نص المداخلة التي ألقاها الكاتب في ندوة المجتمع المدني والإعلام البديل في التغيير المجتمعي المنظمة من طرف شبكة جمعيات الشمال بالحسيمة يوم السبت الماضي بالمركب الثقافي والرياضي: قبل البدء لابد من قول كلمة في حق هذا المناضل الجالس صورته بجانبي والذي كان مفترضا أن يساهم في هذه الندوة عن الإعلام البديل وهو ضحية الجرأة الذي امتاز بها طيلة مساره الإعلامي ، فهو لم يفعل سوى أنه أخبرنا بشريط لتنظيم دموي مرفوض من طرف المغاربة وكل الديمقراطيين في العالم ولأنه كان لابد أن يخبرنا لأنه يتكلم مع البشر في كامل قواه العقلية وحيث أن بعض القوى الراغبة في لوي عنق التاريخ للارتداد به إلى الوراء للإمعان في هضم الحريات نصبت له هذا الفخ لتركيعه لا أقل ولا غير ..وتستحضرني الآن مقولة جميلة للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مقتطفة من كتابة المثقفون والسلطة حيث يقول ما معناه: على المثقف الانهماك في نزاع مستمر، مدى الحياة مع جميع الأوصياء على الرؤيا المقدسة أو النص المقدس الذين مغانمهم غفيرة وظلمهم لا يطيق أي اختلاف، وبالتأكيد أي تنوع .. إن المثقفين ليسوا محترفين مسختهم الخدمة المتزلفة للسلطة .. وإن حرية التعبير والرأي هي المعقل الرئيسي للمثقف وأي تخلي عنه، هو في الواقع ،خيانة لرسالة المثقف .. عود إلى موضوع الندوة الذي سأقدم لكم قراءة في مفهوم المجتمع المدني وتحولاتها الأساسية وألغامه الاديولوجية كذلك. في نظري المتواضع يجب أن نأخذ كل المحاذير ونحن بصدد تناول جوانب من مفهوم المجتمع المدني، تفرضها الضرورات التالية: 1. هذا المفهوم ترعرع وازدهر في سياق الثقافة الغربية ولم ينقل إلى ثقافتنا من طرف مثقفينا بل جاء في سياق ما يسميه المفكر الإسلامي المتنور حسن حنفي "بالاستغراب " في محاولة لفك إشكالات الاستشراق كما طرحها المفكر الفلسطيني الراحل إدوار سعيد: الأنا (الشرق) الدونية والآخر (الغرب) الاستعلاء. 2. إنتاج للثقافة اللبرالية وصعود الاديولوجية الرأسمالية خلال القرنين 17 و18 في الغرب ، بكل ما يعنيه من بروز شكل جديد لتنظيم المجتمع مؤسس على الفردانية : تقرير مصير الفرد وقبوله العيش في إطار ما سماه فلاسفة الأنوار بالعقد الاجتماعي: لوك ، روسو ولوك .. 3. تبلور بعد صعود الدولة الرأسمالية القوية وصنعته من تلقاء نفسها ليلبي حاجيات المواطنين في إطار "القانون" والحرية والمساواة . 4. جاء بعد القطيعة مع الكنيسة والعشيرة والقبيلة لتأسيس تنظيم جديد يقوم على مشاركة الفرد والانفصال عن العائلة : حرية السوق "هيكل". 5. منذ عشرينات القرن الماضي بدأ مفهوم جديد يتطور من داخل المنظومة الماركسية مع قطب من ثلة من الأوروشيوعيين على رأسهم أنطونيو غرامشي الذي حاول إعادة النظر جذريا في المفهوم حيث سيتجاوز تصورات العقد الاجتماعي لفلاسفة الأنوار وكذا المفهوم الهيكلي "هيكل" حول بناء الدولة القوية كتجسيد للعقل المطلق. غرامشي منذ سنة 1920 سيصبح معه المجتمع المدني هو مجموع المؤسسات التي تتصارع مع جهاز الدولة الرأسمالية ، عبر حرب المواقع، للوصول إلى الثورة الاشتراكية التي لا يمكن تحقيقها دون الوصول إلى ما يسميه بالهيمنة الاديولوجية كعلاقة طوعية داخل بنية واحدة خلافا للسيطرة كعلاقة مؤسسة على الإكراه إذا استعرنا هذه التصور من لوي التوسير الذي طور كثيرا المفهوم الغرامشي .. 