هذه الحلقات الرمضانية عبارة عن تأملات وقراءة أولية لبعض جوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك الذي حظيت بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته والإصغاء الهادئ إلى إيقاعات هزاته وارتداداتها ونقل شهادات حية من قلب الريف لشباب شاركوا أو تعاطفوا مع الحراك. جراح الماضي الغائرة تشكل الصدمات التاريخية الكبرى للريف مرجعية أساسية لتأثيث الذاكرة لدى شباب حراك الريف، الذين غالبا ما يستحضرون سردية الاضطهاد التاريخي، والتي تبدأ في يناير 1898 إبان الحملة التأديبية ضد قبيلة بَقِيِوَة، إذ ارتكب مبعوث السلطان القائد بوشتى البغدادي مجزرة بشعة سواء في أجدير أو بمنطقة إزمورن (بالخصوص بلدة أَدُوزْ). ويؤرخ الريف لهذه الواقعة بعبارة "العام الذي حلت فيه الكارثة بالبقيويين" (أَسُوكَاسْ مِيكْ تَشيِنْ إِبَقيِوَنْ). وللقضاء على المقاومة وعلى جمهورية الريف ما بين 1921 و1926 تحالفت فرنسا وإسبانيا، وتم إرسال قوات عسكرية هائلة؛ كما ألقى الجيش الإسباني غازات كيماوية سامة على المناطق الآهلة بالسكان؛ وذلك لإخماد وكسر معنويات المقاومة . عانت المنطقة من عنف أعمى ما بين 1958 و1959، إذ حاصرت قوات هائلة من الجيش المنطقة وارتكبت أبشع الجرائم في حق الريفيين، بما في ذلك إحراق الحقول والمزارع. كما وقعت حالات اغتصاب للنساء. ويسمى هذا الحدث في الريف (عَامْ إِقَبَارْنْ) "عام الخوذات" أو (عَامْ نْ تْفَاذِيسْثْ) "العام الذي هرب فيه أهل الريف إلى الجبال حيث يوجد بكثرة نبات المصطكى" أو (عَامْ نْ تَاوْرِيوِنْ) "عام الهروب". في الفترة نفسها عاش الريف سلسلة اغتيالات واختطافات لأعضاء حزب الشورى والاستقلال، وتصفية جيش التحرير الذي انطلقت عملياته العسكرية بمنطقة الريف في 2 أكتوبر 1955. ومنذ ذلك الحين والمنطقة تتعرض لعقاب جماعي ممنهج ساهم في تهميشها وإقصائها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. تعزز هذا المسلسل بأحداث يناير 1984 المعروفة ب"انتفاضة الخبز" أو "انتفاضة التلاميذ"، إذ نعت الملك الحسن الثاني أهل المنطقة وسكان شمال المملكة عموماً ب"الأوباش!"، وووجهت الاحتجاجات بعنف شديد أدى إلى اعتقالات واسعة وسقوط قتلى. وفي منتصف الثمانينيات، وفي إطار الحركة الاحتجاجية التلاميذية القوية التي عرفتها الحسيمة وإمزورن، سقط شهيدان يوم 21 يناير 1987 بثانوية إمزورن، وهما: فريد أكروح وسعيد بودفت. ومع انطلاقة حراك 20 فبراير عام 2011 استيقظت المنطقة على وقع "مقتل/حرق خمسة شبان"، واعتقالات واسعة خلال التظاهرات التي عرفتها بني بوعياش، الحسيمة، بويكدارن، إمزورن...وستعرف بني بوعياش والمناطق المجاورة لها في 2012 احتجاجات اجتماعية عدة أعقبتها اعتقالات عدة. ويأتي مقتل محسن فكري وعماد العتابي وحملات القمع والاعتقال التي يتعرض لها نشطاء الحراك الشعبي لتضيف صفحة أخرى لسردية محنة اضطهاد الريف من طرف المخزن، وكأن الماضي يتكرر من جديد، فتنبعث من جديد بشكل أقوى سيكولوجية الغضب والمقاومة من السجل اللاشعوري لأهالي الريف. وثمة شعور عام وسط الشباب بأن جلسات المحاكمة على خلفية حراك الريف هي قبل كل شيء محاكمة لتاريخ الريف وانتقام من رموزه، وبالخصوص الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي. وكأن هذا التاريخ لا يشكل جزءا من تاريخ المغرب. يقول م. أ من أَيْثْ مُوسَى وَعْمَا بإمزورن: "إنهم يحاولون دائما طمس ومحاصرة ذاكرتنا وتاريخنا، ولكن في كل مرة يفعلون ذلك تزداد قوة اعتزازنا بهذا التاريخ وعزيمتنا على إعادة الاعتبار له، بعد الاعتقالات الواسعة انظر الآن إلى علم الريف (بانْدو نَريفْ).. لم تكن إلا القلة هي التي تعرفه ولم يكن أحد يتجرأ على رسمه فبالأحرى على رفعه، لكن اليوم الكثير من طاولات المدارس والإعداديات والثانويات مليئة برسوم هذا العلم، ومهما حاولوا طمس ذلك سنحفره في قلوبنا".