دأب الكثير ممن يعرف محمد شكري أو سبق له أن قرأ إحدى إنتاجاته الأدبية، أن يحصر البداية الأولى والأخيرة في إبداعه الشهير "الخبز الحافي "، صحيح فقد كان عمله الأول الذي رأى النور سنة 1982 بالعربية ، والذي ظل يتحين الفرصة المناسبة منذ أن وضع لبنات كلماته الأساسية في مطلع سنة 1972. وقد أسعفه صديقه الكاتب والموسيقي الأمريكي الشهير بول بوولز في إصداره باللغة الإنجايزية بالولايات المتحدةالأمريكية، وذلك من منطلق وجهة نظر لدى هؤلاء يلحون فيها على اعتبار كافة أعماله الأدبية مجرد استنساخ وإعادة ما ود في رواية الخبز الحافي التي جوبهت بمنع شامل في كافة الدول الإسلامية والعربية، إلى درجة أن نعت كاتبها آنذاك بالكفر، من قبل رئيس الدولة الإيرانية الإمام آية الله الخميني . إن الكثير من دارسي الأدب وجهوا نقدا حادا للإنتاج الأدبي الذي أصدره الكاتب العالمي محمد شكري، وعملوا على تبخيس قيمته الجمالية والفنية، واعتباره لا يرقى بتاتا إلى المعايير الإبداعية والمواصفات التي تسم في العادة جمالية البناء الروائي، وتستند مثل هذه الآراء النقدية إلى عدم وضوح شخوص وأبطال رواياته وتداخل أحداثها بشكل يفضي إلى اضطراب عام في مكوناتها، وعدم وجود جديد في الأحداث المتعاقبة في الزمان والمكان .. وغير ذلك من المآخذ الأدبية، وهي على العموم ملاحظات بسيطة من الصعوبة بمكان أن تنجح في النيل من المكانة الأدبية الراقية للكاتب المغربي العصامي محمد شكري، وحتى شكري نفسه فإنه كان يقر أن لا أحد فوق النقد خاصة في مجال الفن والإبداع، فقد كان من الأجدر الانتباه بتفطن وذكاء أدبيين، إلى الظروف القاسية التي رافقت حياة الكاتب في نشأته ومحيطه الاجتماعي الذي ترعرع في أحضانه، وتأثيرها البالغ على مجمل كتاباته السردية، فقد نشأ محمد شكري في سنة 1935 في قرية بني شيكر من إقليمالناظور بشمال المغرب، ولجأت عائلته في الأربعينيات من القرن الماضي إلى مدينة طنجة بحثا عن لقمة العيش وهروبا من جحيم المجاعة التي أودت بحياة خاله، ليزج بوالده في غياهب السجن بسبب فراره من الجندية ورفضه المشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية التي تعتبر في نظره شأنا داخليا يهم الإسبان وحدهم . وهكذا وجد شكري نفسه وحيدا في مواجهة تبعات الحياة القاسية، مضحيا ببراءة طفولته من أجل إعالة أمه وإخوته الصغار، فامتهن مسح الأحذية وبيع الخضر والجرائد والاشتغال في المطاعم والمقاهي، كما استبطنت ذاكرة طفولته وقائع مؤلمة من مشاهد العنف الذي كان والده يمارسه باستمرار على أمه، وفي نفس الوقت تحميله لوالده مسؤولية قتل شقيقه الأصغر، في وقت كان المغرب يرزح فيه تحت قيود الحماية المجحفة، وتشاء الصدف أن ينتقل مع أحد أصدقائه إلى مدينة العرائش ليطرق أبواب المدرسة وهو في سن التاسع عشرة من عمره، وبعد أربع سنوات ونصف تمكن من تحصيل رصيد معرفي أهله ليصبح موظفا في قطاع التعليم، كانت هذه الفترة مفصلية في حياته وغنية بالمستجدات، ولتكون هذه المناسبة أيضا مدخله الأول لمعانقة هموم الكتابة والإدمان عليها عبر مراحل متدرجة، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة