في الطب التشخيص السليم للمرض نصف العلاج، وفي الهندسة والبحث العلمي تحديد المشكلة هو أول خطوة على طريق الحل، وفي السياسة قد تكون الأمور أكثر تعقيدا والأغصان أكثر تشابكا لكن يبقى تحديدنا السليم – قدر الإمكان – للمشكلة أو بمعنى أدق "الكارثة" التي تمر بها مصر الخطوة الأهم على طريق الحل .. بل الخطوة الرئيسية لتحديد طريق الحل أصلا! يمكن على سبيل الإجمال تحديد مشاكل مصر أو "كوارثها" في ثلاث نقاط رئيسية وهم غياب كل من (الديمقراطية – العدالة الاجتماعية – الاستقلال الوطني) بالنسبة للديمقراطية فمصر تعاني مشكلة اختناق سياسي دستوري بسبب المادة 76 من الدستور بوضعها الحالي المانع لترشيح أي شخص لانتخابات الرئاسة إلا إذا كان من الحزب الوطني أو يحمل صك الرضا منه!، وهذا الوضع المختل يشكل خطرا رئيسيا على إرادة المصريين الحقيقية الرافضة للتمديد والتوريث على حد السواء، ومصر – ربنا يكون في عونها – لديها المادة 77 الخاصة بجعل مدد الرئاسة مفتوحة ليجلس الرئيس على كرسيه – وعلى رقابنا وقلوبنا – "ما دام به قلب ينبض!"، وإن كانت المادة 76 تشكل اختناقا سياسيا دستوريا يمنع تقديم مرشحين حقيقيين للرئاسة وليسوا كومبارس يقومون بأدوار فكاهية وليتها مضحكة بل مبتذلة، فإن المادة 77 تشكل موتا بالسكتة الدستورية لأي حلم في تبادل السلطة "ما دام في أي رئيس قلب ينبض!" أما بشكل عام فمصر تحتاج إلى ديمقراطية أكبر من تعديل هاتين المادتين من الدستور، مصر بحاجة إلى حرية تكوين الأحزاب وإلغاء لجنة "تخريبها" المسماه لجنة شؤون الأحزاب ويرأسها أمين عام الحزب الحاكم، مصر تحتاج إلى حرية صحافة بالمعنى الحقيقي لحرية الصحافة، مصر بحاجة إلى رقابة قضائية ودولية على الانتخابات حتى تستحق أن تحمل اسم انتخابات بدل اسم "مسرحيات" التي تحمله بالوضع الحالي! أما في مسألة العدالة الاجتماعية فمن البديهي والطبيعي أن تتمتع أغلبية الشعب بأغلبية الثروة القومية، والوضع مقلوب – كما هو الطبيعي في مصر "المقلوبة" – لأن نسبة لا تزيد عن نصف في المائة تمتلك أكثر من 90% من الثروة بينما يحصل أغلبية الشعب المسكين والمتبهدل على الفتات المتبقي من أسنان أسماك القرش الكبيرة!، فمن وزير إسكان سابق كان يكافئ أبنائه على نجاحهم في المدرسة بقصور وفيلات وشاليهات!! .. إلى فساد مستشري يجعل مالك عبارة الموت عضو في هيئة السلامة البحرية!! .. إلى دولة تعمل ليلا ونهارا على زيادة الأغنياء غنا وزيادة الفقراء فقرا فيكفي النظر إلى التوسع العملاق في شاليهات مارينا وبورتو العين السخنة وإلى ضحايا صخور الدويقة وأهالي قرية البرادعة الذين في القرن ال21 مياه الشرب لديهم مختلطة بالصرف الصحي! المشكلتان السابقتان وهما غياب ( الديمقراطية – العدالة الاجتماعية) يندرجان معا تحت بند "الدستور".. فمصر تحتاج إلى دستور يتيح ديمقراطية بالمفهوم الطبيعي والمنطقي والموجود في أغلب دول العالم "ليس اختراعا يعني"، ويضمن أيضا عدالة اجتماعية ودور حقيقي للدولة في رعاية الأغلبية من شعبها .. وهذا الدستور لن يأتي لأننا "نشير فقط إلى الطريق" بل لابد من العمل على اكتساب هذه الحرية فهي ليست هبة أو منحة من أحد، والنظام الذي سلب الحرية والديمقراطية والعدالة أكثر من ربع قرن لن يعطينا إياها على طريقة أفلام السينما حين يستيقظ ضميره! لن نقول عدل الدستور فيقول لنا طلباتك أوامر فهذه أحلام طفولية، لابد من النضال ودفع ثمن هذه المطالب. ليس من الصحيح أن مشكلة مصر تتلخص في غياب (الديمقراطية – العدالة الاجتماعية) ثم نقطة ومن أول السطر، فالمشكلة الثالثة قد تكون أخطر من المشكلتين السابقتين وهي تحقيق الاستقلال الوطني .. فأي رئيس لأي دولة لابد أن يطرح على ناخبيه تصوره للأمن القومي ولابد أيضا أن يشترك معه أبناء شعبه في تصوره للأمن القومي لأنه وحده لن يستطع مهما كانت قدراته في حماية هذا الأمن .. حماية الأمن القومي مسؤولية أمة وليس فرد .. مسؤولية شعب قبل أن يكون مسؤولية حكومة .. وبالتالي لابد من تحديد العدو الاستراتيجي لأي أمة الذي بالنسبة لنا هو إسرائيل بكل وضوح، وكما نعلم جميعا أن اتفاقية كامب ديفيد هي ما يحدد العلاقة بيننا وبين إسرائيل على أساس "صديقي بيجن" كما قال السادات وليس عدوي الصهيوني كما يجب أن يقال!، وبالتالي من يريد أن يحكم مصر لابد وأن يعلن قبلها أنه سيعطي للشعب القرار بإعلانه طرح كامب ديفيد على الاستفتاء الشعبي، فالشعب حامي الأمن القومي كما ذكرت، والشعب المصري بطبيعة تكوينه جينيا يكره إسرائيل ويتعاطف مع الأشقاء في فلسطين والعراق، وبالتالي حتى من المنطق الديمقراطي الكامل لن تستقيم مصالح إسرائيل مع الديمقراطية في مصر.. يجب على من يعتقد أنه قادر أن يحكم بلدا كبير المكانة في الجغرافيا وعظيم الأثر في التاريخ أن يعلم جيدا أن استقلال القرار السياسي لا ينفصل عن استقلال الأرض. اليوم 9 مارس وهو ذكرى ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر .. رفعت الجماهير – وقبل أكثر من 90 عاما – شعار "الاستقلال والدستور" وأجدنا اليوم وبعد أكثر من 90 عاما يجب علينا أن نرفع هذا الشعار كاملا وليس نصفه فقط! القاهرة في 9 مارس 2010م