلته يسير في اتجاه الفصل العرقي والعنصري بين ثقافتين، وهو اتجاه معاكس تماما لشعار المقال (صور متقابلة). والأصل في الأمر أن عزيمة التقريب بين ثقافتين أو أكثر، تستلزم قبل كل شئ من صاحبها الابتعاد عن المنطلقات النظرية والمنهجية المؤسسة للتفريق والفصل، والبحث باستمرار عن المناهج والرؤى المتسامحة والجامعة. اختيار الكاتب أدى به إلى وضع “الأدب الفارسي الآري” مقابل “الأدب العربي السامي”، مما أوقعه في مغالطة معرفية وتاريخية كبيرة، من خلال محاولته تمرير مصطلح “الأدب الفارسي الآري”، وبحسب اطلاعي هو مصطلح جديد يفتقد لأي تحقق في مجال دراسات الأدب الفارسي القديمة والحديثة، وعليه، فالكاتب مطالب بتعريف القراء بهذا الأدب، مضامينه، تاريخه، وعناصره الجمالية والمعرفية.. والحقيقة أنه لن يستطيع ذلك، لأنه ببساطة ليس هناك شئ اسمه “الأدب الفارسي الآري”، ولو كان موجودا لذكر لنا بيئته أو أورد شيئا منه في معرض مقاله كما فعل مع الأدب العربي، لكنه لم يفعل ؟؟ وبوضوح أكثر، حاول حميد مهاجرني أن يمرر فكرة وجود أدب فارسي قبل دخول الإسلام إلى إيران، هذا إذا قبلنا تجاوزا بالمسمى المدرسي “أدب فارسي”، وإلا فليس هناك ما يدعم كلامه عن وجود هذا الأدب بمفهومه العرقي قبل دخول الإسلام إلى إيران ولا حتى بعدها. إن ما نصطلح عليه اليوم ب “الأدب والثقافة الفارسية” ليس سوى ثقافة إسلامية قامت بجهود علماء وأدباء ومبدعين مسلمين من أبناء بلاد فارس، وهي كنوز ثقافية وحضارية نعتز بها، لأنها مليئة بالمعاني والإشارات الإسلامية والإنسانية الجامعة. المقام لايتسع لبسط النقاش في هذا الأمر، لكنني سأكتفي بشهادة صاحب كتاب (12 قرنا من الصمت) الباحث الإيراني ناصر بوربيرار، يقول: “يوجد لدينا في إيران عدد من النقوش على الصخور من عهد الأخمينيين والساسانيين، لا تتحدث هذه النقوش عن أية ثقافة أوحضارة أو فكر أوحتى عن دين. لا يوجد في هذه النقوش أي كلام عن زرادشت وكتابه أفيستا. فلم تتحدث هذه النقوش عن الشؤون الثقافية، حيث كلها ومن دون استثناء إما تتحدث عن قضايا شخصية وإما عن قضايا عسكرية”. ويضيف بوربيرار: “على الذين يدعون بوجود زرادشت وكتابي أفيستا وزند، أن يقدموا وثائق تاريخية تثبت هذا الأمر. فهؤلاء الذين يدعون بوجود أديان أوحكمة في إيران القديمة أو أي شيء ثقافي أو حضاري قبل نشوء الإسلام، لم يقدموا أية وثيقة ولا أية نقوش صخرية ولا حتى مسكوكة نقدية، حيث من دون هذه الوثائق يتحول الكلام في هذا المجال إلى أساطير”. والعجيب في مقال الكاتب أنه عندما أراد أن يبين للناس البيئة التي أنتجت الأدب العربي قبل الإسلام، كان منسجما تماما مع منطلق مقاله، أي المنهج الاستشراقي والنظرية التوراتية، فانبرى يلتقط نصوصا من (مروج) المسعودي، و(مقدمة) ابن خلدون، و(عيون الأخبار) لابن قتيبة وغيرهم.. موظفا إياها في غير سياقها ومقامها. المجال لا يتسع للوقوف مع النصوص كلها، لكنني سأشير إلى بعضها فقط، فمثلا النص الثاني أخذه الكاتب من (مقدمة) ابن خلدون، وجاء في نهايته: “وأغدقت الطبيعة على ذوي القابليات منهم (يقصد العرب) بسبب تحملهم الجوع والعطش والتعب، قوة جسدية تمتاز على قوى سكان المدن حتى نشأت أمعاؤهم على نسبة أمعاء الغول في الصحة والغلظة، فلا يطرقها الوهن ولا الضعف”، ثم يفسر مهاجراني بسطور لم يذكر مصدرها أوقائلها: “وقلة الموارد الغذائية في بلد قليل الإنتاج والمحاصيل، قد جعلت للضيافة والإطعام شأنا كبيرا ما لبث أن صار طبيعة أصيلة عند العرب حتى في أيام الرخاء، وغالى العربي في جوده بالطعام والإنفاق حتى صار مضرب المثل في الكرم، وصار قسم كبير من الشعر مقتصرا على وصف الكرم والكرماء ومدحهم، كما تضطر العربي قلة الناصر والشعور بالضعف إلى الانضواء تحت راية العصبية القبلية. وقويت العصبية فراحت قبيلة تغير على قبيلة وامتلأ التاريخ بأخبار الغارات التي مبعثها العصبية، حتى كاد شعر الفخر والمباهاة والاعتزاز بمزايا كل قبيلة ونسبها وشجاعتها والتعرض للقبائل الأخرى وهجاؤها، يمثل الجانب الأكبر من شعر الجزيرة العربية، وكان الفقر والجوع والعري صفة من صفات البدوي في الصحراء، وذلك للقحط وقلة الغذاء والجفاف الذي اتصفت به الجزيرة العربية”. لابد أن القارئ سيستغرب ويتساءل عن علاقة هذا الكلام بالأدب والتقريب بين أدبين، وخدمة الحوار الثقافي وتجسير الهوة.. ماذا يريد الكاتب أن يقوله لنا من خلال هذه النصوص ؟ هل يريد أن يقنعنا بأن كرم العرب هو نتيجة للجوع الذي استبد بهم وحرصهم على الطعام، أم يريد أن يفهمنا أن شجاعة العرب جاءت بفعل حبهم للإغارة وقتل بعضهم البعض ؟ هل يقبل عاقل بهذا الفهم وهذا التفسير المسطح ؟ يضطر مهاجراني في الجزء الثاني من مقاله إلى التخلي عن منهجه ودعامته النظرية التي استهل بها، فنراه يتعامل مع الأدب الفارسي الإسلامي بمنهج تحكمه رؤية أوسع، وهذا شيء جميل يُحسب له؛ ذلك أنه اختار شواهد لكبار الشعراء الفرس أمثال أبو القاسم الفردوسي وسعدي الشيرازي وجلال الدين الرومي.. شواهد يعبرون فيها عن عمقهم الإسلامي والقرآني، وتعكس الأفق الواسع الذي كانت أرواحهم تحلق فيه.. ومرة أخرى نتوقف متسائلين: لماذا لم يستخدم الكاتب في هذا الجزء من مقاله مقتضيات المنهج التاريخي؟ لماذا لم يتحدث عن تأثير البيئة والطبيعة في الشاعر وشعره ويقدم شواهد تثبت ذلك؟ هل هذا اعتراف ضمني منه بقصور اختياره المنهجي الذي قارب به الشعر العربي القديم ؟ أم أنه قصد فعلا الوصول إلى عناوين بخصوص الأدب العربي لن يتيحها له إلا المنهج التاريخي؟ خلاصة وخاتمة: أخطأ حميد مهاجرني في مقاله على ثلاث مستويات، في المستوى الأول عندما حاول استغفال القارئ بالقفز المنهجي، وفي المستوى الثاني عندما أراد أن يؤسس مقالا تقريبيا بين ثقافتين على أسس نظرية عرقية وعنصرية، أما في المستوى الثالث فقد كان حريا بالكاتب أن يكون وفيا لعنوان مقاله ويراعي آداب التقريب والتوسط بين ثقافتين أثقلتهما أمراض التاريخ وجراح المناوشات، وأن يحذر في هذا المجال عندما يتعامل مع النصوص التاريخية. إن المرحلة التي تمر بها أمتنا تفرض علينا جميعا عربا وإيرانيين نبذ الرؤى العنصرية والتجرد من الأساطير التاريخية؛ ذلك أن النبش في قبور التاريخ، والبحث في الظلمات عن قنابل لتفجيرها هنا وهناك لن يزيدنا إلا تمزقا. وقد دأبت الصفحات الثقافية لجريدة “العرب” القطرية منذ انطلاقها على نشر مقالات تنبذ هذا الخطاب وتؤكد على المشترك الثقافي بين العرب والفرس، وتبين أن الثقافتين العربية والفارسية ليستا في الأصل سوى ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية. إن الإسلام الجميل يعلمنا أننا أمة واحدة، لم نكن شيئا قبله ولن نكون شيئا بعده إذا لم نتمسك بروحه وتعاليمه، يقول الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلسان أمة الإسلام الممتدة في الأرض: “إنكم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله” (ابن كثير في “البداية والنهاية”، ج7). •نشر هذا المقال ضمن عدد هذا الشهر (36) من مجلة الدوحة القطرية، تحت عنوان: “ثقافة الانحياز ---------------------------------------------- التعاليق : 1 - الكاتب : أحمد ابراهيم ع شكرا لك أستاذ رشيد قرأت ردك على الكاتب الايراني فوجدته نزيها وعلميا ومتوازنا، وصدمت لوجود مثل ذلك الخطاب المتعصب داخل الثقافة الايرانية المعاصرة، إن التعصب والتطرف دليل على الفقر المعرفي وضيق الافق والانهزام.. شكرا لك 2 - الكاتب : م - س أستاذ تاريخ أول حضارة إنسانية هي حضارة بلاد الرافدين، أما الفرس فهم خليط من الشعوب الهندية والأسيوية والمحلية ، أما نظرية التفوق العرقي فهي عنصرية مقيتة. ولو كانوا عرق آري سامي لبعث الله فيهم رسلا لهداية الناس . لكن حكمة الله أبت أن يكونوا مجوس وفقط