6. وقد عرف المفهوم تطورات في التداول السوسيولوجي المعاصر ومع مدرسة فرانفورت وأخذ معنى أكثر تقدما ولاسيما مع هبرماس : مفهوم الفضاء العام .. بعد هذا التقديم الضروري لفهم الصعوبة التي تطرحها عملية إجراء المقارنة مع ما تشكل لدينا في محيط مختلق تماما عن سياق تبلور المفهوم . لقد حاول مجموعة من المفكرين العرب والمغاربة البحث عن أصول للمجتمع المدني في سياق الثقافة العربية الاسلامية وهنا من حاولوا اعتبار بعض أشكال التنظيم التي برزت في سياق المقاومة لاستخراج منها ما يوازي المجتمع المدني غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل . ففي كتابه الاديولوجية العربية المعاصرة للمفكر المغربي عبد الله العروي يحاول التمييز بين ثلاث أنواع من المثقفين يعكسون ثلاث مراحل للتطور الذي شهده المحيط العربي والمغاربي فبعد الشيخ والسياسي جاء صاحب التقنية والتحديث في محاولة لبناء دولة صناعية تحاول أن تؤسس للحظة الهيكلية في تشكل الدول المغاريبة الثلاث : المغرب ، الجزائر وتونس .. لكن بعد الهزيمة المدوية للمشروع القومي العربي ابتداء من سنة 1967 وفشل مشروع التصنيع في مصر الناصرية عاد عبد الله العروي في إحدى استجواباته في جريدة أنفاس التي كان يصدرها مناضلو اليسار الجديد ليعبر عن ندمه من استعمال عبارة ما هو التقدم وما هو التخلف ولكان فضل تسمية أخرى ، حسب اعتقاده ، ما هي الثورة وما هو التقدم ! صاحب مفهوم العمق التاريخي انتقل في أواسط السبعينات إلى تقليد أهمية اللحظة الغرامشية في تفسير بعض معالم الأزمة الثقافية التي يعرفها المغرب ، و سارت على منواله بعض التنظيمات السياسية التي خرجت حديثا في العمل السري لتبرير دخولها إلى الشرعية الديمقراطية (منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي اندمجت اليوم في مشروع اليسار الاشتراكي الموحد ). والخلاصة الأولية التي نود الانتهاء إليها هو أن كل المحاولات التي همت الوصول إلى مقابلة المجتمع المدني كما ترعرع في الغرب، حتى أقوى القراءات التي كانت تماثله بما يسمى بالمجتمع الأهلي على صعيد العالم الثالث وخصوصا في المغرب باءت بالفشل فهي أشبه بكل المحاولات التي مارستها الدول العالمثالثية على مفهوم الديمقراطية حيث كانت تغلف الاستبداد بذريعة الخصوصية كما كانت تنتهك حقوق المرأة باسم النص الديني وهكذا فالأمثلة كثيرة .. ويمكن الآن أن نأتي على الفروقات الجوهرية بين مفهوم المجتمع المدني والمجتمع الأهلي كما يحلو للبعض أن يسميه : 1- المجتمع المدني :
أي أفق للمجتمع المدني في مغرب دستور 2011 ؟: أعتقد أن مفهوم المجتمع المدني كما تبلور في سياق الغرب والتطور المذهل الذي شهده في العقود الأخيرة هو في المحصلة ثمرة مجهود واجتهاد بشري للحد من طغيان السلطة وتطويعها وأمسى ذو بعد كوني متعذر التجاوز من طرف قوى التسلط والاستبداد مهما حاولت مسحه ومسخه، إذا أرادت أن تعطي لنفسها نفسا ووجها مقبولا، نوعا ما، لدى الهيئات الدولية ولدى شعوبها .