مد خل : يعد صدور مؤلف " عبد الكريم وأسطورة الانفصال، حفريات نقدية في خطاب الجمهورية الريفية " للأستاذ محمد أونيا من أهم الأعمال التاريخية التي ساهمت خلال الآونة الأخيرة في إغناء حركية البحث التاريخي بشمال المغرب وفي عموم الوطن، وقد توالت منذ إصداره سلسلة من النقاشات والتقييمات في موضوع الكتاب، وهو أمر طبيعي ما دام أن صاحبه قد اعتمد في بحثه منهجا كان ولا يزال من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا،، يروم الدقة والتفكيك والمقارنة الذي يروم التركيب المعرفي المتدرج، وصولا نحو صياغة الاستنتاجات القائمة على حجية الإقناع والمنطق التاريخي السديد، وهو المنهج الذي يربك ليس فقط العامة من القراء وإنما حتى بعض النخب من الوثوقيين والمتشددين الحالمين، لكونه يعمل على زعزعة اليقينيات وخلخلة المسلمات المتراكمة، ولا غرو أيضا فالأستاذ والمؤرخ المتخصص معروف بأبحاثه الأكاديمية، وله ميل واهتمام خاص بتاريخ المغرب الراهن والمعاصر، وهو الهاجس المعرفي الذي يتقاسمه مع نخبة نيرة من زملائه الباحثين، يتعلق الأمر بكل من الأساتذة عبد الحميد الرايس، جمال أمزيان، عبد المجيد عزوزي . والكتاب بناء على التصريح الذي أدلى به صاحبه في ورقته التمهيدية شرع في تهيئ فصوله منذ بداية سنة 2013، وقد واصل مشروعه عبر خريطة زمنية تفوق خمس سنوات، بعد أن راودته فكرة التأليف خلال الندوة الدولية المنعقدة في الحسيمة بمناسبة الذكرى الخمسينية لرحيل الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، مما يؤكد أن العمل يندرج بجدارة في دائرة الثفافة التاريخية الصرفة المتجافية بطبعها مع ردود الفعل المتشنجة التي ربما يبدو للبعض أنها تتحكم في سياقاتها الإكراهات الظرفية للحراك الذي عرفه الريف، أو حتى العوامل التي رافقت انبلاجه وتعقيداته الراهنة، وقد شاءت صدف الزمن أن يكلل الإصدار بتساوق مع لحظات عرفت فيها الساحة الثقافية ببلادنا ظهور مؤلفات قيمة في ذات الموضوع، من قبيل ملف وثائقي خاص ب " الهيئة الريفية " الذي نشره مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، ومذكرات الهاشمي الطود " خيار الكفاح المسلح " المعدة من طرف الأستاذ أسامة الزكاري، إضافة إلى مؤلفي الباحث محمد أمزيان، وهي كلها مؤشرات إيجابية تضفي شرعية جديرة بالاهتمام على حركة دمقرطة المعرفة التاريخية الجديدة التي أصبحت شأنا مجتمعيا قابلا للنقاش، وفي متناول عموم المثقفين المغاربة، بعد أن كانت إلى عهد قريب تصنف في عداد التابوهات التي يمنع التداول في مضامينها أو مجرد التفكير فيها . إضاءة في محتويات أساسية من الكتاب : يبدو واضحا مدى تمكن الباحث الكبير من خلال منهجه العلمي الذي وظف مقتضياته عبر الفصول العشرة المكونة لجوهر عمله التاريخي من نجاحه في الوصول إلى سبر أغوار أهم الوثائق والمستندات التاريخية التي تضع علامة استفهام كبيرة أمام حقيقة الوجود الفعلي لما يسمى ب "الجمهورية الريفية"، وقد حرص المؤلف انطلاقا مما تحصل لديه من قناعات معرفية في الموضوع تواضع على اتباعها جمهرة من المؤرخين المختصين على وضع " الجمهورية الريفية " بين مزدوجتين، مما يحيل على أن البحث التاريخي بصدد هذا المفهوم السياسي غير مكتمل وبالتالي فإن إمكانات الإثبات