بشقته المتواضعة سنة 2003 بمدينته الأزلية طنجة التي عشقها وانغمر في عوالمها إلى حد الجنون، وكانت ملهمته ومعقل انطلاقه نحو المجد الأدبي، وسط حياة لم يضع فيها قيودا على حرياته الفردية والشخصية، وبموازاة ذلك أطلق العنان لقلمه دون أن يستشعر حرجا أوضيقا أو حتى مراعاته لسلطة التقاليد الاجتماعية الثقيلة، ما دفعه إلى القول في إحدى رواياته " أنا أكلت في القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تنتظرون مني أن أكتب عن الفراشات " . تسجل صفحات التاريخ أن حملة الأقلام تعلو شخوصهم تلك الرهبة والسطوة التي تفوق قيمة نتائجها المنهج الذي ارتضاه من آلوا على أنفسهم الانحياز إلى امتشاق السلاح وإشهاره في وجوه منازليهم، وخاض شكري تجربته الأولى في الكتابة خلال منتصف الستينيات من القرن الماضي عبر مجلة الآداب اللبنانية، التي لقي فيها تشجيعا كبيرا من مديرها آنذاك الدكتور سهيل إدريس، ورافق ذلك أيضا الدعم الذي حضي به على يد الشباب من طالبات وطلاب المعاهد والكليات بالمغرب، وسرعان ما ذاع صيته في غمرة تآليفه المتتالية، إنه لم يكن أديبا بوهيميا على غرار الحياة التي كان يعيشها الغجر، وإنما في نمط حياته غير المألوفة التي أدمن على ارتيادها، وفي تكسيره للمسلمات وجميع أنواع القوالب الجاهزة، إذ لم يكن سرياليا على غرار معاصريه من الكتاب والأدباء، بل كان أشدهم واقعية وأكثرهم جرأة وأمانة في رسم ما كان يعتمل في الحضيض الأسفل من المجتمع، من النماذج التي كان لا يرمز إليها على ديدن منهج معاصريه من كتاب مدرسة الرواية الجديدة من الرومانسيين أو من تيار التجريبية الطلائعية، بل يعمد إلى نعتها بأسمائها المباشرة، على نحو من زمر : الصعاليك والبلطجية وبنات الهوى ولصوص الشوارع وأصحاب السوابق .. وبأسلوب متدفق، ولغة بسيطة متمكنة من قواعدها المطواعة، تخل من مساحيق التكلف وما يرتبط بها من أساليب التصنع والحذلقة، وفي حمأة وحدته الرهيبة، ودون أن تكون له أسرة تحميه، أو مدرسة توجهه غير مدرسة الواقع العنيد الذي استخلص منه الكثير من المغازي والحكم المفيدة، تمكن من إنتاج أعماله الهامة التالية، "الخبز الحافي " "وجوه" "زمن الأخطاء" "السوق الداخلي" " الخيمة" " مجنون الورد" " غواية الشحرور الأبيض" ...، حتى أنه ليمكنني القول أن أعماله الإبداعية هذه عبارة عن سير ذاتية يتقمص الكاتب شخصية أبطالها ويحتمي بظلالهم أكثر من اندراجها في إطار أجناس أدبية معينة، ومنذ بداية السبعينيات أقبل الشحرور الأبيض Mohamed choukri على امتهان الكتابة وإدمانها بدون توقف إلى أن اختطفته أيادي المنون في بداية الألفية الثالثة . متفاعلا مع يجري في أسفل قاع المجتمع بهمومه وتجلياته المظهرية المتباينة، وقلما ولج إلى عالم السياسة، إلا نادرا، إذا استثنينا قصته المعروفة ب ( الكلام عن الذباب ممنوع ) المتضمنة بين دفتي مؤلفه "مجنون الورد"، التي حررها سنة 1972 بمدينة طنجة، وفي عز سنوات الجمر والرصاص التي عاشتها بلادنا، لذلك فإنه كان من الطبيعي أن يكون للرقابة الاجتماعية والثقافة السائدة، من