من جديد، وبكل إصرار وثبات وعزيمة، تمضي جريدة تيفراز/ معالم الريف بالحسيمة، في نشر كتابها الثامن " ابن دراج القسطلي،شاعر الأندلس ولسان الجزيرة الأمازيغي الأصول" ، إيمانا منها بمدى الدور العميق الذي تلعبه في تثبيت أسس العمل الثقافي الجاد بالريف، ومساهمة منها في تدعيم أواصر الثقافة الوطنية المشتركة، فقد دأبت جريدة تيفراز منذ البدايات الأولى للألفية الثالثة على استنان هذا المنهج الفكري القويم، تحذوها في ذلك رغبة عارمة في سبر أغوار المكنونات الثقافية بعناصرها الأنتروبولوجية والسوسيولوجية والتاريخية وتجديد مضامينها على ضوء المستجدات العلمية وبمساهمة أطر ومثقفين مقتدرين يشهد لهم الجميع بمساهماتهم الرصينة التي تستهدف بالأساس التجديد والتراكم الموضوعي، والإصدار الجديد لتيفراز/ معالم الريف، من تأليف المؤرخ والدكتور أحمد الطاهري الذي صدرت له عدة كتب تاريخية هامة من قبيل: " إمارة بني صالح في بلاد النكور" و" المغرب الأقصى ومملكة بني طريف البرغواطية " ..... في بداية التسعينات أصدر الدكتور أحمد الطاهري كتابه " دراسات ومباحث في تاريخ الأندلس" تناول فيه بشكل أساسي التشريع والتطور الفقهي بالأندلس خلال عصر الطوائف والاتجاهات الفكرية بالأندلس في عصر الخلافة، وأدب لحن العوام بالمغرب والأندلس، وفي نظري فإن مؤلفه الجديد هذا يأتي كحلقة ثانية تسلط الضوء على حقل جديد يتعلق بالإبداع الشعري والنثري من خلال شخصية ابن الدراج المتفتقة على روح الابتكار الأدبي، وتتمة تسلسلية بالخصوص لهذا الكتاب المشار إليه، وإن شئنا القول بدون مجازفة أنها تعد بحق مبادرة أولى غير مسبوقة في مجال الدراسات المنجزة حول الأدب بالأندلس، ذلك أن التركيز يتم فقط على بعض الأسماء اللامعة التي لا يمكن أبدا أن نقلل من عمق مساهماتها التراكمية، من قبيل: ابن عبد ربه المؤرخ والأديب، وابن خفاجة الذي اشتهر بوصف الطبيعة في شعره، وابن زيدون الذي خلف ديوانا شعريا من بين ما تضمنه ذلك الشعر الإنساني والاستعطافي عندما أودع في سجن قرطبة بسبب خلافاته مع الوزير ابن عبدوس، وشعره العاطفي حول " ولادة" بنت الخليفة المستكفي. وعليه فإن أستاذنا الكبير أحمد الطاهري عكس الآية، وتوجه صوب الاهتمام بعلم أدبي وشعري خصه بمؤلف كامل، يتعلق الأمر بشاعر الأندلس ابن دراج القسطلي الأمازيغي الأصول، والكتاب من الحجم المتوسط ، عدد صفحاته لاتتجاوز مئة وعشر، إستهله المؤلف بمقدمة، ويشتمل على ثمانية فصول، وبشأن حياة ابن دراج القسطلي فقد ولد ببلدة قسطلة الواقعة بغرب الأندلس في شهر محرم سنة سبع وأربعين وثلاثمائة هجرية الموافقة لشهر مارس عام 958 ميلادية وتوفي عن أربع وسبعين سنة إحدى وعشرين وأرربعمائة هجرية، فهو أمازيغي الأصل أندلسي الموطن عربي الثقافة،وبحسب الأستاذ أحمد الطاهري فهو صنهاجي النسب، إذ تنحدر أصوله من بلاد الريف، من البربر المستقرين بغرب الأندلس، وهو لا يقصد صنهاجة إفريقية الذين تشيعوا للفاطميين خلال نهايات القرن الثالث الهجري كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين، بل ذلك الفرع المختلف، من بربر صنهاجة المستقرين ببلاد الريف شمال المغرب الأقصى. ويتطرق الدكتور أحمد الطاهري إلى أنه ليس من المصادفة أن يكون عباس بن فرناس وابن دراج القسطلي من أشهر شعراء عصريهما، وأن يندرج كلاهما في خدمة السلطان وبالتالي أن يحكم كلاهما لسان العرب وحذق صنعة الشعر الحسن، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يكون كلاهما من أصول بربرية، إذ ينحدر الأول من "برابر تاكرنا" والثاني من صنهاجة قسطلة، مما يفصح عن انخراط النخب المنحدرة من مختلف الإثنيات في صياغة معالم الهوية الأندلسية المتأصلة في الثقافة واللسان العربيين، ويقدم مثالا عن دور المغرب في تجسيد البعد الكوني للثقافة العربية، في تجربة تاريخية فريدة، والشاعر الأمازيغي ابن دراج القسطلي ليس من شعراء عصر الخلافة ولا من شعراء عصر الطوائف، بل من شعراء الفترة الفاصلة بين العصرين، وقد قضى بقرطبة حوالي 22 سنة من أزهى أيام عمره، وبعد أن حاق بها الدمار واحتدت نار الفتنة داخلها واشتد طوق الحصار حول جنباتها، قرر ابن الدراج مغادرتها ، مخلفا وراءه " آنسات الديار نهاب الحمى موحشات الطلول يهيج فيها زفير الرياح" ( ابن دراج: 66 ) . ويمضي الأستاذ أحمد الطاهري إلى التأكيد أنه من الطبيعي والحالة هذه أن تتقهقر وضعية ابن الدراج من شاعر البلاط بقرطبة حاضرة الخلافة الأموية بالأندلس حيث ذاق هو وأسرته حياة النعيم بين القصور الشامخة والدور السنية والرياض الوارفة، ليصبح على حد تعبيره مجرد" نازح متودد" لصاحب سبتة علي بن حمود الذي بقي في كنفه حوالي ثلاث سنوات " غريبا ذليلا" ( ابن دراج: 64 ) يئن بالشكوى من الدهر الظلوم ومن الكرب واليأس ومن الفاقة والحاجة، وهو يحتضن أسرته وصغار أبنائه الذين ظلوا في حجره " حمر الحواصل لا ماء ولا شجر" ( ابن دراج: 450 ) حسبما ضمنه من شعر الحطيئة في قصيدته الرائية الشهيرة التي نظمها خلال ما اعتبره اغترابا بحصن سبتة المنيع ( ص: 48 ) ، ثم عاد ليغترب بألمرية وشرق الأندلس، وانتهى به المطاف إلى سرقسطة التي تحسنت بها وضعيته كثيرا حيث صادف فيها حياة الدعة والسكون فاتخذ له الضياع واشترى العقارات بالبلد، وبرغم الإثنتي عشرة سنة التي أمضاها بسرقسطة، فكثيرا ما كان ينتابه الحنين إلى مسقط رأسه ب" غرب" الأندلس، حيث عاش أحلى سنوات طفولته وشبابه، كما ظل الحنين إلى أيام العز والمجد التي انصرمت إلى غير رجعة ينتابه من حين إلى حين،ويهيج به الشوق والحنين لقرطبة الفيحاء فيعانق تربتها، ومن ثم ذلك الشعور الذي ظل يلازم نفسيته المنكسرة المهيضة الجناح وهو " غريب شريد عن موطنه " . وقد أشار الدكتورأحمد الطاهري إلى أن ديوان القسطلي المعروف عند الأندلسيين ب " شعر أبي عمرأحمد بن الدراج " ظل في حكم المفقود إلى أن عمد محمود علي مكي إلى تحقيقه ونشره في طبعة أولى بدمشق سنة 1962 ، وتم ذلك اعتمادا على نسخة خطية من 122 ورقة كانت بحوزة الفقيه محمد التطواني، وعلى قطعة مخطوطة من ثمانية وأربعين ورقة متفرقة تم الوقوف عليها بمكتبة القرويين بفاس، ويشتمل هذا الديوان على 162 قصيدة تتضمن ما مجموعه 5979 بيتا شعريا، كما عمد محقق الديوان إلى إضافة ملحق يحتوي على ثلاثة قصائد اقتبسها من كتاب " يتيمة الدهر " للثعالبي، وأثبت 59 بيتا إضافيا اقتبسها من الشذرات المتناثرة في مجموعة من المصادر الأدبية، وبذلك يصبح مجمل ما تم ضبطه وتدوينه من الأشعار التي نظمها ابن دراج القسطلي أو نسبت إليه 6038 بيتا، وتركت أشعار ابن الدراج أثرا كبيرا في الأجيال اللاحقة من شعراء الأندلس وأدبائها ومؤرخيها. ( ص : 62 ). ويذكر الأستاذ أحمد الطاهري أن ابن عذاري يعتبر من أبرز المؤرخين المغاربة الذين عمدوا إلى النقل من كتاب ابن حيان المفقود في أخبار الدولة العامرية، وقد اقتبس منه 21 بيتا من أشعار ابن الدراج القسطلي بهدف توظيفها في إثبات جملة من الأحداث التاريخية، ويندرج صاحب كتاب " المعجب في تلخيص أخبار المغرب" ضمن المؤرخين المغاربة الذين أوردوا نتفا من أشعار ابن الدراج وإن كانت في مجملها لا تتجاوز أربعة أبيات