يبدو ان معضلة الشعوب الاسلامية اكبر بكثير في أن تختزل في ما تشهده بعض الدول الاوروبية من توتر مع مسلميها ومسلمي العالم.وأن ما يتم تداوله حاليا عبر وسائل الإعلام التقليدية و وسائط التواصل الإجتماعي من أخبار ومواد تحريضية تؤجج الصراعات الدينية بين الشعوب ما هي إلا إنعكاس لحالة الإحتقان السياسي في العلاقات الدولية ،خاصة في شرق المتوسط ،والفشل في حل الأزمات التي تعتصر هذه العلاقات التي إمتزج فيها الديني والطائفي بالمصالح الجيو سياسية للقوى الدولية والأقليمية .والتي شكلت فيها الحالة الإيمانية الجمعية لدى شعوب العالم الاسلامي تربة خصبة قابلة لتأجيج الشعور الديني والطائفي ، وتوظيفه تارة من طرف انظمة الحكم بهدف صرف نظر مجتمعاتها عن أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،و إضفاء الدعم الشعبي على ما تنتهجه من سياسات داخلية و خارجية .و تارة أخرى من طرف القوى الغربية وذلك إما بشكل استفزازي كما حدث بفرنسا عندما أقدمت هذه الاخيرة على السماح بنشر رسومات مسيئة بالرسول محمد ،كشخصية مقدمسة لدى جميع المسلمين، تحت دواعي حرية التعبير وإعمالا لقانون العلمانية.ضاربة بعرض الحائط مبدأ حرية المعتقد، وما يمليه من حماية لهذه المعتقدات عبر حماية رموزها .هذا في الوقت الذي يبدو فيه هذا القانون عاجزا أمام الديانة اليهودية المحمية بقانون تجريم معاداة السامية . أو ىتدخلات مباشرة تؤجج الصراعات المذهبية و الطائفية والاقتتال الداخلي عندما يكون مطلوبا تصفية الحسابات مع من تعتبرهم خصوما من الدول الاسلامية .وفي هذه الحالة تتحول الحالة الايمانية الجمعية، من موقف جماعي ضد ما يعد ازدراء" دار الكفر و "المجوس" لمقدسات المسلمين ،الى حالة إنقسامية داخلية يتم من خلالها إزدراء وتكفير مذاهب بعضهم البعض الى حد الاقتتال وتفجير دور العبادة على رؤوس إخوانهم من المسلمين . لكن لماذا يعيش العالم الإسلامي على وقع الازدواجية بين إنقسامية داخلية الى حد الاقتتال، و حالة إيمانية جماعية موحدة في مواجهة إزدراء الآخر لمقدساتهم؟.وهل ما يقوم به الغرب المسيحي أو العلماني من توظيف للدين الإسلامي سواء بازدراء مقدساته ،أو بتأجيج وتمويل بعض مدارسه المتطرفة يتماشى وطبيعتها العلمانية التي فصلت مبكرا بين الشأن السياسي والشأن الديني ؟.وهل لم تستشعر خطورة ذلك في حال إرتد الوضع عليها، خاصة وأن المجتمعات الغربية أصبحت تضم في نسيجها الإجتماعي نسبة مهمة من معتنقي الديانة الاسلامية ؟.آلا يمكن اعتبار تاجيج الفتن المذهبية، ونهب ثروات شعوب العالم الاسلامي، والإبقاء على حالة الجهل والتخلف غايتها الإبقاء على السيطرة والتحكم كمصلحة مشتركة بين أنظمة الحكم سواء في الغرب او في العالم الإسلامي؟.
فصل الدين عن الدولة المخاضات العنيفة للانتقال. عندما نستحضر تاريخ ظهور الأديان السماوية ،نجد ان الدين الاسلامي لازال حديث النشأة بالمقارنة مع باقي الأديان .وأن المخاض العنيف الذي تمر به المجتمعات الإسلامية لا زال في بداياته ،وأن الاصلاح الديني لازال بعيدا لاعتبارات تتعلق بحالة الجهل والفقر والتخلف الذي تشهده غالبية هذه المجتمعات. هذا بالاضافة الى طبيعة الديانة الاسلامية و ظروف نشأتها التي إرتبطت بالدولة كشأن سياسي على خلاف الديانة المسيحية مثلا. بالتالي إذا كانت عملية الاصلاح الديني في أوروبا المسيحية قد استغرقت اكثر من أربعة قرون. أي منذ ثورة القس مارتن لوثر الذي قام بترجمة الانجيل من اللغة القديمة، التي كانت حكرا على القساوسة ، الى لغة العامة، وذلك بعد قرون من القهر الديني والكنيسي. وطالب بفصل الدين عن الشأن السياسي إعمالا لمبدإ ما لله لله وما لقيصر لقيصر .وهي المرحلة التي شهدت بشكل موازي بداية النهضة الفكرية الاوروبية مع كل ما صاحب هذا المخاض من صراعات فكرية ودينية وسياسية مؤيدة و معارضة لفك الارتباط. .فإن ما نشهده من مخاض وصراعات دينية و مذهبية في مجتمعاتنا الإسلامية ،ليس إلا بداية لمخاض قد يمتد لقرون وطبيعته ستكون أعنف مما عاشته الكنيسة في أوروبا لإعتبارات تعود الى حداثة الدين الاسلامي بالمقارنة مع المسيحية، وطبيعة النشأة المختلفة للديانتين ،و للعلاقة التي ارتبطتا من خلالها بالشأن السياسي . فك الارتباط بين العودة الى أصل الدعوة أوالجهاد . من حيث النشأة يمكن القول ان الديانة المسيحية نزلت في بيئة مدنية تعتمرها قوانين الدولة الرومانية ، وكانت ترايخيا موطنا لأديان مختلفة، و مجالا لتلاقح مختلف الحضارات من الآشورية الى اليونانية والفرعونية .فكان الطابع الدعوي السلمي هو المنهج الذي إعتمدته رغم الاضطهاد والملاحقات المكثفة الذي طال اتباعها من طرف روما منذ حكم نيرون سنة 36 ميلادية الى حدود عهد الامبراطور قستنطين ،الذي كان اول حاكم روماني يعتنق المسيحية في بداية القرن الرابع الميلادي ،وسن قانون التسامح الديني سنة 316 م…. لكن على عكس الديانة المسيحية فإن الديانة الاسلامية نزلت في بيأة بدوية منعزلة تطغى عليها الأعراف البدوية والنعرات القبلية والعشائرية ، ولم يسبق ان راكمت في القيم المدنية ولا في الميتولوجيا الدينية كما الشعوب والامم الاخرى ،فكانت آلهتها قبل الاسلام بسيطة في فلسفتها، تعكس بساطة عيش اهلها. وعليه فإن دولة الخلافة لم تتخذ من مكة ولا من اي قرية في شبه الجزيرة العرببة عاصمة لها ،بل إختارت حواضر تاريخية بنتها حضارات اخرى، إما في الشام كدمشق او في بلاد الرافدين كبغداد، ولا حقا أستانبول التي كانت في الأصل العاصمة الشرقية لروما . كما ان هذا الواقع الثقافي البدوي والقبلي كان له تاثيره في مرحلة ما بعد وفاة الرسول محمد "ص" من خلال الكثير من التفاسير الدينية و الاحاديث المنسوبة اليه ،والتي تعد الآن من المسلمات الدينية ، رغم اجتهاد الفقهاء من تبيان صحيحها من باطلها او المشكوك فيها ،والتي في حقيقتها تعكس التمثلات الثقافية السائدة عند بدو الجزيرة العربية ،وليس بالضرورة منطوق النص الديني. اما من حيث ارتباط الديانتين بالشان السياسي، نجد كذلك إختلافات جوهرية. ففي حين كانت الديانة المسيحية دعوية محضة لما يزيد عن ثلاثة قرون ،رغم الاضطهاد الممنهج الذي مارسته روما على للمؤمنين بها . وبغض النظر عن طبيعة النصوص الدينية في الانجيل، إلا ان موطن نشأتها الذي كان خاضعا لسلطة دولة قوية ،ولمؤسسات مدنية حاكمة، لها قيمها الدينية المتجدرة في الميتولوجيا المتوسطية ، دفع باتباعها الأوائل الى الاحتكام للعقل والإقناع من اجل نشرها ،والتحكم التدريجي في مؤسسات الدولة، عبر دفع مسؤولين نافذين في أجهزتها لإعتناق الدياتة الجديدة، حتى تحولت المسيحية تدريجيا الى ديانة روما الرسمية. أما بالنسبة للديانة الاسلامية ،وإن بدأت دعوية وسلمية وتعرض أتباعها بدورهم للاضطهاد كذلك من طرف اسياد قريش الذين رأوا فيها تهديدا لمعتقداتهم الوثنية ،ولمصالحهم الاقتصادية والسياسية ، إلا أن ظروف البيأة البدوية التي نزلت فيها الرسالة، وما أتسمت به من سيادة للأعراف القبلية والعشائرية، وغياب الدولة، عجل من الأنتقال من الدعوة الى الجهاد ثم الدولة. وذلك مباشرة بعد الهجرة ،اي بعد حوالي عقد ونيف من انطلاقها، بكل ما ترتب عن هذا الوضع الجديد من ضرورة لتسيير وتنظيم شؤون الناس وفق ما انزله الله على رسوله من أيات مدنية، أصلت للحكم والتشريع