الأعراف والتقاليد المرعية دورها في حجب بعض من أعمال محمد شكري التي لم يسمح بتداولها إلا في بداية العهد الجديد، نظرا لما تثيره من حساسيات قد تشكل في نظر شرائح مجتمعية واسعة من المغاربة ولوجا غير لائق إلى عالم المحرمات والتابوهات التي يمكنها أن تتصادم مع المثل والمبادئ الأخلاقية المساهمة في بلورة عناصر هوية أمتنا المغربية الأصيلة . عكس بعض المجلات الثقافية ذات المحتوى اليساري والسياسي، مثل : جسور، أقلام، الثقافة الجديدة .. فقد طالها المنع فعليا في أواخر السبعينيات من القرن الماضي بقرارات من الدولة، وبقيت حملة منع هذه المجلات كما يقول الأستاذ امبارك بودرقة (عباس) في الكتاب الأول من مذكراته الأخيرة " غير مفهومة السياق والدواعي وقتها"، ونفس الوضع يمكن أن ينسحب أيضا على مؤلف " الحريم السياسي- النبي والنساء" للأكاديمة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي في بداية سنة 1990، والذي يبدو أن للعلماء وبعض المؤسسات الدينية العريقة بما فيها الرسمية أيضا، دورها في إبداء تحفظها على دراسة وبحث الأستاذة المرنيسي، إلا أن هذه الحالة الأخيرة سرعان ما تم تجاوزها، وأصبح الكتاب منذ منتصف التسعينيات متداولا على أوسع نطاق، خاصة بعد تدخل المنظمات الحقوقية المغربية في الموضوع، بمساندة ودعم لها من الأحزاب الوطنية والتقدمية، وضمنها حتى حزب الاستقلال المعروف بطابعه المحافظ . وإذا كان الكاتب الأمريكي بول بولز قد ألف كتابه المعروف " رحلة من الريف إلى طنجة " خلال فترة الحماية الإسبانية وقبل حصول المغرب على استقلاله الوطني، فإن محمد شكري كتب عن بول بوولز وزوجته جين وطريقة عيشهما بطنجة في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كما كتب عن جان جينيه وتينسي وليامز بطنجة، وتقاسم مع هؤلاء المثقفين الغريبي الأطوار من الكتاب والفانين الكثير من الأشياء المشتركة، فقد كان هؤلاء الفلاسفة والكتاب الأمريكيين والأوروبيين مهووسين بالبحث العلمي ومحاولة فهم عقلية الإنسان المغربي وعاداته وتقاليده، وقد نقل شكري عبر كتاباته صفحات مشرقة من العلاقات الفنية والمعرفية التي جمعته بهذه النخبة الأجنبية، علاقة حرص فيها أن يحافظ على كرامته وموقعه ككاتب مغربي وعالمي، وكان تساوره بعض المخاوف التي تجد مرجعيتها في النظرة الدونية التي يمكن أن يحملها أصدقاؤه الأمريكيون حول شخصه . إذ كان يتوجس من نظرتهم الاستعلائية في بعض الأحيان، واحتمال اعتبارهم له مجرد أمي متخلف ينتمي إلى دولة نامية في الجنوب كانت لا تزال تشق طريقها بصعوبة نحو التقدم والرفاه الاجتماعي، وأنه لم يسعفه حظه البئيس في التحصيل الأكاديمي والتخرج من رحاب الجامعة، واعتماده في التواصل معهم على إنجليزية ركيكة ولغة فرنسية متواضعة مقابل ترديد هؤلاء الأمريكان لبعض الكلمات المستمدة من قاموس اللغة العربية، وهي في حقيقة الأمر العلاقة الندية القائمة على التثاقف والمثاقفة والتبادل الفكري والحضاري بالأساس، والتي نجح شكري في ترسيخ أسس معالمها مع هذه الأنتلجانسيا المثقفة المنحدرة من الغرب المتقدم، لكونها عاشت ردحا طويلا من