في خضم مشاغل الحياة وارتفاع تكاليف العيش، استبد التوتر بأعصابي وتزايدت وتيرة القلق في أعماقي. وكمن ينشد النجاة من غرق محقق، صرت أغالب صروف الزمان بعناد شديد. تقض مضجعي ظواهر رهيبة وصراعات غريبة، ولا خلاص يلوح في الأفق. كل العقاقير المنومة فقدت مفعولها، ولم يعد بمقدور الكرى أن يأخذني في رحلاته الهادئة ويفرجني على عوالمه السحرية... وبما أن التلفزيون المغربي مازال متماديا في غيه، تائها بدون بوصلة وسط كثبان من السخافة، يفتقر إلى سياسة واضحة لبرمجة تعكس التنوع الثقافي والحضاري للمجتمع، وإلى أعمال جادة تساهم في التثقيف والترفيه، ويصر على إنتاج المزيد من الرداءة، التي لا تحترم أبسط معايير الجودة ولا تقيم وزنا لذكاء المشاهد، كان ضروريا اللوذ بقنوات عربية وأجنبية أخرى، وأحيانا أغير وجهتي صوب برامج إذاعية غالبا ما تكون ذات صبغة اجتماعية، علني أجد فيها ما يخرجني من كآبتي ويبدد وساوسي ووحشتي... وأنا في الاستماع ذات ليلة حارقة من شهر غشت 2014 لبرنامج إذاعي عبر الأثير، جاء صوت مستمع من خلف المذياع متحشرجا ومرتبكا، يطرح قضيته على النحو التالي: " اسمي محمد، من مدينة قصبة تادلة، عمري 16 سنة. ماتت المحسنة التي كانت - رحمة الله عليها - تتكفل برعايتي، طردني أبناؤها من البيت، فاتخذت لي حيزا تحت القنطرة كمأوى منذ أربع سنوات. والدتي الأصلية متزوجة ولها طفلان من زوج آخر، ترفض بشدة أن تدلني عن والدي وتهددني بالسجن ما لم أبتعد عنها، خوفا من أن يعلم زوجها بحقيقتي وأكون سببا في ضياع طفليها، ومراعاة لمصيرهما أقضي معظم أوقاتي متسكعا، بدون حرفة ولا هوية، لا صدر يحضنني ولا يد تطعمني غير واد يجود علي بقليل من أسماكه، أقتات منها وأبيع الباقي لسد بعض حاجياتي المتواضعة... أما كان حريا بهذه الأم اللجوء إلى الإجهاض أو خنقي مباشرة بعد الولادة، بدل أن تسلمني لغيرها متحاشية الفضيحة؟ لماذا يلدوننا ويرموننا في الشوارع؟ الصغار بدورهم يرجمونني بالحجارة بلا سبب، يئست من العيش منبوذا ومضطهدا، ولو لم أكن أحسن العوم لارتميت في عرض الوادي وتخلصت من هذا الجحيم، إني أفكر في الانتقام من والدتي التي لا تهتم لحالي ولا لمآلي...." استنكر المذيع ما جاء على لسان الطفل، وأبدى امتعاضه من موقف الأم بحسرة، تاركا المجال مفتوحا لتدخلات المستمعين. ف"محمد" وغيره كثيرون، وجد نفسه فجأة متخلى عنه بلا هوية، بلا حالة مدنية ولا بطاقة وطنية، في مجتمع بلا قلب وبيئة متوحشة، يفترش الثرى ويلتحف السماء، تفترسه الوحدة ويعبث به سوء التغذية، معرض لمخاطر الاغتصاب والأمراض الفتاكة، محروم من حنان الأبوين ومن الحق في الحياة والتعلم، بعدما تخلى والده الحقيقي عن أمه، إثر نزوة عابرة أو وعد كاذب بالزواج أو اغتصاب... ونظرا لكون الأم لم تكن على ما يبدو مستعدة ماديا ونفسيا لرعايته، ولئلا تقترف جرما آخر بعدما ابتسم لها الحظ، لم تتردد في تسليمه لمن توسمت فيها خير تدبر أموره، وإشباع حاجاته المادية والنفسية والاجتماعية. فقرار التخلي عن ابنها فوق طاقتها، وما إقدامها عليه إلا هروبا من الفضيحة والعار، مادام الحمل خارج مؤسسة الزواج يعد جريمة شرف، وأمرا منافيا للأحكام الدينية والنصوص القانونية... قد يقول قائل دون تقدير للظروف والملابسات، بأن أم محمد امرأة مجرمة وعديمة الإحساس، حين آثرت الاستسلام والتخلص من فلذة كبدها بمجرد ولادته، كما تفعل العديد من الأمهات المكرهات على نفس الفعل أو أفظع منه، بدل ركوب التحدي وتكريس حياتها لرعايته وحمايته مهما كلفها ذلك من ثمن باهظ. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأمومة ليست بالأمر الهين، فهي شعور عاطفي ووجداني، يبدأ منذ اللحظة الأولى من الحمل ويترسخ جيدا بعد الوضع، سيما إذا ما تم اختياره عن قناعة ووفق شروط اجتماعية ونفسية مستقرة، تمنح المرأة الاستعداد العاطفي والإحساس بحجم المسؤولية، ولعل هذا ما يفسر الارتباط القوي لأم محمد بابنيها المولودين بشكل شرعي، وفي وضع اجتماعي مغاير لسابقه... محمد وأمثاله وشمت ذاكراتهم بندوب عميقة، يصعب على أمهر جراحي التجميل إخفاء آثارها المشوهة، ضاع حاضرهم ومستقبلهم، ما لم تمتد إليهم أيدي رحيمة لانتشالهم من بين براثن الإهمال وغياهب التهميش والضلال، وسيستمرون في البحث عن آبائهم وأمهاتهم، وعن الأسباب الثاوية وراء تخليهم عنهم، يعانون أزمات نفسية حادة بسبب النكران وطمس هوياتهم... ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم، لا يمكن اختزالها في البعد الأخلاقي والديني، فهي نتاج واقع مرير يرزح تحت وطأة الهشاشة والفقر، وغارق في مستنقعات البؤس والقهر، حيث ارتفاع نسبة الأمية وتزايد أعداد المهمشين والعاطلين... واقع أفرزه سوء تدبير الشأن العام وتفشي مختلف مظاهر الفساد، أمام أشخاص يرجحون مصالحهم الذاتية وغير مؤهلين لتحمل المسؤولية، تعوزهم القدرة على خلق وابتكار حلول ناجعة، لما يعج به المجتمع من ظواهر سلبية ومعضلات اجتماعية، جراء سياسات عمومية فاشلة ترتكز على الإقصاء، وتؤدي حتما إلى الانحراف في أبهى تجلياته... أين نحن من المؤسسات العمومية والهيئات والمنظمات والجمعيات المكلفة برعاية الأطفال خاصة المتخلى عنهم، والتي لها من الوسائل المادية والموارد البشرية ما يؤهلها للاضطلاع بأدوارها التربوية والتنشئة الاجتماعية؟ فعلى الدولة التعجيل بالتدخل لتطويق الآفة، عوض الاتكال على جمعيات لم تعد قادرة على استيعاب الجحافل المتنامية من أطفال الشوارع، وأن تعلم جيدا أنها بإهمالهم ترتكب جناية كبرى، وتساهم بقسط أوفر في إهدار طاقات شابة مهمة. وبذلك تخلف الموعد مع الإقلاع الاقتصادي المنشود، وتيسر مأمورية عصابات الإجرام والتكفير في استغلالهم لما يهدد أمنها واستقرارها... فمن العار أن نستمر في التزام الصمت حيال شريحة اجتماعية تعيش بيننا بلا ملامح ولا آفاق، دون أن تستفز ضمائرنا حياتها على الهامش بين صناديق القمامة. ويقتضي الحس الوطني الصادق والعمق الإنساني النبيل، أن نسارع إلى وضع برامج واعدة تنقذ كرامتها وتعيد لها آدميتها، وإلى تمهيد كافة سبل اندماجها في أجواء من التكافل الاجتماعي، باعتماد مقاربة شمولية تتجاوز حدود تلك النظرة الضيقة المنحصرة في زاوية الإحسان والشفقة، إلى نوع من التضامن الفعلي وبمفهوم أوسع للمواطنة الحقة، وما تحمله من قيم العدالة الاجتماعية، العيش الكريم والتساوي في الحقوق والواجبات... أطفالنا منارة مستقبل بلادنا، إذا ما اعتنينا جيدا بمقوماتهم العقلية وسلامتهم البدنية وسهرنا على حسن رعايتهم الاجتماعية، فهم الحجر الأساس في بناء مجدنا وصرح حضارتنا، وبدون توجيه سليم ومثمر للسياسات العمومية نحو تعليم هادف، وحرص شديد على تطوير إمكاناتنا المادية والبشرية، بما يكفل إحداث طفرة نوعية عبر مخططات تنموية حديثة، للحد من الفوارق الطبقية وإعادة التوزيع العادل للثروة الوطنية، لا يمكن تصور نهوض مغرب جديد، قوي ومزدهر. فالعنصر البشري من أهم الركائز الأساسية للرأسمال غير المادي، المساعد على إنتاج الثروة الحقيقية... فلنبادر إلى إسعاف طفولتنا المهمشة قبل فوات الأوان.