هذا المقال التحليلي يأتي في سياق الندوة التنظيمية الوطنية التي عقدها حزب الأصالة والمعاصرة يوم 10 غشت 2012، والتي اتسمت أغلب المداخلات فيها بلغة تصعيدية غير مسبوقة، وبرسائل قوية لحكومة عبد الإله بنكيران وكل الأطراف "المعادية" لحزب الأصالة والمعاصرة . إلا أن ما أثار انتباهنا هو مداخلة "النافذ" إلياس العمري عضو المكتب السياسي للحزب، التي تجاوز فيها نقاش الوضع التنظيمي للحزب وسبل النهوض به من أجل معارضة فعالة ووازنة، وأبى إلا أن يوجه رسائل غامضة لأطراف لم يسميها، يحملها المسؤولية عن ثبات الوضع المزري الذي يعيشه الشعب المغربي منذ الإستقلال لحدود اللحظة. فمن هي هذه الجهات المسؤولة عن هذا الوضع في نظر صاحب المداخلة؟ وهو الأمر الذي سنحاول الإجابة عنه من خلال قراءة وتحليل صريح ومضمون جزء من خطابه الذي يعتبر الجزء الأكثر تركيزا واختزالا للمواقف من حيث حمولته السياسية، ويتعلق الأمر بالجزء التالي: " من سنة 1956 إلى حدود 1972، كان وضع المغرب يتسم بالاستبداد والقمع والجوع وغياب الديموقراطية، ثم جاءت مرحلة 1972، فاخبرونا أن السبب في كل ذلك هو الجنرال أوفقير، ولكن بعد ذلك مات أوفقير أو قتلوه، فهل شهدنا عصر الديمقراطية، وانتهاء عهد المجاعة؟ هل تم رفع الاستبداد؟ ثم اخبرونا سنة 1983 أن السب في كل ذلك يكمن وراءه كل من الدليمي ومن معه، ولكن بعد ذلك مات الدليمي أو قتلوه، وبعد ها في سنة 1999، اخبرونا بان السبب في ذلك كان وراءه ادريس البصري، وها هو ادريس البصري مات، فهل حدث تغيير ما؟ وقد يأتي من يخبركم أن السبب يكمن في إلياس او فؤاد عالي الهمة، ومن هنا عشر سنوات سيخبروننا أن السبب في ذلك يكمن وراءه السيد بنكيران أو باها... وهكذا دواليك، فالسؤال الجوهري يكمن اذن في من له المصلحة في شخصنة الصراع عوض مأسسته في البلاد؟" من اجل فهم مضامين هذا الخطاب، يتوجب علينا أولا استخلاص المفاتيح الأساسية والرئيسية التي جاءت في هذه المداخلة، والتي يمكن جردها على الشكل التالي: أولا: ثبات الوضع في المغرب منذ 1956، لحدود اللحظة في الجانب المتعلق بالاستبداد والجوع والفقر وغياب الديمقراطية.... ثانيا: تقسيم تاريخ المغرب إلى حقب زمنية حسب المسؤولية عن أحداث كل حقبة ثالثا: وجود جهات غير معلن عنها تشخصن الصراع عوض مأسسته رابعا: الجهات الغير المعلن عنها في المداخلة هي المسؤولة عن الأوضاع المزرية وغير المستقرة وبناء على ماسبق يبدو أن الجهة المسؤولة عن شخصنة الصراع لا يمكن أن تخرج عن نطاق طرفين أساسين: -إما أن الخطاب موجه لهرم النظام السياسي بالمغرب والمتمثل في المؤسسة الملكية -إما أن الخطاب موجه لطرف حزبي فاعل في المشهد السياسي من الناحية النظرية يستحيل تصور العملية السياسية بدون عملية تواصلية عبرها يتم التمهيد لترجمة الأهداف التي يروم تحقيقها كل طرف سياسي على حدة، إلا انه تجدر الإشارة إلى أن عملية التواصل هاته تختلف من حيث جوهر أهدافها باختلاف طبيعة النظام السياسي الذي يتم العمل من داخله. فعندما يتعلق الأمر بعملية تواصلية من داخل نظام سياسي هو في مرحلة البدء في ركب