التاريخي التي تسري على الملف يعتورها الكثير من الوهن وعدم الاتساق في الرؤية، ولعل مما يعزز هذا الطرح لدى باحثنا المقتدر إفصاحه في المقابل كون الأجانب من الفرنسيين والإنجليز بالخصوص هم أصحاب هذه الفكرة والمبادرين الأوائل لتثبيتها والدفاع عن أهدافها وخلفياتها، ويعتبر الفرنسي " دانييل بورمانسي ساي " والإنجليزي " جون أرنال " أول من تبنى هذا المشروع وسعى إلى إقناع ابن عبد الكريم والمحيطين به بمدى أهميته، لكونه يخدم قبل كل شيء كرجال أعمال مصالحهم التجارية والسياسية، دليل ذلك أن التسمية المتعلقة ب " الجمهورية الريفية "، شملت بالخصوص لدى هذه الجماعة النصوص ذات الصلة بالعقود التجارية والمنجمية والمذكرات السياسية المندرجة بالطبع حسب إفادة الكاتب، في إطار نوع من الإشهار السياسي الذي يروم الاعتراف الدولي باستقلال حكومة الريف الفتية، ومن خلالها المرور بشكل انتهازي نحو استصدار حق الحصول على استغلال تلك الامتيازات الاقتصادية . وحتى كتب التاريخ المحلي بدورها لم تخرج بدورها عن هذا السياق، لذلك سار في المنحى ذاته أحمد عبد السلام البوعياشي من خلال مؤلفه " حرب الريف التحريرية ومراحل النضال " مركزا على الإنجليزي " جون أرنال " والتأثير الذي مارسه في هذا المجال على عبد الكريم اللوه مندوب محمد بن عبد الكريم نحو البلاد البريطانية نظرا لتمكنه من مبادئ اللغة الإنجليزية وقدرته على التواصل بعباراتها، أما القائد المغربي حدو بن حم البقيوي المعروف أيضا بحدو لكحل فإن شخصيته المزاجية جعلت دوره في هذا الباب يبدو ضعيفا يتسم بالتضارب وعدم الوضوح، وزاد من تعقيد موقفه ارتباطه بمصالح تجارية مع الفرنسي " بورمانسي "، ولكن لا بد من التنويه في هذا الإطار بدور صاحب الكتاب الأستاذ محمد أونيا في الكشف الشامل عن تفاصيل هامة من سيرة وحياة هذا الرجل المغربي الذي ينحدر من منطقة إزمورن البقيوية، بعد أن ظل شح المعلومات وقلتها خلال العقود الماضية، يخيم على أهم المراحل التي يمكنها أن تلقي الأضواء الكاشفة على الأدوار المتقدمة التي اظطلع بإنجازها هذا المقاوم لفائدة حرب التحرير الريفية التي كانت تتوق إلى تخليص المغرب من ربقة الاستعمار ونيره الغاشم . تضمن المؤلف أيضا بين دفتي صفحاته الإشارة الصريحة إلى الاحتفاء الرومانسي الكبير الذي عانق به أقطاب الحركة اليسارية والمدرسة الاشتراكية المغربية وكل الأطياف التقدمية شعار " الجمهورية الريفية" خلال سنوات الجمر والرصاص إبان عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عندما كانت هذه القوى الأخيرة تقود معارضتها ضد السلطات السياسية في البلاد بجرأة واقتدار بالغين، وكيف أن العديد من هذه الرموز اليسارية وجدوا من جهة أخرى ضالتهم المنشودة في الطرح الخاطئ الذي يزعم فيه الباحث أنجلو ساكسوني والأنتربولوجي دايفيد هارت الإعلان عن قيام دولة "الجمهورية الريفية" في الأول من فبراير من سنة 1923 . وذلك لسبب بسيط مرده عدم تمكن السوسيولوجي الأمريكي من الاطلاع على وثيقة بيعة الخطابي وهي وثيقة شرعية نودي بموجبها على الزعيم الريفي "أميرا" وحاكما على بلاد الريف وجبالة في إطار " إمارة جهاد " وليس " إمارة ملك " فبالأحرى في نطاق "الجمهورية" ص :(131)، كما أن تردده في الاعتراف بحقيقة هذه الوثيقة