والجهاد، وذلك على خلاف الأيات المكية الخاصة بالعبادة والاخلاق. واعتمد الرسول محمد "ص" في ذلك على مجلس العشرة المبشرين بالجنة كآلية سياسية للبحث في القضايا السياسية والاقتصادية ، وهو ما يعد استثناء بالنسبة لباقي الرسل الذين لم يسبق ان زاوجوا بين الدعوة والسلطة ، وفي نفس الأن شكل مرجعا شرعيا تستند إليه تيارات الاسلام السياسي في "جهادها " من أجل فرض أحقيتها في الحكم والسلطة السياسية . في صعوبات الفصل بين الدين والدولة في الإسلام. إن إرتباط الإسلام بالدولة كشأن سياسي إذن هوإرتباط وثيق ، فرضته في البداية الحاجة الى سلطة الدولة الضرورية لإعمال القانون والنظام في بيئة يسودها منطق الغلبة للأقوى .لكن في خضم هذا الوضع كذلك الذي تحول فيه الدين الى سلطة لتنظيم شؤون الناس ،تماهت السلطة الدينية في الإسلام مع السلطة السياسية .هذا في الوقت الذي تحولت فيه الديانة المسيحية الى دين الدولة الرومانية التي وجدت بشكل قبلي كسلطة سياسية مستقلة ،والتي عملت بدورها لاحقا على توظيف الدين المسيحي لأغراض سياسية واقتصادية مشتركة تماهت من خلالها السلطة السياسية مع الكنيسة ،بكل ما نتج عن هذه المرحلة من اضطهاد سياسي و ديني في حق الشعوب الاوروبية. بالتالي لابد من التمييز بين ديانة أثمرت سلطة سياسية كما هو شان الديانة الإسلامية، وببن ديانة إعتنقتها سلطة قائمة كما هو شأن الديانة المسيحية. وإذا كان سؤال فصل الدين عن الدولة قد تم طرحه في المجتمعات الاوروبية بعد حوالي 1500 سنة مقتدين في ذلك بنهج الرعيل الأول الذي يعتبر أصل الدعوة . فما بالك بالديانة الإسلامية التي تعد حديثة بالمقارنة مع المسيحية و يعتقد أتباعها من الإسلام السياسي بعدم إمكانية الفصل بين السلطتين ،وأن أي نقاش في الموضوع يعتبر خروجا عن السنة ونهج السلف الصالح ، بالتالي كفر وردة يستدعي النكفير و الجهاد . إن عملية الاصلاح الديني في الاسلام تبدو أكثر تعقيدا مما كانت عليه في الديانة المسيحية للإعتبارات التي ذكرناها .كما أن حالة الجهل والتخلف والهشاشة الذي تعيشه هذه المجتعات في عصرنا الحالي، المتخمة بالخطاب الديني والخرافي على حساب العلوم والبحث العلمي تشكل مجالا خصبا للتوظيف السياسي للدين سواء من طرف الحكام، أو من تيارات الإسلام السياسي وذلك خدمة لمصالحهم الدنيوية .و يستشهدون في ذلك حسب زعمهم بالرسول "ص". هذا مع إغفالهم ذكر الاسباب المرتبطة بظروف وصعوبات نشأة الدعوة في بيأة تغيب فيها الدولة والقانون ، و يسود فيها منطق الغلبة للاقوى ،والتي كانت تتطلب تحول الدين الى سلطة لفرض النظام والقانون عملا بالحديث القائل بأن الضرورات تبيح المحظورات. هذا مع العلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان أول من خرج عن هذه المنهجية حين قطع مع خلافة رسول الله التي بدأت مع ابو بكر الصديق، وأسس بدل ذلك لمفهوم خليفة المسلمين وليس المؤمنين . والمسلم في لغة الحديث من سلم المسلمون من لسانه و يده…. وهو في مرتبة ما قبل الإيمان الذي يعد حالة انتقالية من الظاهر من الأعمال الى الإيمان القلبي ،والجهاد بالمال والاقوال في سبيل الله . كما أنه بذلك قطع مع قدسية الخلافة وجعلها شأنا سياسيا لتدبير شؤون المسلمين باختلاف درجات إيمانهم .شأنا خاضعا للعقل وللأمور الدنيوية في تعقيداتها والإختلافات الناتجة عن تقدير الصائب و الخطإ منها . وليس شأنا دينيا يستمد قدسيته من القلب المؤمن الذي لا ياتيه حق ولا باطل .