الزمن بين أهالي مدينة طنجة المغربية وكاتبها العالمي الذي ساهم في صنع أمجادها الفنية والإبداعية، وفي المقابل يحكي في هذا الصدد بالخصوص عن صديقه بول بوولز خوفه رغم شهرته العالمية في الثمانينيات من الرجوع إلى أمريكا مخافة أن يسحب منه جواز سفره في المطار من قبل السلطات الأمريكية كما دأبت أن تفعل مع الذين كانت لهم ميولات يسارية . من جهة أخرى، فقد حدد شكري هدفه بدقة من الكتابة، فهو لم يجعل قط من هذه الأخيرة قناعا للتجميل والبهرجة، أو مطية للارتقاء في حراك السلم المجتمعي، وإنما أدمن عليها لأسباب وجودية ونظرة فلسفية خاصة إلى الحياة، وتعبيرا في الآن ذاته عن هموم طبقات اجتماعية كانت لها تطلعاتها في الحياة ومعاناتها المريرة نتيجة إحباطاتها، وعدم قدرتها على التأقلم سيكولوجيا واجتماعيا مع تستلزمه طبيعة وضرورة قيام عالم جديد ونظيف، لذلك نجده يتحدث عن الليليين في مقابل النهاريين، ويؤكد أن الإنسان في وحدته إما أن يكون عبقريا أوغبيا، ولماذا ليس هما معا ؟ وأن حياته في مماته، وغيرها من التجليات التي تعكس لنا حياة ذلك الكاتب الذي بدأ مشواره في الحياة مغمورا، بعد أن عاش طفولته مطاردا شريد، ينام في الغبار على قارعة الطريق ويقلد في مقاهي طنجة الدولية خلال فترة الحماية المغني والملحن المصري الشهير محمد عبد الوهاب مقابل بعض الدريهمات التي تسعفه في سد رمقه وإغاثة أسرته البئيسة . إن المعرفة الحقيقية بشخصية محمد شكري، تفرض الاطلاع على كتابه "غواية الشحرور الأبيض" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1998 وقبل وفاته بحوالي خمس سنوات، فهو يعكس ثقافة شكري العميقة والواسعة وخبرته الشاملة في الحياة، وينهض في نفس الوقت كحجة قوية تدحض ذلك الافتراء الذي يحاول الاستصغار والتقليل من مكانة شكري الأدبية والمعرفية، وفيه يوجه سهام نقده لكل من الأديب الكبير نجيب محفوظ والناقد الأدبي أدونيس، على الرغم من احترامه الكبير لهذين الإسمين الأخيرين، دون أن يسلم من سهام نقده الحاد هذه المرة حتى الكاتب المغربي الشهير الطاهر بنجلون الذي يكتب بالفرنسية، محاولا موقعة إنتاجه الأدبي في دائرة الكسب التجاري وحتى التلاعب بمشاعر القراء، دون أن نغفل بالطبع جوهرته الفريدة التي تمثلها روايته الشهيرة " الخبز الحافي " التي كانت منطلقه نحو الشهرة العالمية، والارتقاء من مجرد كاتب محلي بسيط إلى أديب كوني ترجمت أعماله إلى أهم اللغات العالمية المعاصرة، والتي تشاء الظروف وصدف التاريخ الجميل أن يتزامن صدورها في بداية الثمانينيات من القرن العشرين مع الأيقونة الأدبية اللامعة للمؤرخ المغربي عبد الهادي بوطالب " وزير غرناطة" التي تحكي عن مأساة مقتل الوزير الأندلسي المغربي لسان الدين بن الخطيب لدى سلاطين بنو الأحمر خلال عهد المرينيين في القرن الرابع عشر الميلادي، مسلطا فيها الضوء على مكائد السياسة ودسائس القصور التي ذهب ضحيتها الأديب والشاعر الكبير ابن الخطيب، وحتى مع رواية " سأبكي يوم ترجعين " للأديب المغربي أحمد عبد السلام البقالي الذي يعتمد في كتابته عل المغامرات الجريئة والخيال العلمي .