وأهميتها، وتأخره في الوصول إلى العلم بكنه فقراتها راجع بالأساس إلى فراغه من إنجاز عمله وأطروحته حول قبيلة آيت ورياغل المغربية، وبعد وفاته سنة 2001 ، كانت رياح التغيير الوطنية والدولية في صالح ظهور الأرشيف التاريخي الذي من بين ما أنتجه مخطوط ومذكرات " الظل الوريف في محاربة الريف " الذي قام بتحقيقه ودراسته الأستاذ رشيد يشوتي ليصدر على شكل كتاب خلال 2010 مع التطرق في محتويات المذكرة إلى مسألة البيعة بشكل صريح لا يدع أي مجال لمجرد الظن أو الارتياب . من هنا يتبدى بجلاء مدى الدور الفعال الذي يمكن أن تلعبه الوثيقة التاريخية أيا كان نمطها في استجلاء الحقائق التاريخية الكفيلة بوضع أهم الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية في إطارها الطبيعي الذي يلائم المركز الذي تستحق أن تحظى به، فالمؤرخ جرمان عياش مثلا عندما تمكن من الإحراز على مخطوط سانيي ( Munuscrit Sagne ) المنسوب إلى الضابط الفرنسي الذي كتب جزءا هاما من مذكرات الخطابي الذي تكلف بمرافقته إلى منفاه بجزيرة الرينيون، فإنه قد جعل من هذا المصدر الوثائقي الذي وظفه بشكل منهجي دقيق مدخلا رئيسيا نحو توجهه القوي إلى تأليف كتابه القيم " أصول حرب الريف " الذي فرغ من كتابته ونشره سنة 1981 ، فلو أتيحت له الفرصة قبل مفارقته للحياة في 1990 أن يظفر بوثيقة بيعة الخطابي أميرا للجهاد لما انتهت به أبحاثه قط إلى وصف حدو لكحل بكونه صاحب فكرة " الجمهورية الريفية "، فالأمر كما سبقت الإشارة إليه يتعلق بمؤثرات أجنبية وخارجية أكثر مما هي عوامل نابعة من شخصيات تكلفت بأدوار وطنية داخل بلدها المغرب، وليس من عجب في ذلك فحتى تصريحات وأقوال الخطابي كثيرا ما كانت تفهم بشكل غير صحيح أو تخضع للتحريف والتأويل من طرف المستمعين إليه وخاصة الأجانب منهم، لذلك نجده يصرح بوضوح تام لأحد الصحافيين الأمريكيين قائلا : " لن تكون لنا جمهورية أبدا، ولم نفكر أصلا في أن تكون لنا "، ص :(177 ) . كما تضمنت مقتضيات الكتاب تفاصيل متشعبة في غاية الدقة حول الصيت والباع الطويل الذي كان للصحافة الأوروبية بخصوص الترويج لمفهوم الجمهورية، والالتباس والخلط البين الذي ذهبت ضحيته الصحافة العربية والمغاربية التي لم تنجح في عدم الفصل بين الإمارة والجمهورية، وكذلك كيفية تمثل البعض من أقطاب الحركة الوطنية المغربية للمقاومة الريفية، وتأثرهم الكبير ب " مذكرات عبد الكريم " وهو الكتاب الذي نشره الصحافي الفرنسي روجي ماتيو في فرنسا سنة 1927 ، وترجمه إلى العربية في دمشق سنة 1934 عمر أبو النصر تحت عنوان " بطل الريف الأمير عبد الكريم "، وإن كان هذا الأخير قد أخل كثيرا بمبادئ الأمانة العلمية التي تفرضها عملية الترجمة النزيهة، إذ أقحم تعسفا في ترجمته هذه العديد من مقتضيات مضامين كتاب آخر ينسب إلى أحد الفلسطينيين المسمى رشدي الصالح ملحس الذي اشتهر بكتابه المعروف ب " سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم بطل الريف ورئيس جمهوريتها "، والذي تسجل في حقه أيضا ملاحظات مثيرة وانتقادات حادة بشأن المصادر والإحالات المرجعية التي اعتمدها أثناء إنجازه لمؤلفه التاريخي السابق الذكر . سجال وجدل بشأن الإصرار على تنزيل "جمهورية الريف" في بعض الكتابات المغربية : إن