تشهد بنية النظام الدولي الراهن مخاضا عسيرا و تحولات عميقة و سريعة في اتجاه تجاوز البنية القديمة القائمة على الأوحادية القطبية و هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية و معها المنظومة الغربية على قرار السلم و الحرب الدوليين، إلى بنية جديدة قوامها تعدد الأقطاب و ما يعنيه ذلك من مزاحمة و تقليص للدور الأمريكي بصعود قوى و تكتلات جديدة على المسرح الدولي بهدف التأثير على عملية صنع القرار الدولي سواء إقليميا أو دوليا، من جهة أخرى فإن تسخين مجموعة من الجبهات و تسعيرها هو بمثابة تعبير صارخ عن مستوى و حدة الصراع بين المتشبثين بمعادلات النظام الدولي الأوحادي القطب المكرس لتفوق أمريكا و الغرب، و بين القوى التي تتطلع إلى إرساء نظام دولي متعدد الأقطاب يسمح للكثير من الفاعلين الدوليين و الإقليميين للتعبير عن رؤيتهم المستقلة لماهية العلاقات الدولية بعيدا عن منطق الهيمنة و السيطرة، و لعل الأزمة الأوكرانية الحالية و قبلها الأزمة السورية من أوضح مصاديق هذا المخاض العسير. فبانتقال الصراع الروسي –الأمريكي من ميادين سوريا المتعافية إلى ميادين أوكرانيا مرة أخرى و التي تعد بمثابة محيط حيوي لموسكو، تكون العلاقات الدولية المعاصرة قد دخلت في جولة جديدة و خطيرة في آن واحد من عدم الاستقرار الذي لا شك أنها ستشكل سمة أساسية لها لمدة ليست بالقليلة في أفق استقرارها النهائي، فتجاوز نظام هيمنة القطب الوحيد على العالم من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية و الاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب عسكريا و اقتصاديا و ثقافيا لا بد أن يحدث على طول المسافة الفاصلة بينهما كثيرا من الهزات و الارتجاجات الحادة على المسرح الدولي، و لعل الأزمة السورية التي شكلت فرصة مواتية للدب الروسي للخروج من سباته الشتوي و البروز كقوة دولية مؤثرة من جديد ،كانت من أبرز هذه الرجات التي تعكس صراعا محتدما بين القوى الصاعدة و الولاياتالمتحدةالأمريكية و التي استطاعت فيها روسيا و حلفائها إيقاف الزخم الذي طبع القوة الأمريكية منذ انهيار الاتحاد السفياتي و هزم مشروعها الذي كان من بين أهدافه الرئيسية التفرغ للمسألة الروسية و تطويقها في أفق إيقاف استفاقتها و إعادتها إلى سباتها العميق مرة أخرى، سواء بالقوة الناعمة أو بالقوة الصلبة، و لقد دفع هذا التعثر المرير و المحرج لكبرياء أقوى بلد في العالم إلى إعادة تجريب فتح الملف الأوكراني و محاولة ضمها إلى حلف الشمال الأطلسي والعبث بالحديقة الخلفية للدب الروسي بشكل مريع هذه المرة في أفق التفرغ للعملاق الصيني الذي يشكل تحديا استراتيجيا للقوة الأمريكية. إن قراءة موضوعية للازمة الأوكرانية في بعدها المتعلق بالصراع الروسي-الأمريكي لا يمكن التوصل إليها بدون استحضار المحاولات الأمريكية الحثيثة لواشنطن منذ انهيار الاتحاد السوفيتي من أجل محاصرة روسيا و تطويقها،فمنذ أن شعر الرئيس الأمريكي السابق "رونالد ريغان" بأن الأوان قد حان للانقضاض على الاتحاد السوفيتي و كسر معادلة التوازن التي حكمت العلاقة بينهما حيث تبنت مشروع الدفاع الاستراتيجي التي ساهمت إضافة إلى ظروف وحيثيات أخرى في التعجيل بانهيار الإمبراطورية السوفيتية، لم تنفك أمريكا و الغرب عن العمل على تطويق المحيط الاستراتجي لروسيا باعتبارها وريثا للاتحاد السوفيتي و ذلك عبر استمالة الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى دائرة الغرب و إقامة دروع صاروخية في إطار ما سمي منظومات صاروخية اعتراضية فيها و العمل على إلحاقها بالحلف الأطلسي، هذا دون أن تنسى العمل على تطويق المحيط الأسيوي لروسيا بقواعد أمريكية، مما ولد انزعاجا روسيا شديدا من هذا التوسع الأمريكي الذي يحاول خنق روسيا و الذي ظهر للعلن مع تولي "بوتين" لرئاسة روسيا حيث تساءل بمناسبة احدى مؤتمرات "ميونيخ" بألمانيا: ضد من يوجه هذا التوسع؟ ليجيب مؤكدا بأنه موجه ضد روسيا، كما سبق للرئيس االروسي أن رفض بشدة توسع حلف شمال الأطلسي شرقا، واتهم الغربيين بالحقد والكذب على بلاده ومضايقتها إلى حد أنهم "وصلوا لعتبة بابنا" كما وصف الروس الأميركيون بالكذب على روسيا بوقاحة حيث عملوا على توسعة الناتو شرقا باتجاه الحدود الغربية لروسيا عبر مراحل متعددة و متدرجة، إن كل هذه المواقف الروسية و التي تؤدي إلى نتيجة واحدة ألا و هي عدم السماح لحلف الشمال الأطلسي بالتمدد شرقا و ذلك عبر البوابة الأوكرانية لما يشكله ذلك من تهديد استراتيجي خطير على مستقبل روسيا و دورها في النظام الدولي، و هذا يبرر حجم الحزم الروسي في هذه المسألة و إلا سيأتي اليوم الذي تكون فيه مضطرة إلى الدفاع عن نفسها و لكن هذه المرة على أبواب موسكو، و من هنا يمكن القول بأن الأزمة الروسية الأمريكية الأخيرة و التي تدور وقائعها على المسرح الأوكراني هو بمثابة انعكاس لصراع غربي-روسي محتدم ذو بعدين أساسين، يتمثل الأول في صراع المصالح القومية و الإستراتيجية للدول، و الثاني يتعلق بالصراع على تثبيت المعادلات الجديدة على المسرح الدولي و التي تسير بالعالم بشكل ثابت نحو ولادة عالم متعدد الأقطاب و ما يقابله من استماتة من أجل إجهاض هذا الاتجاه و إعادة العالم نحو الأحادية القطبية و تكريسها من جديد. غني عن البيان أن حسم الصراع على شكل النظام الدولي بشكل جذري يقطع مع نظام الأوحادية القطبية ستكون له تداعيات عميقة على مروحة واسعة من القضايا الدولية و التي ستبدأ بالسياسة و لا تنتهي بالاقتصاد، و بالتالي فان مرحة الحسم هاته سيكون لها صدى في كثير من مناطق العالم و للأسف ستكون منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقا احد أبرز الساحات المتأثر بهذه التغيرات الدولية، تماما كما تردد صدى انهيار الاتحاد السفياتي في ارجاء شرق أوربا على شكل ثورات ملونة، وفي هذا السياق فان الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها لن تسلم من هذه التداعيات، ففقدانها للزعامة الدولية يعني فيما يعنيه فقدانها للهيمنة و السيطرة، و بما أن الولاياتالمتحدة نظام قائم على الهيمنة و تسخير نتائج هذه الهيمنة لضبط إيقاعاتها الداخلية، لكم أن تتخيلوا حجم الكارثة التي ستحل بالداخل الأمريكي و بالتالي بمستقبلها كدولة مركبة ، و هذا ما يفسر و يبرر في مستوى معين حجم الاستماتة الأمريكية و شراستها في الدفاع عن منظومة الهيمنة و معادلاتها الحالية. خلاصة القول هو أن السياسة الدولية الراهنة تعج بالأحداث و الوقائع المزدحمة و الساخنة لعل أبرزها الآن ما يقع في أوكرانيا، بحيث أن هذه الأحداث تعمل على الحفر بشكل حثيث في بنية النظام الدولي و في اتجاه إخراجه من شكله النمطي الأوحادي إلى فضاءات أكثر رحابة تسمح بتعدد الفاعلين و الأدوار الدولية و الإقليمية للتعبير عن نفسها بشكل مستقل و منافس للقوى التقليدية، فقوانين التاريخ و علم الاجتماع و منطق الأمور يؤدي بنا إلى القول بأن التدافع بين الأمم دائما ما يؤدي إلى تغيرات و تبديلات في موازين القوة الحضارية و الثقافية و العسكرية و الاقتصادية بشكل يفسح المجال لولادة قوى جديدة فتية و يعلن عن أفول نجم قوى وصلت حد الشيخوخة، و ذلك خلافا لنظرية نهاية التاريخ لصاحبها "فرانسيس فوكوياما" و التي حاول فيها إيقاف عجلة التاريخ و تتويج نظام الهيمنة الأمريكية و نموذجها الديمقراطي الليبرالي بشكل نهائي و أبدي.