البلاغ الصادر عن وزارة الداخلية ضد حزب العدالة والتنمية يستبطن لغة سياسية مليئة بالمزايدات الرخيصة التي لا تتناسب مع حجم هذه الوزارة والوظائف الموكولة إليها، والتي تتطلب منها الحياد والتريث قبل اتخاذ مثل هذه المواقف العدائية. التصريحات التي أدلى بها الأستاذ عبد الإله بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية بخصوص أحداث 16 ماي نابعة من تساؤلات مشروعة يطرحها العديد من المراقبين. لقد مرت بنا سبع سنوات عن التفجيرات الإرهابية التي حصلت بالدار البيضاء، وهي مناسبة لإعادة تصفح هذا الكتاب الغامض ومحاولة فك ألغاز هذه الأحداث التي باتت محطة للتأريخ لمسلسل من التراجعات التي همت الواقع السياسي والحقوقي بالمغرب. لقد مثلت هذه التفجيرات صدمة للمجتمع المغربي الذي لم يسبق له أن عايش مثل تلك الأفعال المدانة بجميع المقاييس الدينية والقانونية والأخلاقية، والتي ذهب ضحيتها مواطنون أبرياء تواجدوا بالصدفة خلال ليلة الجمعة 16 ماي 2003، بأماكن استهدفها إرهابيون، كما خلفت آثارا اجتماعية ونفسية وكانت لها انعكاسات سياسية واضحة، خصوصا ضد حزب العدالة والتنمية الذي استغلت ضده هذه الأحداث بشكل حقير. لقد أقرت الدولة في أعلى مستوياتها بوجود اختلالات في تدبير هذا الملف، كما سبق لرئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أن صرح بأن متابعات ما بعد 16 ماي كانت محفوفة بقمع كبير، كما سجلت تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والوطنية مجموعة من الانتهاكات التي شابت هذه المتابعات. نعم، لقد كان من الطبيعي أن تقوم الأجهزة الأمنية بواجبها في متابعة المتورطين في هذا الفعل الإرهابي، لكن علينا أن نعترف بأن دائرة الاعتقالات تميزت بالكثير من العشوائية وخلفت العديد من الضحايا وتميزت بالكثير من التجاوزات والانتهاكات على حساب حقوق الإنسان وتعهدات الدولة في هذا المجال. واليوم، بعدما أصبحنا على بعد مسافة زمنية من هذه الأحداث الأليمة وبعد مرور سبع سنوات، من واجبنا أن نطرح مجموعة من الأسئلة حول تلك الأحداث وحول من كان يقف وراءها بشكل فعلي، فمن حق المغاربة أن يعرفوا الحقيقة كاملة.... نعم، يعلم الرأي العام الوطني بأن تفجيرات 16 ماي قام بتنفيذها 14 شخصا انتحاريا، هذه المجموعة كانت على صلة ب”زعيم” واحد يسمى عبد الفتاح، اختفى فجأة ولم يظهر له أثر، ومن المؤكد أنه يمثل صلة الوصل بجهة ما، لكن المنفذين كانوا يجهلونها..!! الأسباب التي دفعت محمد العماري (الشاب الذي تراجع عن تفجير نفسه في آخر لحظة) وإخوانه إلى القيام بهذه التفجيرات هي التأثر بما يجري في فلسطينوأفغانستان.. لكنه تراجع (حسب قوله) عن القيام بتفجير نفسه في آخر لحظة عندما وجد نفسه داخل الفندق أمام مسلمين... بمعنى أن المنفذين خضعوا لعملية غسل دماغهم من قبل جهة ما لم تعرف بعد، هي التي أقنعتهم بأنهم بصدد تنفيذ عملية “جهادية” ضد الصهاينة المغتصبين....!! وزارة الداخلية التي تقول بأن هذا الملف تم طيه بمجرد صدور أحكام القضاء، نسيت بأنها مرة كانت تعتبر هذه المجموعة مرتبطة بأيادي خارجية!! ومرة تقول بأن الأمر يتعلق بجماعات متطرفة داخلية، لكنها إلى اليوم لم تقدم لنا الدليل القاطع عن الجهات التي كانت وراء هذه الأحداث.. إن هناك حاجة ماسة إلى ضرورة إعادة فتح ملف 16 ماي من جديد، وطرح كل الاحتمالات الممكنة وإعادة فحص جميع الأدلة من جديد، بعيدا عن المقاربة الانفعالية المتسرعة التي لا تخدم معرفة الحقيقة..