أثبتها للاستدلال بها في توثيق بعض الأحداث التاريخية، ويبقى كتاب " نفح الطيب " من أبرز المصنفات المغربية التي احتفظت أيضا بجملة من أشعار ابن الدراج بلغ مجموعها 33 بيتا مستخرجا من 8 قصائد مختلفة للاستدلال بها كحجج في سياق الأحداث التاريخية. كما ناقش الدكتور أحمد الطاهري التضارب الحاصل بين مختلف النقاد والدارسين للأدب أجانب أوعربا ومسلمين بخصوص القيمة الفنية والجمالية التي تنطوي عليها أشعاره وكتاباته النثرية، فإذا كان هناك من عمد إلى إنكار وجود أي قيمة لها، فإن الناقد والباحث الفرنسي " هنري بيريس " أكد بما لا يدع مجالا للشك، أنه من خلال إمعان النظر في مضامين جملة من قصائد ابن دراج القسطلي، يمكننا الوقوف على أبيات كاشفة عن عمق مشاعره الإنسانية ( بيريس: 48- 49 ) وعن مظاهر العشق والوجد في نفسية الشاعر الجياشة تجاه مدينة قرطبة، ولم يدخر هذا الباحث وسعا في تأمل الصورة الفنية الرائعة التي صاغها الشاعر في مشهد فريد من نوعه، وإبراز المعاني الغريبة التي استعملها ابن دراج في وصفه لبعض الأزهار، وعاين الفرنسي " هنري بيريس " من خلال أشعار ابن دراج، الآثار المأساوية التي خلفتها الفتنة القرطبية في نفسية الشاعر، والانفعالات العميقة التي هزت كيانه على إثر فراق زوجته وأبنائه، ولم يغفل القراءة في الأساليب التي استعملها الشاعر لتجسيد الموت في إحدى مشاهير مراثيه، وقد بلغ إعجاب هذا الباحث بالتشبيهات المستعملة في شعر ابن دراج، أن اعتبر ذلك" مما لا مثيل له في الادب العربي " ( ص : 73 ) . ومن جهة أخرى فقد اعتبر المستعرب الإسباني "إيميليو غارثيا غومس" في دراسة صدرت له بمدريد سنة 1930 ابن دراج القسطلي" من أكبر شعراء عصر الخلافة بالأندلس"، وبرغم كونه شاعرا رسميا مختصا في أمداح الملوك، فقد اعتبر المؤلف أحمد الطاهري أنه لا نبالغ إذا اعتبرنا ابن دراج القسطلي خاتمة كبار شعراء عصر الجماعة، أيام عز العطاء الحضاري بالأندلس، وبالتالي إذا أمعنا النظر في مضامين قصائد ابن الدراج تتضح رحابة آفاقه المفتوحة على الأديان السماوية والحضارات القديمة البابلية والفرعونية والإغريقية والرومانية، فضلا عن تواريخ البربر والقوط والروم والأتراك واليهود والصقالبة وأيام العرب بالجاهلية، وماجريات الأحداث والوقائع المرتبطة بتاريج الإسلام منذ البعثة النبوية، وتابع التطورات اللاحقة في ظل الخلافتين الأموية بدمشق والعباسية ببغداد إلى عصر سيف الدولة الحمداني ببلاد الشام. ونافلة القول، فإن كتاب الدكتور أحمد الطاهري يجمع بين اللوحة الفنية و الأدبية الجميلة، وبين السجل التاريخي الدقيق الذي يؤرخ لفترة زمنية هامة حبلى بالتطورات والأحداث السياسية والاجتماعية انطلاقا من القيمة الشعرية لشخصية أدبية تنحدر من أصول أمازيغية تنتمي إلى شمال المغرب، والكتاب أيضا ينتقل بنا عبره صاحبه إلى فضاءات منهجية ومعرفية جديدة لم نألفها من قبل، خلال مختلف قراءاتنا وأبحاثنا الأكاديمية في متون الأدب والشعر التي تعودنا فيها على الالتقاء بأسماء من طراز أبو البقاء الرندي وابن هانئ الأندلسي وابن سهل وابن شهيد وابن سعيد المغربي وغيرهم من المبدعين والكتاب الذين عاشوا بالأندلس. فهذا أبو البقاء الرندي يبكي بألم وحرقة المدن الأندلسية التي سقطت في يد ملك قشتالة الإسباني "فرناندو الثالث":قواعد كن أركان البلاد فما عسى " " البقاء إذا لم تبق أركان.وقبله في القرن الرابع الهجري أعلن شاعرنا ابن دراج القسطلي في شعره شوقه وحنينه إلى الأندلس عامة وغربه بالخصوص :لله ما رحلت إليك رحاله " "فطوى المهامه نصه وذميله.