ولو أنها تسعى دائما إلى المراوغة والخداع والمناورة الذكية ، تفلح في الكثير من الحالات في تسويق صورتها- كسلطة تحترم الوجود المستقل للمجتمع المدني - لدى هذه الهيئات عبر استغلال نسيج جمعوي لتزكية سياساتها الحكومية المجحفة . ولعل البروز المذهل لعدد هام من الجمعيات خلال ثمانينات القرن الماضي شكل قوة حقيقية للمجتمع المدني بالمغرب اليوم ،ونعني بتلك الجمعيات والهيئات المنظمات العاملة في مختلف الميادين والتي تتمتع باستقلالية ما عن الدولة وتدخل في نزاع من أجل بناء دولة الحق والقانون بالمعنى الواسع للعبارة . ونظرا للصراع الشرس الذي تشنه أجهزة السلطة على نمط هذه الجمعيات غير المتحكم فيها قد ساهم في إنهاكها معنويا، بعض الأحيان، الشيء الذي أطلق اليد الطولى للمفسدين في تخريب مؤسسات الدولة من طرف المغتنون بالمال العام والذي بات يظهر بشكل جلي على وجودهم الاجتماعي . هؤلاء الذين كانوا حتى وقت قريب قد أصيبوا بهلع ربيع الديمقراطية ولم يتنفسوا الصعداء إلا بعد أن لاحت أمامهم انتكاستها دون أن يعني ذلك نهاية السيرورات الثورية التي وصلت إلى نقطة اللاعودة ويشي بأن الشعوب قد انطلقت نحو التحرر والديمقراطية ولا يمكن لأي قوة أن تعيد التاريخ إلى الوراء ، بل الأدهى من ذلك يتم نقل عقلية الفساد تلك إلى نمط من الجمعيات للتشويش عن المجتمع المدني الحقيقي . وأعتقد أن دستور 2011 الذي كان العديد من الأكاديميين يعتبرونه عقدا اجتماعيا يؤسس لتعاقد سياسي جديد بات اليوم مجرد لغة جميلة مكتوبة على الورق ومجمدة في ثلاجة القوى المحافظة ، ولعل الحوارات الموضوعاتية التي تجريها الحكومة ووزارة الداخلية حول تفعيل الدستور في الجانب المتعلق بالمجتمع المدني يؤكد فرضية سعي الدولة إلى استبعاد كل المكونات التي يمكن أن تتحاور معها الند للند حول القضايا التي يطرحها الدستور نفسه. بل أن هذا الأخير يؤول بطريقة فجة من أجل تصغير مقتضياته ، مع العلم أن فصول هامة تخول لهيئات مدنية في الفصل 14 و15 منه دور طليعي في تقرير الشأن العام والمساهمة في صنع القرار ، مع العلم أن مسألة تفعيل الدستور تخضع هي الأخرى لموازين القوى السياسية على الأرض . والخلاصة التي نود طرحها ، بدون تحفظ ، هي أن المجتمع المدني بالمغرب اليوم يتشكل من كل القوى والمنظمات المدنية الساعية إلى المساهمة الفعلية في خلق شروط الانتقال الديمقراطي بالمغرب ويتشكل على أرض الوقع من كل الجمعيات ذات الصبغة المستقلة والهيئات النقابية والحقوقية وكل التيارات السياسية الديمقراطية ومن جميع حركات الشباب المناضل وهو ما أصبح يعرف ببساطة بالسلطة النقيضة عندما تكون الدولة غير ديمقراطية، والتي لا يمكن أن يعول عليها في خلق مجتمع مدني ديمقراطي وأقصى ما يمكن أن تفعله في هذه الحالة سوى تعويق لحظة التحول الديمقراطي الذي ينشده الشعب المغربي وقواه الحية . وإن الدولة في سعيها الممنهج في تعويق وتخريب المجتمع المدني الحقيقي وتطويقه فإنها بذلك لن تلغي لحظة التغيير ، لأنه منطق التاريخ بتجاوز الإرادات المستبدة، ولكن عليها أن تستعد غدا لمواجهة الفوضى عندما لا تجد أمامها سوى المفسدين الذين يتفنون في التزلف للدولة والسلطة في اللحظات التي تغدق عليهم في نهش المال العام لكنهم يهربون بجلدهم عندما تشتد لحظات الصراع كما حدث في التاريخ الجاري لربيع الديمقراطية الذي يواجه امتحانات عسيرة بسبب تدخل القوى الظلامية الهمجية والامبريالية التي تحاول تحويله إلى خريف لسفك الدماء لنشر الخوف وسط الشعوب حتى لا تطالب بالديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة .