كثيرة هي المؤشرات التي تضع المنطقة على فوهة بركان ،فالتهديد و الوعيد في خطاب المسئولين الأمريكيين ضد إيران لم يعد سرا ، ففي سابقة من نوعها كشف الأدميرال مايك مولن رئيس هيأة الأركان الأمريكية ، أن لدى بلاده خطة لشن هجوم عسكري على إيران . و يعتبر هذا التصريح خطوة متقدمة ،تجاوزت اللغة التي درجت الإدارة الأمريكية على استخدامها ، حيث ظلت في السابق وفية لعبارة ” كل الخيارات ممكنة في إدارة الملف النووي الإيراني ” ،و هو التعبير الذي ظل يلخص لعبة الشد و الجذب التي دامت لأكثر من عقد زمني بين الولاياتالمتحدة و إيران . و في الصورة ،توجد إسرائيل التي تضغط على الولاياتالمتحدة لحملها على شن عدوان على إيران ،و إدراكا منها أن مغامرة الحرب قد تكون أفضل و أجدى من تجنبها خاصة و أن إسرائيل تعيش مثقلة بخيبات حربين متتاليين ، الأولى مع حزب الله و الثانية مع حركة المقاومة الإسلامية حماس .و جراء هذا الإذلال الذي تجرعته إسرائيل على أيدي المقاومة اللبنانية و الفلسطينية فلن يهدأ لها بال حتى تبلغ مرادها بجر المنطقة إلى حرب جديدة ،انتقاما لاستكبارها و علوها اللذين هوى منسوبهما إلى درجة الصفر و بحثا عن رد الاعتبار لأسطورة جيشها الذي تناثرت أشلاؤه و سقطت هيبته ،و هي الأسطورة التي ساهم النظام الرسمي العربي بقسط وفير في الترويج لها ،عبر ثقافة الاستسلام و إسقاط المواجهة كخيار من قاموسه السياسي . فهل تقدم أمريكا أوباما على حرب مع إيران استجابة لضغط اللوبيات الإسرائيلية ؟ و هل تقوى هذه الدولة الجريحة على خوض حرب ثالثة في أقل من عقد زمني ؟ لنتأمل إذن ،هذه الأسئلة من خلال هذه الإطلالة السريعة لنتائج غزوين ،و لنتفحص مآلات المشاريع السياسية الأمريكية في المنطقة . إن المعطيات المادية على الأرض تفيد بغرق الجيوش الأمريكية في وحل مستنقعين لا حد لهما :الأول في أفغانستان و الثاني في العراق ،و في كلا المستنقعين دفعت الولاياتالمتحدة ضرائب باهظة في الأرواح كما في الإنفاق المالي و اللوجستي . و ها هي اليوم تدبر هروبها الذليل بعد ما تركت وراءها دمارا إنسانيا و حضاريا رهيبا، تعجز فرق الإحصاء العالمية عن تقدير ثمنه الرمزي و المادي. • ففي العراق الذي كانت جماعة جورج بوش تعد أبناءه بالديمقراطية مع التأكيد هنا على أن هذه الأخيرة لم تولد قط من بطن الدبابات و الطائرات الحربية التي أمطرت مدن العراق بوابل من القنابل المحرمة دوليا ،فقتلت و شردت أطفال و نساء بلاد الرافدين و سممت مياهه و أحرقت زرعه و نخيله لم يشهد لا ديمقراطية و لا هم يحزنون ،فعراق ما بعد الغزو تتقاذفه اليوم الفوضى العارمة و يلقى أهله صعوبات كبيرة في تشكيل حكومة تجمع أطيافه و أحزابه السياسية بفعل الاحتلال الذي سعى منذ وطئت أقدامه أرض العراق إلى إيقاظ كل أنواع الفتن الطائفية و بث النزعات العدائية بين أبناءه . وهاهي الحقائق تنفجر في وجه الأمريكان و الشهادات تتوالى لتؤكد أمام الجميع كما هو حال لجنة التحقيق البريطانية “تشيلكوت” أن العراق لم يكن لديه