مع تفاعلات الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بدول الجوار للضفة الشمالية من المتوسط، وما تشهده الضفة الجنوبية من حراك اجتماعي جماهيري في سياق إقليمي متحول يطبعه الغموض، تولدت لدينا قناعة مفادها أن الطريق إلى بناء دولة الحق القانون في دول جنوب المتوسط مطلب يضل بعيد المنال في ظل الإرث "الكولونيالي" الثقيل، والذي ترك المجال مفتوحا للدول الكبرى لتستمر في نهب خيرات الشعوب باسم التوازنات الجيوسياسية. وقد استعملت بعض هذه الدول عدة طرق من أجل استمرار الوضع كما هو عليه، و في تعنت ممنهج ورفض صارخ لإرهاصات كل تغيير أو تحول قد يلوح في الأفق، وهذا يتضح جليا عبر زرع الاوهام وخلق هوامش كاذبة للحرية، والتحرك المحسوب، وذلك بغية فسح المجال بشكل أو بآخر لنمو فكر سياسي "ظلامي" رجعي تارة. وتارة أخرى لنمو فكر "مستحدث" تحت يافطة الانتماء الديني أو القومي. فاتحين بذلك الباب على مصراعيه أمام "تجار" الدين، ليتحول جلهم فيما بعد إلى ما يشبه "المجرمين"، نصبوهم حماة لهذه التوازنات على حساب المصلحة العليا لشعوبهم، وضدا لمصائر أوطانهم في الرقي الديمقراطي والازدهار الاقتصادي. بين الازمة الاقتصادية والأزمة الديمقراطية لدول المتوسط، إذن تطرح تحديات كبيرة على مختلف الفاعلين، منهم السياسيين، الاقتصاديين، والفاعلين في المجتمع المدني...وكذا الاكاديميين لأنهم في كل الأحوال معنيين هما أيضا، ولا يمكننا استثنائهم من هذه التحديات المطروحة، خاصة أن هذه الفئة مهتمة كثيرا بالتحولات الكبرى على الصعيدين الاقليمي و الدولي. هي إشكالات وتحديات كبيرة ومشتركة تطرح نفسها على المنتظم الدولي بشكل عام، ودول المتوسط بشكل خاص. ربما قد نجزم أنها لم تطرح مثلها منذ انهيار جدار برلين. على مستوى الضفة الشمالية هناك دول من قبيل: اسبانيا، اليونان، البرتغال، قبرص...تعاني أزمة اقتصادية مالية خانقة، تتخللها أسئلة كبرى حول التخبط الكبير الذي تعانيه هذه الدول، على مستوى تدبير أزماتها وكيفية التعافي منها. وهذا ما يزكيه أكثر الركود الاقتصادي الذي تعانيه، نتيجة نهج سياسات التقشف على مستوى مجموعة من البلدان المنتمية للضفة المتوسطية الشمالية، هو تفاعل إذن حول ما إذا كانت هذه الازمات مرتبطة أساسا بالاقتصاد فعلا أم هي مجرد نتيجة حتمية لأزمات على مستوى التدبير الديمقراطي والممارسة الديمقراطية. أما على مستوى بلدان الضفة الجنوبية يلاحظ أنها على المحك هي الأخرى منها: مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب...، بلدان تعاني من أزمات على مستوى الثقافة والممارسة الديمقراطية، هذا يتضح من خلال الكيفية المعتمدة من طرف هذه البلدان في محاولة منها لتدبير هذه الأزمات وكيفية الخروج منها، وما الحراك الذي تشهده هذه البلدان اليوم، مع ما يعرف ب"الربيع العربي" لخير دليل على ذلك. وهذا يزكيه أكثر التخبط الكبير لهذه البلدان في إدارة المرحلة الانتقالية بالسرعة المرجُوة لما تفتقده من خبرة فى التسيير، والمعرفة المطلوبة لبنية الدولة "الموروثة" والتي اتضح بعد ما يسمى بالثورات العربية، أنها بنية يكتَنفها كثيرا من الغموض والفساد إضافة إلى التناقضات والمعوِّقات الموضوعية من جهل وفقر وبطالة الموروثة على عقود. ومن خلال ما سبق ذكره يتضح أن هناك صعوبات جمة تعانيها بلدان الضفتين، تلقي بضلالها على تعاون وتكامل هذ الدول، والتي يمكن إيعازها بالأساس إلى الصعوبات الاقتصادية والسياسية التي تعرفها المنطقة المشار إليها سالفا، علاوة على الفوارق الشاسعة على مستوى التنمية البشرية، سيما أن دول الضفة الشمالية تعاني أصلا صعوبة في التنافسية مع المناطق الاقتصادية العالمية وهذا ما يؤثر عليها سلبا في علاقاتها مع بلدان الجنوب بالضرورة. وفي هذا السياق ومن منطلق الأهداف الأساسية ضمن مركز "الذاكرة المشتركة والديمقراطية والسلم"، والتي لا يمكن حصرها في بناء الحقيقة المطلقة، وإنما السعي بكل جدية إلى محاولة فهم تحديات المستقبل مع ما تفرضه رهانات العولمة، والتي لا تترك لنا كشعوب المنطقة، من خيار إلا خيار دعم وتمتين علاقات التعاون والشراكة بين شعوب حوض المتوسط وذلك من خلال استثمار المشترك التاريخي الذي يجمع بين بلدان المتوسط وشعوبها التواقة الى الديمقراطية والسلم. أقل ما يمكن قوله حول هذا التاريخ، أنه تاريخ غني ومشترك بين هذه البلدان، فيه الكثير ما يجمعنا والقليل ما يفرقنا. ففي كل الأحوال نحن أبناء اليوم، يجب علينا العمل والانكباب على التقليص من مسافة هذا التفاوت بين الضفتين، بالرغم من الاختلاف الواضح على مستوى مؤشر التنمية البشرية، إلا أن هذه الوضعية لا يمكن أن تشكل عائقا أو تحول دون بناء المستقبل المشترك، وهذا لم ولن يتأتى إلا بتغليب منطق المصالح المشتركة والعبور بالأجيال المقبلة نحو المستقبل المتحرر من إكراهات السلف التاريخي. فمجالات التعاون بين بلدان الضفتين تتعدد، إذ هناك مجهودات تبذل على مستويات عديدة، لكنها بحاجة إلى بذل المزيد منها، عبر اعتمادا آليات الحوار بين دول الضفتين، المبني على أسس قوية تتوخى احترام الآخر دون إقصاء، ووفق حرية الرأي والتعبير. وهذا لن يتحقق إلا ببذل مزيد من التعبئة وتضافر الجهود من حكومات، أحزاب، جمعيات المجتمع المدني، وهو السبيل الوحيد في نظر "مركز الذاكرة المشتركة والديمقراطية والسلم" للاستجابة للتطلعات المشروعة للمواطنين في العيش الكريم والتمتع بالحرية و الكرامة والعدالة الاجتماعية. وذلك عبر بوابة تعزيز فرص التنمية البشرية والرفع من مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وهذا لن نبلغه كشعوب الضفتين إلا بالتعاون الايجابي والبناء على قدم المساواة، مع سيادة روح الاحترام المتبادل، وذلك بتغليب المصلحة المشتركة للشعوب المتوسطية. ومن بين الإشكالات المطروحة اليوم بشكل كبير على دول ضفتي المتوسط، والتي تؤرق مضجعها، نجد أن هناك الكثير منها، هي عبارة عن تحديات يجب العمل معا على مواجهتها من أجل بلوغ شراكة قوية بين دول المتوسط، تهم أساسا ضمان السلام والاستقرار واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية والتسامح الديني والثقافي كغايات كبرى. وكل هذا في نظرنا لن يتحقق إلا عبر النضال من أجل تحقيق الأهداف التالية: Ø العمل من أجل تكريس الديمقراطيات التمثيلية، وهي تعتبر أفضل ضمان لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية وتجنب الفجوة بين القادة ومواطني ضفتي البحر الأبيض المتوسط. Ø العمل على إشراك المواطنين في صلب التنمية، إذ لا يمكن أن تتطور هذه الشراكة إلا على أساس تشريعات تضمن لمنظمات المجتمع المدني العمل دون عوائق و بكل شفافية. Ø العمل على تعزيز تبادل الخبرات بين شركاء المتوسط بهدف التمهيد لتطبيق اللامركزية في جنوب المتوسط كجانب هام من جوانب التنمية والديمقراطية التشاركية. Ø العمل على تعزيز رؤية التعاون بين دول المتوسط، وذلك بالرفع من مشاريع تهم البنية التحتية والبيئة والطاقة والتعليم وخلق فرص العمل ودعم مشاريع الشباب. Ø العمل على تحقيق التآزر والتوافق مع السلطات العامة، والمؤسسات المالية الدولية والقطاع الخاص، وخاصة بهدف التعرف على مبادرات جديدة وتعبئة الموارد اللازمة لتمويل مشاريع بلدان ضفتي المتوسط. Ø الكرامة واحترام حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين غايات ينبغي أن توجه التعاون بين الضفتين بهدف التقارب بين الشعوب وتعزيز الحوار الثقافي والديني والحضاري، خصوصا، وأنه يعتبر عامل رئيسي في مكافحة جميع أشكال الإقصاء و التمييز على أساس الجنس، والعنصرية والتطرف، والعمل على تسريع تنفيذ اتفاقيات تسهيل التنقل المبرمة بين بلدان المتوسط لتسهيل حركة الأشخاص من أجل إبراز قيمة التراث المشترك بين بلدان المتوسط. Ø التعاون والتضامن والتنسيق من أجل تعزيز السلام والاستقرار والأمن في منطقة الساحل والصحراء وتنفيذ برامج التنمية المشتركة ورفع مستوى الظروف الاقتصادية والاجتماعية لدول هذه المنطقة، تعاون فعال وجماعي من خلال الأدوات القانونية و بلوغ التنمية المشتركة السبيل الوحيد للقضاء على الإرهاب وصلاته بالجريمة المنظمة العابرة للحدود. وفي هذا السياق ومن منطلق الاشتغال على قضايا الذاكرة المشتركة للمغاربة مع مكونات محيطهم الجغرافي والسياسي في أبعادها الحقوقية والسياسية و التنموية كموضوع، والاهتمام بالقضايا المرتبطة بالذاكرة والذاكرة المشتركة كمعرفة ومجال اختصاص. فإن "مركز الذاكرة المشتركة والديمقراطية والسلم" يدعو إلى تنظيم ندوة دولية حول "أسئلة المتوسط " من أجل التناظر العميق بين دول وشعوب بلدان المتوسط. من خلال هذه الخطوة الايجابية لا شك في ذلك، قد يكون "مركز الذاكرة المشتركة والديمقراطية والسلم" قد انخرط فعلا في التفكير بشكل إيجابي في محاولة إبداع صيغ ذكية لمعالجة القضايا المصيرية لشعوب المنطقة، والذي يبقى من بين أهم أهدافه عبر بلورة خطة منهجية تصلح لمعالجة هذه الإشكالات السياسية والحقوقية المطروحة في كل أبعادها، وذلك بغية ترسيخ وتنمية قيم التضامن والتفاهم بين بلدان الضفتين، من أجل صون السلم والسلام. مع المساهمة طبعا من موقعه في تقوية الصداقة والوئام بين الأمم والشعوب.