مربيات ومربو التعليم الأولي هم الذين حملوا هيكل التعليم الأولي على عواتقهم منذ وجوده الى الآن . لم يشعروا يوما أنهم يحملون نعشهم الأبدي على أكتافهم . تقوست ظهورهم في الأقسام , يربون , يكونون , يدربون , ينظفون , يحفزون , يرسمون , يلونون , يهرجون , يلاعبون ... , يسافرون بعيدا في عالم الطفولة . يعلمون الأطفال كيف يجتازون التعثرات , وكيف يستطيعون المزاوجة بين قيود التربية وحرية التفكير وحرية الجسد . حتى إذا جرى طفل مندفعا تعبيرا عن حريته الجسدية سقط , وبكى واحتار المربي بين إسعافه سريعا تلبية لأنانية حبه له , أو يدعه يسقط , ليتعلم من تجارب الحياة . المربي ليس معلما , الطفل يتعلم من تجاربه الصغيرة ومن المجتمع الطفولي الذي يعيش فيه , والمربي هو الذي يخلق هذه البيئة التربوية وهو الذي يوجه المسار العام لها وهذه العملية صعبة وخطيرة لأنها تبني أساس شخصية إنسان يمكن أن ينفع مجتمعه وبلده وينفع العالم الذي يعيش فيه ويمكن أن يضيف للإنسانية , أوقد يصبح إنسانا ضارا ومعيقا للتنمية البشرية التي صار ينشدها الجميع وتكون هذه المرحلة المبكرة من الطفولة سببا مهما . المادة 23 من الميثاق الدولي لحقوق الإنسان , تقول : " لكل شخص حق العمل , وحق اختيار عمله . " المربيات والمربون اختاروا عملهم هذا بالرغم من جسامة مسؤوليته , وبالرغم من عدم توفر شروط العمل العادلة والمرضية مثلما جاء في نفس المادة , وهكذا أسسوا طبقة عريضة من الشغيلة في صمت مطبق من طرف الدولة المعنية بإلزامية التعليم والشغل . بقوة المادة 31 من دستور المملكة . الدولة ظلت صامتة . لم ترفض . لم توقف هذه الشريحة عن الإمتداد والتوسع . لم تحدد موقفها , وكأنها عثرت على حل مؤقت ينقذ تورطها في تصريحها داخليا وخارجيا بتحقق التعليم الأولي . المربية والمربي بقيا بدورهما صامتين ومترقبين . ومابين الصمتين الثقيلين هدر زمن الإقلاع بقاطرة هذا القطاع الذي تنبني عنه جميع الإقلاعات على جميع الأصعدة . وأي فشل يلحق أي تنمية مرد كثير من أسبابه الى التعليم في مجمله , وفشل التعليم مرده الى السنوات الإعدادية الماقبل المدرسية للتعليم الأساسي . يعتبر فروود الطفل هو أبا الرجل . بعيدا عما يمكن ملاحظته بعين فيمينستية , لما تحمله هذه المقولة السيكولوجية من ذكورية واضحة , فإن مرحلة الطفولة الأولى هي التي تؤسس شخصية الإنسان وأسلوب حياته في كبره , هذا الإنسان ذو الجذور الطفلية قد يحمل معه , من صغره الى مماته , ندوبا ومعيقات وأمراضا نفسية تعيق حياته وتجعله طرفا معيقا غير منتج ولا مفيد , وذلك بفعل المتدخلين التربويين العنيفين , الغير مؤهلين للقيام بمساعدته على النماءات المرافقة لنموه الطبيعي . هؤلاء يكسرون نماءاته . لا يستجيبون لحاجياته . لا يحترمون ناموس قدراته . إنهم يكرسون لأساليب تقليدية أركانها العنف والتلقين والحفظ والصراط المستقيم . وبذلك قد ينمو عقليا معرفيا , ولكنه وجدانيا عاطفيا وحسحركيا واجتماعيا تواصليا يبقى صغيرا وضعيفا . في المغرب ما يزال المتدخلون التربيون في حقل التعليم الأولي يتسمون بالكثرة والعشوائية. بالرغم من خروج القانون الإطار الذي سينظم التربية والتعليم والتكوين المهني الى غاية 2030 , الى حيز الوجود . وجود القانون لا يعني فعاليته . الفعالية تقتضي التنزيل التنفيذي . فإذا كان القانون يتمتع بخاصية القوة إلا أنه لا يستطيع تفعيل نفسه بنفسه , وهوبحاجة الى أقوياء الإرادة لتفعيله . المادة 19 من القانون الإطار51/17 الموجودة الباب الرابع تقول : " الولوج الى التعليم المدرسي من قبل جميع الأطفال , إناثا وذكورا , البالغين سن التمدرس إلزاميا , ويقع الإلزام على عاتق الدولة والأسرة , أو أي شخص مسؤول عن رعاية الطفل قانونا . ويعتبر الطفل بالغا سن التمدرس إذا بلغ أربع سنوات الى تمام ست عشرة سنة . "وعبارة : " يقع الإلزام على عاتق الدولة والأسرة . " عبارة قانونية حاسمة كفيلة بقفل باب الإجتهاد والتدخل العشوائيين لكل من هب ودب ... الدولة هي الملزمة . أما وأن يكون المجتمع المدني هو الملزم فإن الدولة ترفع يدها عن مسؤولتها أمام القانون والشعب والتاريخ التربوي . وتعلن عن ضعفها وفشلها وانفصام شخصيتها بفعل تبنيها لرؤيتين الأولى هي الإلتزام الشخصي , والثانية هي التخلي لفائدة شريكها الذي لا يمكن أن يكون ذات يوم طرفا قائما ثابتا بذاته . لما يتمتع به من حذلقة وضبابية . جمعيات المجتمع المدني , كيانات لزجة . متزحلقة . يمكن أن تقتل نفسها بنفسها في أية لحظة , لذلك فإن الإلتزام معها أو التعاقد هو مغامرة . أما العمل معها فما هو سوى تطوع لن يعطي ثمارا تربوية منشودة . المادة 19 حددت بما لا يترك مجالا للشك سن التمدرس الإلزامي الذي تتكفل به الدولة . من 4سنوات الى تمام 16 سنة . وهذا بدوره يحدد قطعيا أن السنتين 4 و 5 سنوات تقعان ضمن السنوات الإلزامية . إذن فالتعليم الأولي بموجب القانون إلزاميا . ويجب أن يكون معمما ومجانيا . وبالتالي فإن الموارد البشرية التي سوف تشتغل في كنفه يجب أن تحظى بحقوقها الإقتصادية والإجتماعية مباشرة من الدولة بلا وسطاء ولا جدران ولا حواجز... إذا كان الطفل هو أب الرجل حسب سيكموند فروود , فإن الرجل الحاكم اليوم في المغرب هوذلك الطفل المنحذرمن تعليم أولي عتيق , قديم , تعليم الحصيرة والعصى الممدودة . ارتكبت فيه أخطاء وحفرت خلاله أخاديد وجروح نفسية عميقة ومتجذرة لا يمكن للزمن مداواتها ولا يمكن للجيل تجاوزها . ولنا عودة