لا أسلحة دمار شامل و لا علاقة و لا صلة تربطه بتنظيم القاعدة و أن كل المعلومات التي تم ضخها في تلك الفترة كانت مجرد خديعة كبرى لتبرير غزو عدواني ،يهدف إلى إحكام القبضة الأمريكية على المنطقة و نفطها و توفير الحماية لإسرائيل . و ما عاشه العراق و لا يزال من جراء الاحتلال الأمريكي يذكرنا بما عاشته البشرية في العهود المظلمة تحت نير الاستعمار الغربي و تحديدا ، الفرنسي و البريطاني . فالديمقراطية التي يعيشها الغرب و يدبر بها شؤونه الداخلية ليست بالمطلق على قائمة أولوياته بالنسبة لشعوب العالمين العربي و الإسلامي و التي لا يرى فيها الغرب سوى مناطق نفوذ لامتصاص الثروات و استغلال الخيرات و إلا كيف يمكننا تفسير هذه الفاشية الجديدة التي تضرب في كل مكان و تنشر الرعب و الفوضى باسم الحرب على الإرهاب ، و تغمض العين بل و تشجع عددا من النظم التي انتزعت السلطة بطرق لا تمت إلى الديمقراطية بصلة كما هو حال العديد من النظم العربية و الإفريقية .لذا فغزو العراق كان بدافع الهيمنة و حماية مصادر النفط و تغيير وجه المنطقة لإطلاق مشروع الشرق الأوسط الجديد و الكبير و لاستنبات لإسرائيل كيانا “طبيعيا “في المنطقة . أما في أفغانستان و التي اعتبرها الرئيس باراك أوباما الساحة الحقيقية لمطاردة تنظيم القاعدة و طالبان فالجيوش المحتلة هناك ليست على أحسن حال ،فالخسائر مرتفعة و الفضائح تطارد إدارة أوباما . و هاهو موقع “ويكيليكس” يمطرنا بحقيقة الوضع في هذا البلد الذي استعصى إخضاعه من قبل كل القوات الغازية على امتداد الأزمنة التاريخية ، وبعكس ما تروج له آلة الإعلام الغربي حفاظا على معنويات الجنود المنخفضة أصلا ،فالصعوبات تزداد خطورة أمام جنود الاحتلال ،فلا تقدم يذكر لقوات الناتو و جيوش الولاياتالمتحدة التي ارتفع عديدها في عهد باراك أوباما كما ارتفعت نسب فشلها .فقبل الزلزال الذي أحدثه موقع “ويكيليكس” بنشر حوالي 90 ألف وثيقة تنتهي جميعها إلى تأكيد حقيقة واحدة طالما شدد عليها مجموعة من الخبراء و الباحثين مفادها أن الحرب في أفغانستان تعتبر حربا خاسرة و لا يمكن كسبها بأي شكل من الأشكال مع شعب له تقاليد عريقة في صد الغزاة و دفعهم ،شعب ظل يردد بدون كلل و على امتداد تسع سنوات في وجه الاحتلال الأمريكي “لديكم الساعة ،لدينا الوقت ” “you have a watch,we have a time ” “سنحاربكم حتما ستدحرون و ترحلون من بلادنا “. و الذي يتأمل تاريخ أفغانستان سيجد أن هذا البلد تعرض لحملات غزو عديدة ، لكن في النهاية كان مآلها الفشل و الهزيمة . و هذه حقيقة تجاهلتها إدارة بوش كما تجاهلتها إدارة أوباما و ها هو الكاتب الطاهر بنجلون في يومية لومند الفرنسية يتمنى لو أتيحت له الفرصة لمهاتفة الرئيس باراك أوباما لبضع دقائق ليقول له شيئا بسيطا وواضحا “انسوا أفغانستان ؟ لن تنتصروا أبدا في هذه الحرب ” و هاهو GILLES Dorronsoro من معهد كارنيغي يعتبر في نفس اليومية أن “الحل الأقل كلفة بالنسبة لقوات التحالف يتمثل في التفاوض من أجل اتفاق مع حركة طالبان يضمن لها المشاركة في الحكومة و تتعهد فيه من جهتها بعدم السماح بعودة تنظيم القاعدة إلى أفغانستان ” . فأين هي قوات الاحتلال من الأهداف المرسومة سلفا فلا أسامة بن لادن تمكنت من الوصول إليه لا حيا و لا ميتا على حد تعبير جورج بوش و لا حركة طالبان خبا نجمها حتى باستعمال أطنان من السلاح و القنابل المحرمة دوليا و النتيجة الوحيدة الماثلة أمامنا هي تحديد صيف 2011 للشروع في جلاء قوات الاحتلال من أفغانستان مع إعلان روبير غيتس وزير الدفاع الأمريكي لمجلة ” Foreign affairs ” عن رغبته في التنحي عن منصبه العام المقبل . هذه هي حصيلة حربين خاضتهما الولاياتالمتحدة لقرابة عقد زمني دون أن يتحقق حلمها في تعزيز و تأييد جبروتها على الساحة الدولية . و بالعودة إلى التساؤلات التي انطلقنا منها في بداية هذه المقالة و لاستكمال الصورة و في نفس السياق نضيف إلى ذلك عناصر تشكل مجتمعة معطيات معاكسة لما تشتهيه السياسة الأمريكية و الإسرائيلية في المنطقة . العنصر الأول : يتعلق بالاشتباك الأخير الذي دار بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي ، و بعيدا عن اقتلاع شجرة فإن الجيش الإسرائيلي كان بصدد جس نبض و اختبار استعداد المقاومة و في نفس الوقت معرفة رد فعل الجيش اللبناني على التطاول على سيادة لبنان ، فكان أن حصل ذاك الاشتباك البطولي للجيش اللبناني الذي مثل صدمة كبرى للإسرائيليين و الأمريكيين حيث دعا بعض المسئولين الأمريكيين و من بينهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونكريس هاورد بيترمان إلى تجميد تمويل قيمته 100 مليون دولار كان مرصودا لتسليح الجيش اللبناني . و الواقع أن هذا الاشتباك المسلح أنهى لغة الإدانات و إصدار البيانات ورفع شكاوى في أحسن الأحوال إلى مجلس الأمن و اعتمد لغة الرد و الذود عن أمن و كرامة لبنان و أسقط رهانا أمريكيا و إسرائيليا ينهض على زرع بذور الشقاق بين الجيش و المقاومة . و هو كذلك من الناحية السيكولوجية و الإستراتيجية يسير في اتجاه تأكيد أن إسرائيل لم تعد يدها كما كانت في السابق مبسوطة بل صارت مغلولة إلى عنقها بفضل التضحيات الجسام للمقاومة الفلسطينية و اللبنانية . العنصر الثاني : و هو المرتبط بالمستجدات و التطورات على الساحة اللبنانية باعتبارها واحدة من أهم الساحات التي حاول من خلالها الأمريكيون و الإسرائيليون تجريب كل رهاناتهم لتفتيت وئام لبنان وزعزعة وفاقه الوطني .فالساحة اللبنانية اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه قبل و أثناء العدوان .