بل أكثر من هذا قام بتعطيل نصوص دينية واجتهد في تأويل أخرى . إن عملية إسقاط الماضي على الحاضر باعتباره منهج السلف الصالح التي ينتهجها محترفي اللاهوت السياسي في الإسلام دون الأخذ بعين الإعتبار التعقيدات والتطورات التي شهدتها الحضارة الإنسانية وما انتجته من قيم كونية مشتركة تدعو لسعادة ورفاه الإنسان وإحترام كرامته والتي تعد الجوهر الأسمى لكل الديانات. إن هذا النوع من التفكير الذي يسعى الى تنميط الحياة البشرية ،و تحويل الصراع من صراع بين التخلف والتقدم .بين الفكر الخرافي والفكر العلمي ….الى صراع ديني بين دار الكفر و دار الاسلام تارة ،و بين السنة والشيعة ...تارة اخرى ، هو من يضع هذه المجتمعات اولا امام تقاطبات سياسية و مذهببة حادة يسمو فيها ، في بعض الأحيان ،الانتماء المذهبي على الانتماء للدين في حد ذاته ،وهو ما يفسر تحول الحالة الإيمانية الجماعية من موقف ديني موحد إتجاه الآخر الغير المسلم تارة الى حالة إنقسامية داخلية عنيفة قابلة للتوظيف تارة أخرى .وثانيا يضع هذه المجتمعات في موقع الذات الحائرة الى درجة اليأس والاحباط ببن ما يلقن من مناهج دراسية مكبلة للعقل، وما يصدر من فتاوي التحريم و التكفير في مؤسساتنا الدينية في حق انماط العيش و التفكير الحداثي الذي يتطلع للرفاه وسعادة المجتمعات، والتي تشكل غاية الشعوب لما تمكنه من قيم إنسانية ضرورية في عصرنا الحالي كالحرية والدموقراطية والكرامة الانسانية.وهو ما يفسر تحول النفاق كقيمة فردية منبوذة الى عادة إجتماعية تؤطر سلوك الافراد والجماعات داخل المجتمعات الاسلامية . يمكن القول فعلا ان مجتمعاتنا الاسلامية ومن خلال ما تعيشه من تناقضات حادة في سلوكاتها بين الظاهر والباطن متها، سواء عند الأفراد او الجماعات ، بالشكل الذي يعكس إنقساما و تنازعا داخليا في الذات الفردية والجماعية ببن تمليه فتاوي التحريم والتطرف وإزدراء الديانات الاخرى التي تؤثث خطابنا الديني وبين ما تصبو إليه الذات من قيم التقدم والحداثة التي تعد من ضروريات العصر الحالي ، هي من يجعلها تائهة وهشة قابلة للتوظيف رغم ما تظهره من ردود أفعال تأخذ في بعض الاحيان طابعا متطرفا. خلاصة. بالتالي يمكن القول ان حالات العنف والتطرف التي تشهدها هذه المجتمعات هي انعكاس لحالة الانقسام والاحباط التي تخترق الذات الفردية والجمعية. وهي من يدفعنا للقول ان ما تشهده المجتمعات الاسلامية من حالة انحطاط وتردي يجب ان تحفز الفقهاء المتنورين على تخليص الدين كشأن الاهي خالص من ما يلحقه من اضرار نتيجة اقحامه وتوظيفه في المعتركات السياسية التي تبقى دنيوية و مجالا للاختلاف و الصراع الذي لم يسلم من تبعاته حتى الخافاء الراشدين الذين هم في مقام الصحابة. وتثوير حقلنا الديني بفصل الدين عن الدولة الذي يعد الحل الامثل لتخليص مجتمعاتنا و الانسان، الذي يعد الغاية الاسمى لكل الاديان ،من علة الانفصام .ويمكن اعتبار المدارس الصوفية في الاسلام بما تشكله من حالة ايمانية و روحية خالصة يتحول معها الجهاد من الجهاد ضد الاخر الى جهاد الذات الذي تعتبره طريقا لبلوغ التجلي والارتقاء والاحسان كمرحلة متقدمة في سمو علاقة الانسان بالذات الالهية، موروثا روحيا وثقافيا عظيما ،على الدول والحكومات بما فيها الاوروببة، حيث تتواجد أقليات مسلمة، واجب تثمينه و تشجيعه لكونها المؤهلة لتخليص المجتعات الإسلامية من أزمتها الروحية المصابة بالتضخم الى درجة التطرف المنتج للإرهاب ،في مقابل التغييب الكلي للأخلاق الإجتمعاعية التي هي أساس كل الأديان.وعلى الحكومات و الدول بصفة عامة واجب إحترام حرية المعتقدات وحماية رموزها المقدسة عند من يعتقدون ويؤمنون بها من مختلف الديانات عبر سن قوانين تجرم إزدرائها بالشكل الذي تجرم فيه توظيف المقدسات الدينية في الشان السياسي. طنجة في 6 نونبر 2020.