الجدل والنقاش المستفيض الذي أثاره صدور كتاب الأستاذ محمد أونيا مرده حسب اعتقادي المتواضع في جزء كبير منه، ليس فقط إلى بعض مضامينه، بل بالأساس إلى العنوان الذي اختاره المؤلف لعمله التاريخي القيم، بناء على مجهوده العلمي المضني الذي تطلب منه سنوات من البحث الشاق الذي قاده إلى صياغة هذا الاستنتاج بناء على ما تراكم لديه من القواعد المعرفية في علم التاريخ واعتماده أيضا على مناهج البحث التاريخي التي مكنته من اعتماد آلية الجرح والتعديل إضافة إلى الطرق الحديثة التي تعتمدها المدارس التاريخية المعاصرة، ولعمري إن هذا الحدث العلمي الشيق ليذكرني بصاحب المعارك الفكرية والأدبية الدكتور طه حسين، حينما أصدر في العشرينيات من القرن الماضي كتابه الشهير " في الأدب الجاهلي " الذي أشار فيه لدى إثارته لموضوع القصص القرآني إلى كيفية إثبات الوجود التاريخي لسيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام المتحدث عنهما في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم وإقامة الدليل على وجودهما الفعلي، معتبرا أن مجرد الحديث عنهما لا ينهض كدليل عن هذا الوجود، مما عرضه لمواجهة عنيفة من طرف المؤسسات الدينية المحافظة والعلماء التقليديين ولشرائح اجتماعية من الشعب المصري من جراء مسه حسب اعتقادهم بمسلمات يقينية راسخة لدى هذه المكونات الأخيرة . وفي نفس الوقت يذكرني محليا على مستوى الوطن، بالنشاط الذي كانت جمعية نوميديا للثقافة بمدينة الحسيمة تعتزم تنظيمه خلال سنة 1993 على شكل ندوة دولية في تاريخ المغرب المعاصر وبعض قضاياه الفكرية، ومن بين ما تضمنه برنامج هذا النشاط ورقة تاريخية بسيطة لأحد المتدخلين الذي انتقل إلى رحمة الله والذي كان يحيل عنوان ورقته إلى الموضوع الذي يناقشه الآن الأستاذ محمد أونيا بحرية مطلقة، فكان القرار الذي اتخذه آنذاك وزير الداخلية السيد إدريس البصري منع هذه الندوة الدولية من أساسها ومصادرة النفقات المخصصة لتمويلها، ولم يكتف بذلك فحسب بل أصدر بيانا وجه فيه تهما خطيرة للجمعية المنظمة، مما جعل الأحزاب الوطنية المعارضة بالمدينة وكافة المنظمات الجمعوية والنقابات المركزية ترد ببيان مضاد تندد فيه بالمنع وتستنكر التضييق على حرية الرأي والتعبير، فما أعظم الفرق بين الأمس واليوم، وطوبى لجيل العهد الجديد وجيل الإنصاف والمصالحة حيث حرية الرأي والتعبير في بعض من الأحيان بدون حدود وبلا حسيب أو رقيب . ونسجل كملاحظة في هذا الجانب مدى التوافق الحاصل مع طرح الأستاذ محمد أونيا بخصوص إمارة الجهاد والإصلاحات المؤسساتية والإدارية التي قام بإنجازها عبد الكريم، مع الطرح التاريخي الذي قدمه المعهد الملكي للبحث ف ي تاريخ المغرب الذي أبان عنه بوضوح في مؤلف " تاريخ المغرب- تحيين وتركيب " الذي أعد تحت إشراف وتقديم محمد القبلي، إذ نص في هذا الباب على ما يلي "... وعلى الرغم من التعاطف الذي حظيت به مقاومته، فإن الخطابي كان على وعي تام بأن تحقيق هذه الأهداف لن يتأتى إلا بإقامة مؤسسات وأجهزة كفيلة بملء الفراغ الذي أحدثه انهيار سلطة المخزن المركزية، من جهة، وضعف السلطات الاستعمارية نتيجة هزائمها العسكرية، من جهة أخرى. وعلاوة على المجهود الحربي، فإن الخطابي قد أقام إدارة ممركزة تتضمن مجموع