إذ العلاقة بين مكونات الساحة اللبنانية تتجه نحو تغليب المصلحة الوطنية ،فحزب الله و التيار الوطني الحر و حركة أمل باتت علاقاتهم أفضل مع تيار المستقبل الذي يتزعمه سعد الحريري ، كما أن الحزب الاشتراكي التقدمي الذي يرأسه وليد جنبلاط أنهى قطيعته مع سوريا و حلفائها في لبنان ،مقلعا بذلك عن لعب دور الخصم اللدود لسوريا. و إذا أضفنا إلى هذا كله الزيارة التي قام بها العاهل السعودي الملك عبد الله و الرئيس بشار الأسد إلى لبنان فإن أبواب الفتنة أصبحت موصدة في وجه المحاولات الأمريكية و الإسرائيلية : و التي كان آخرها ذلك التسريب الذي تصدر الصحف الإسرائيلية زاعما أن الاتهام الضني للمحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري سيشمل أعضاء من حزب الله . و هو اتهام خطير الهدف منه إلصاق تهمة إراقة دم الحريري و لما يرمز إليه من تمثيلية للطائفة السنية بشيعة لبنان للحيلولة دون أي تفاهم سني شيعي و للمحافظة على الطائفية كمفجر للأوضاع الداخلية . لكن المؤتمر الصحفي الذي عقده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قلب الطاولة على إسرائيل بتقديمه لقرائن تتهمها بجريمة الاغتيال .و هي القرائن و المعطيات التي تعاطت معها كل التيارات اللبنانية بكثير من الجدية اللهم إذا استثنينا تيار القوات اللبنانية الذي يتزعمه سمير جعجع الخاسر الأكبر من كل التطورات التي يشهدها لبنان و الساحة العربية .و هاهي المعطيات و القرائن تصل إلى الجهات المسئولة عن التحقيق ،و إذا ما توفرت الاستقلالية و النزاهة و ابتعدت المحكمة الدولية عن كل توظيف لا يخدم الحقيقة ،فإن عملها سينتهي حتما إلى كشف الجهة أو الجهات المسئولة عن المآسي التي عاشها لبنان و اللبنانيين . العنصر الثالث و الأخير ،يتمثل في سلة العقوبات التي فرضت على إيران بسبب الشكوك و الشكوك لا غير في برنامجها النووي . ورغم أن الولاياتالمتحدة تمكنت من جر روسيا بدرجة أولى و الصين بدرجة ثانية إلى الموافقة على تطبيق تلك العقوبات ، فإن الولاياتالمتحدة خسرت معركة عزل إيران و تشديد الخناق عليها .فها هي الصين ترفض الاستجابة للضغوط الأمريكية بشأن علاقاتها التجارية مع إيران ، و هاهي روسيا تلتزم أخيرا بتعهداتها و تشرع في شحن محطة بوشهر بالوقود النووي ، معتبرة تشغيل المحطة لا يدخل في دائرة العقوبات المفروضة على إيران . و إذا ما نظرنا إلى تزامن تشغيل المحطة مع إطلاق صاروخ جديد و عزم إيران في الأيام القادمة إطلاق صاروخ من ثلاث طبقات تصل إلى ارتفاع 1000 كلم . ما يعني خروجه من الغلاف الجوي للأرض و كذا الحديث عن تدشين غواصة متطورة محلية الصنع يتبين معه أن إيران عازمة على حماية تقدمها العلمي و التقني عبر تطوير قدراتها الدفاعية و الردعية و هو ما يعني بالحساب السياسي أن الولاياتالمتحدة و الإتحاد الأوروبي فشلا في تحييد إيران و إضعافها في المنطقة . و نصل في النهاية إلى القول أن الحرب على إيران أو حتى توجيه ضربات جوية إلى مواقعها النووية و بالنظر إلى كل المعطيات التي أسلفنا تبدو في الأمد المنظور بعيدة على الأقل ،رغم أن جون بولتون بوصفه واحدا من الصقور التي شاخت ولم تعد تحسن سوى النعيق رأيناه هذه الأيام يستعجل إسرائيل ضرب إيران . و في حالة ما إذا انزلقت إسرائيل إلى هاوية العدوان على إيران فإن هذه الحرب ستكون نتائجها محملة برياح التغيير الذي لن يكون مطلقا في صالح الأمريكيين و الإسرائيليين . عبد الحفيظ السريتي صحفي من المغرب