مسلسل الديمقراطية دائما ما تتجه فيه الخطابات السياسية للأحزاب نحو دعم السلطة القائمة وتوجهاتها -أو انتقادها على خجل- في جميع المجالات من أجل خدمة النظام وتماسكه واستمراريته، أما في الدول الديموقراطية فتكون فيها الخطابات السياسية ذات وقع كبير على النظام السياسي ومتسمة بلغة نقدية صريحة خصوصا عندما يتعلق الأمر بالشؤون الداخلية للدولة. فلما كانت بلادنا من ضمن بلدان الصنف الأول، فإنه يستحيل أن نجزم بإمكانية الأحزاب السياسية العاملة في إطاره أن تدخل في صراع مباشر مع هرم السلطة ، وهو الأمر الذي يجعلنا نستبعد في هذا الخصوص أن يكون الخطاب السياسي الذي وجهه السيد إلياس العمري ، موجها للقصر ومحيطه، ويتبين ذلك جليا من خلال كامل أطوار كلمته التي كانت تعبر بصريح العبارة عن غياب مثل هذا الاحتمال، وهو الأمر الذي يفيد حصر دائرة المشمولين والمعنيين بالخطاب في أحد الأطراف الحزبية العاملة في المشهد السياسي المغربي، فمن يكون هذا الحزب؟ إن تحليلا مفصلا لهذا الخطاب، الذي سرد لنا وضعا متسلسلا منذ سنة 1956 لحدود المرحلة، وحتى لما بعد هذه المرحلة، يفيد أن الطرف المستفيد من شخصنة الصراع كان له وجود سياسي منذ دخول المغرب في مرحلة الإستقلال. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يفيد أن كلا من أوفقير والدليمي والبصري ليسوا مسؤولين عن وضع الفقر والتردي الذي يعيشه الشعب المغربي وأبدا ما كانوا هم السبب في عرقلة ركب الديمقراطية والنهوض بمؤسسات الدولة، كما لن يكون كل من الياس والهمة وبنكيران وباها مسؤولين عن ذلك في المرحلة الراهنة ومستقبلا. كان يمكن أن نرجح القول بان الجهة المعنية بهذه الرسائل المشفرة هو حزب العدالة والتنمية الذي يتولى قيادة الائتلاف الحكومي الحالي، لكن إيراد أسماء بعض قيادات الحزب ضمن الأسماء التي يمكن أن تكون موضوع شخصنة في المستقبل القريب يستبعد بما لا يدع مجالا للشك هذا الاحتمال، ولقد قطع الشك باليقين عندما أكد بصريح العبارة في منطوق قوله آن حزب العدالة والتنمية لم يكن ذو تاريخ عريق بل هو وليد السنوات الأخيرة. فالطرف المعني يمكن تحديده من خلال الحقب التاريخية الواردة في الخطاب حيث لم يتم الإشارة لأي طرف مسؤول عن حقبة 1956-1972، مما يفيد أن بداية الاستبداد وتغييب الديمقراطية وشيوع الفقرو...، يتحمل فيها المسؤولية من كان يتقلد المسؤوليات من داخل مؤسسات الدولة آنذاك والمستحوذون كذلك في تلك المرحلة عن أكبر نسبة من الاقتصاد الوطني، وهو الأمر الذي لا يدع مجالا للشك من كون الجهة المعنية بهذا النقد اللاذع هو حزب الاستقلال على اعتبار أن هذا الأخير هو الذي واكب كل المراحل المذكورة دون الإشارة لأي إسم من قياداته. وهنا يطرح السؤال المفصلي لماذا لم يعمد السيد إلياس العمري إلى كشف هذه الجهة بشكل صريح أو على الأقل إرسال إشارات أكثر وضوحا ودلالة؟ وما الذي جعله يضطر إلى التصريح في خطابه بتأجيل الكشف عن الجهات المسؤولة عن شخصنة الصراع عوض مأسسته في الوقت المناسب؟ وماذا كان سيكلفه مثل هذا الوضوح؟. - سليمان التجريني: باحث في سلك الدكتوراة