المؤسسات اللازمة لتنظيم شؤون القبائل وتسييرها، فعين وزراء وقوادا وقواد حرب وأمناء وقضاة وما إلى ذلك " غير أن المؤلف سرعان ما يعود ليشير بتركيز شديد، خاصة بعد التحالف الذي جمع إسبانيا بفرنسا من أجل وضع حد لمقاومة عبد الكريم وحربه التحريرية، إلى التعبير بالصيغة التالية : ( وكان الهدف هو سحق "جمهورية الريف " ) ص ص 536 / 537، وفي هذا المنحى التحليلي من التاريخ، سيما عبر وضع " جمهورية الريف" بين مزدوجتين، تأكيد جازم للطرح التاريخي الذي ساقه الأستاذ الباحث محمد أونيا في كتابه القيم . ونحن بصدد خوض غمار النقاش في الموضوع نسجل كملاحظة من جانب آخر، تركيز المؤلف على كتاب الفلسطيني رشدي الصالح ملحس " سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بطل الريف ورئيس جمهوريتها " وذهابه إلى القول أن الزعيم المغربي علال الفاسي اعتمد عليه كمرجع ومصدر أساسي أثناء تأليفه لكتاب " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي " علما أن كتاب رشدي الصالح كتاب بسيط ومتواضع، لا يخلو من ثغرات على مستوى التهافت الذي وسم كتابه في الجانب المتعلق بالأخطاء ذات الصلة بالأسماء والأعلام والمواقع الجغرافية وتحديد التواريخ وكذلك في مدى إثباته لبعض الحقائق التاريخية، مما جعل مؤلفه مشوبا بنوع من اللبس وعدم الوضوح، ومما زاد في الطين بلة اعتماده على مصادر مجهولة من دوائر الإنجليز والفرنسيين وأرشيفاتهم الاستعمارية المعتمدة على الديبلوماسيين وتصريحات الخطابي أمام الصحافيين المنتدبين إلى الريف المغربي والتي غالبا ما تتعرض إلى التحريف والتلاعب. لذلك من حقنا أن نتساءل عن السر أو بالأحرى عن الأسباب التي جعلت علال الفاسي وهو المثقف الإسلامي المتمكن من ناصية اللغة العربية والعالم الذائع الصيت، تغيب عنه بعض التآليف الهامة الأخرى التي صدرت بالعربية في دمشق وبغداد والقاهرة خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ودون حتى أن يعتمدها أو يتأثر بها، من قبيل كتاب " عبد الكريم الخطابي " للمؤلف ثابت كريم خليل، وكتاب " الحرب الريفية وسر انتصار الأمير عبد الكريم الخطابي " لصاحبه : أ.ف. العمري، وكتابي " الأمير محمد عبد الكريم زعيم الريف. في حاضر العالم الإسلامي " لشكيب أرسلان، و" الثورة العربية الكبرى" لأمين سعيد، وهي المؤلفات التاريخية التي لا تحيل عناوينها من قريب أو بعيد كما هو ملحوظ على مفهوم " جمهورية الريف "، ومهما يكن الأمر وعلى الرغم من ذلك لابد من الإقرار حسب الأستاذ محمد زنيبر أن الفضل كل الفضل يرجع إلى الزعيم علال الفاسي الذي كان أول من أبرز على الساحة المغربية أخبار "الثورة الريفية" ونفض عنها غبار النسيان، وشجع المغاربة على البحث والكشف عن الوجه الحقيقي لحرب الريف، علما أن كتاب " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" المنشور في 1948 بالقاهرة ، صدر بعد سنة من نزول ولجوء الخطابي إلى أرض الكنانة في مصر سنة 1947 ، وعودته إلى الحياة السياسية والظهور على مسرح الأحداث من جديد . ولا أعتقد أن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي السياسي والحقوقي اللامع وأحد الأقطاب البارزة في صفوف الحركة الوطنية قد خضع بدوره لهذا التأثير المشرقي، وحتى لا ينساق القارئ وراء تحليلات الأستاذ الباحث محمد أونيا فيتولد لديه هذا الارتسام أو الانطباع الخاطئ، لكون الندوة العالمية المنعقدة بباريس سنة 1973 حول الدراسات التاريخية والاجتماعية عن عبد الكريم و " جمهورية الريف "، كانت بمبادرة مغربية والمسؤول الأول عن تنظيمها وسكرتاريتها هو الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، غير أن معظم المشاركين فيها كانون من المؤرخين والأكاديميين الأجانب، إذا استثنينا حضور ومشاركة ثلاثة من المغاربة المختصين في التاريخ المعاصر، وهم : محمد زنيبر، عبد الله العروي، وإبراهيم بوطالب، مع عدم حضور التهامي الأزموري الذي غيبته ظروف الموت القاهرة، والغياب الكبير للمؤرخ جرمان عياش ربما لدواعي علمية أو تقديرات سياسية خاصة . لذلك كان من الطبيعي جدا أن يتأثر الأستاذ اليوسفي بمناهج الباحثين الأوروبيين والغربيين الذين شاركوا معه في ندوته، دون أن ننسى بالطبع دوره الريادي والوطني في ما قام به من أبحاث ودراسات أكاديمية عن المقاومة المغربية التي تصدت للغزاة، ولكل محاولات التغلغل الأجنبي فوق أراضيها، ومساهماته المشرفة التي تهم البحث في تاريخ " الثورة الريفية "، لذلك نجده في ندوة باريس على عادته يلتزم بعضا أو كثيرا من الحذر، مشيرا إلى كون الخطابي قد أبدع وحاول، وأن إبداعه كان واضحا على الصعيد السياسي . على سبيل الختم والاستنتاج : إن كتاب الأستاذ محمد أونيا يعد بحق إضافة متميزة في حقل الدراسات التاريخية، وفي نفس الوقت قراءة إبداعية تتوخى تحقيق فهم جديد لتجربة الخطابي، ومحاولة جادة لتبديد التمثلات الخاطئة وسوء الفهم الكبير الذي يحاول البعض أن يحيط به شخص الخطابي ومبادراته السياسية والتاريخية، وهي محاولة متأصلة تأتي كاستمرار للمنهج الذي سلكه الأستاذ جرمان عياش عند انغماره المنهجي والعلمي، وبحماس كبير في دراسة تاريخ الريف باعتباره أحد الحلقات الأساسية في تاريخ المغرب المعاصر، وسوء الفهم الكبير الذي يقع في بعض الأحيان بسبب الأزمات الناتجة عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية، حيث يتم اللجوء فورا من طرف مختلف الفرقاء المتنازعين إلى هذا التاريخ القريب، إما بقصد الاحتماء والاستجارة بإشعاعه الوطني، أو اتخاذه كذريعة لتوجيه بعض الاتهامات، إنما مرده إلى أن تجربة الخطابي تنتمي بالأساس إلى تاريخ المغرب الراهن والمعاصر أكثر من انتمائها إلى تلك الأحداث أو التجارب التي عرفتها بلادنا خلال بعض حقب التاريخ الوسيط أو الحديث . من أجل ذلك، فما أحوجنا إلى كتابات من هذا القبيل، تروم بالأساس تصحيح المعتقدات وتجديد المفاهيم المفرطة في تمجيد الذات وتضخيم المسألة الريفية، فقط ما يمكنني أن أسجله كملاحظة بسيطة في حق هذا العمل التاريخي المتألق، ذو الطابع المتماسك والرصين، والذي لا يمكن بالقطع إدراجه في خانة المقالات المبتورة السياق، هو الجهد الجهيد الذي بذله باحثنا وإصراره في إضفاء الوحدة الموضوعية على مشروعه الثقافي والتاريخي المتميز، حتى وإن اضطره ذلك إلى إضافة فصل بأكمله، نظير ما أقدم عليه في الباب الثاني عند إضافته للفصل العاشر، وقد نلتمس العذر لباحثنا ونقدر تفانيه العلمي الكبير إذا أخذنا بعين الاعتبار حساسية ودقة هذا الملف، وقلة الدراسات المنجزة في الموضوع .