حقيقة من كان وراء أحداث 16 ماي... الحقيقة التي لم تكشف عليها أحكام قضائية اختل فيها ميزان العدالة بشكل واضح.. وكثيرة هي الملفات التي عرضت على القضاء وصدرت بصددها أحكام قضائية، لكنها ظلت مع ذلك موضوعة على جدول أعمال الفعل الحقوقي الوطني الذي ظل يطالب بمعرفة حقيقتها رغم مرور أكثر من أربعين سنة وليس فقط سبع سنوات ولا زالت مطروحة إلى اليوم (ملف الشهيد المهدي بنبركة)... من المؤكد أن هذه الأحداث استغلت أيضا وبشكل مبالغ فيه لتجفيف ينابيع أنماط من التدين السلفي لا يوجد أي دليل على انخراطه بشكل منهجي في عمليات إرهابية.. ومن المؤكد أن هناك مجموعات ليست لها علاقة مباشرة بالعنف وإنما ذهبت ضحية لخلفيتها الفكرية، ولم يسبق لأفرادها أن تورطوا بشكل مباشر في أي عملية عنف أو إرهاب: من بين هؤلاء من سبق لهم أن حارب في أفغانستان بتيسير من السلطات المغربية وبمباركة من الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت تخوض بهم حربا بالوكالة آنذاك ضد “العدو” السوفيتي، ومنهم من اعتقل قبل أحداث 16 ماي الإرهابية وركبت له تهمة المشاركة والتخطيط لأحداث 16 ماي (حالة حسن الكتاني وأبو حفص رفيقي) ومنهم من عبر بشكل أو بآخر عن رفضه للتدخل العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان وعن مساندته لأسامة بن لادن في معركته ضد الأمريكيين، ومنهم من وقف محتجا في شارع محمد الخامس بالرباط ضد الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وتناقلت صوره وكالات الأنباء العالمية فوجد نفسه معتقلا بجريمة الإشادة بالإرهاب (حالة رضا بنعثمان)، ومنهم من فتح حوارا داخل مدونته الإليكترونية لرفض السياسة الأمريكية والدعوة لمقاطعة بضائعها فوجد نفسه مدانا بجريمة الإرهاب.. إن رصد واقع الانتهاكات التي تراكمت بعد أحداث 16 ماي الإجرامية يكشف عن تراجعات حقيقية تمثل انزياحا واضحا عن مسار التطور الطبيعي الذي كان مأمولا بعد فتح صفحات ماضي الانتهاكات واعتماد آلية الإنصاف والمصالحة لطي ملف سنوات الرصاص. لكن ظاهرة الاختطافات والاعتقالات التعسفية استمرت بعد صدور التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة، وظلت المنظمات الحقوقية تتوصل باستمرار بمجموعة من الشكايات لمواطنين اختفى أقرباء لهم لمدة شهر أو شهر ونصف أو شهرين قبل أن يتم الإعلان عن تقديمهم للمحاكمة بتواريخ ليست هي التواريخ الحقيقية لاعتقالهم، كما تم تسجيل عودة الاعتقال لأسباب سياسية ومن ذلك اعتقال مناضلين معروفين بمواقفهم السياسية وبانتماءاتهم السياسية المعتدلة (المعتقلين السياسيين الستة)، كما تسجل آليات الرصد الحقوقي استمرار ظاهرة التعذيب داخل مخافر الشرطة النظامية وغير النظامية وداخل المؤسسات السجنية، واستمرار تدهور الأوضاع داخل السجون وسيادة أشكال المعاملات المهينة والحاطة بالكرامة مثل الضرب والتعذيب والإهانة، من طرف بعض المسؤولين. معرفة من كان وراء أحداث 16 ماي قضية حقوقية وسياسية تندرج في سياق البحث عن الحقيقة.. حقيقة المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة في مجال حقوق الإنسان.. حقيقة المسؤولين عن التراجعات التي همت المسار الديموقراطي، والتي بدأ التأريخ لها منذ ليلة 16 ماي ..ليلة الأحداث الأليمة التي لا زالت غامضة إلى اليوم.. * عضو الأمانة العامة للحزب