قد يصدق شق من المثل القائل «أنا وأخي ضد ابن عمي» على أطوار هذه القضية، التي أزهقت فيها روح قريب، على يد ثلاثة أشقاء، لم يكونا بعيدين عن الضحية. وإنما تربط بينهم قرابة عائلية، فهم أبناء عمومة.ولأن المجتمع المغربي يرزح تحت وطأة نزاعات تظل مستحكمة وتقصي بدرجة بالغة، وشائج عائلية كان من الضروري أن يسودها الوفاق وأواصر الاحترام. بيد أن انتفاء إدارك قيمة النفس التي لايجوز الاعتداء عليها وشيوع التفكك العائلي، أدى في كثير من الحالات إلى تهديد تماسك العلاقات الاجتماعية وضربها في الصميم . في قضية هذا العدد، ظل صراع قديم بين الضحية وعائلة المتهمين الذين ليسوا سوى أبناء عمه، إلى تأجيج نار الانتقام في دواخلهم، حيث أقدموا في النهاية على اقتراف جريمة الضرب والجرح عمدا في حق ابن عمهم حينما كان عائدا من أرضه الفلاحية يحمل غلالا، نتجت عنها انتقاله إلى دار البقاء ، ليبدأ مسلسل من الاستنطاق والمحاكمة، انتهت إلى إدانتهم بعقوبة سجنية ثقيلة، حيث احتكمت هيئة القضاء الجالس إلى قناعتها ومجموعة من القرائن والتصريحات، خاصة تلك المرتبطة بالضحية نفسه قبل وفاته وشهادة مصرحين .. فصول القضية، تعود إلى اليوم الذي بلغ فيه إلى علم الضابطة القضائية بمنطقة «ماسة»، التابعة لإقليم اشتوكة أيت باها، إشعارا بتعرض شخص لعملية اعتداء بأحد دواوير دائرة «بلفاع ماسة». غير أن الموت أدركه وهو في المركز الاستشفائي الجهوي بأكادير. استشعر الدركيون جسامة الخبر وأعدوا العدة للانتقال إلى مسرح الاعتداء، حيث عملت عناصر الدرك الملكي على إجراء أبحاث في عين المكان، أفضت إلى تحديد أقارب الضحية الذي انطلق مسار الاستماع لتصريحاتهم، واحدا تلو الآخر. اللائحة، استهلها أخ الضحية، الذي أفاد أن الأخير كشف له وهو طريح الفراش بالمستشفى أن أبناء عمه هم الذين وقعوا على جريمة الاعتداء عليه، وجاء هذا التصريح متطابقا مع إفادة والدة الضحية وأخته من بعدهما. وسعت الضابطة القضائية دائرة المصرحين الذين تم الاستماع إليهم، أحدهم أعرب عن ذهوله يوم كان في طريقه إلى بيته عائدا في المساء، حين هاله مشهد سقوط الضحية الذي تعرف عليه، مغشيا عليه غير بعيد عن عربته، فما كان منه إلا أن أخطر والدة الضحية ليتم نقله إلى المستشفى عبر سيارة الشاهد ليؤكد هو بدوره ما كشفت عنه تصريحات عائلة الضحية. المتهمون يتشبتون بالإنكار ! أول أبناء عمه، أنكر معرفته التامة بهوية من اقترف جريمة الاعتداء في حق الضحية، وقبل أن يعترف بوجود نزاع دائم بين والدهم وعمهم حول عقار، اعتبروا أن وقت العثور على الضحية وهو طريح أرضا قد دلفا خلاله إلى بيتهما بعدما قفلا عائدين من ضيعتهم الفلاحية دون أخيهما الثالث، وفور تناولهما وجبة العشاء أدركهما النوم فاستسلما إليه وفق ما صرح به المتهم الثاني. وجود أصل النزاع بين عمهم والد الضحية، أكده تصريح المتهم الثالث نفسه، لكنه ظل هو الآخر متشبثا بإنكار معرفته بمن اعتدى على ابن عمه. المتهمون الثلاثة، كانت تنتظرهم خارج بناية مركز الضابطة القضائية سيارة خاصة تنقلهم إلى قاعة الاستنطاق لدى الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بأكادير. طالب الوكيل العام بإجراء تحقيق مع إجراء استنطاق ابتدائي وتفصيلي، نتائجه كانت كافية لتوقيع متابعة في حقهم من أجل جريمة الضرب والجرح عمدا مع سبق الإصرار والترصد واستعمال السلاح المؤدي إلى الموت دون نية إحداثه لتتم إحالتهم على المحكمة لتنظر في ما تمت متابعتهم بمقتضاه. من الباب الخاص بالمعتقلين، دلف الإخوة الثلاثة، حيث وقفوا مشدوهين عندما ولجوا قاعة المحكمة والحضور يتتبع خطاهم. إلى جانبهم، وقف شهود الإثبات، كما أن شهودا للنفي لبوا بدورهعم نداء المحكمة الذي وصلهم على شكل استدعاء طارئ، فضلا عن هيئة الدفاع والمطالبين بالحق المدني التي تواجدت خلال النظر في ملف الإخوة، الذين غدوا أعضاء بالفطرة لابن عمهم. تعرفت الهيئة على جميع الحاضرين، فأمرت بإخراج الشهود إلىفضاء خارج القاعة، في انتظار أن يحين دورهم لتتم المناداة عليهم . المتهم الأول والثاني، ظلا يتفرسان محيا رئيس الهيئة وهو يشعرهما بالمنسوب إليهما، بيد أنهما أصرا على إنكارهما فعل الاعتداء في حق ابن عمهما، فحينما آن غروب شمس ذلك اليوم، ولجا باب منزلهما علما حسب ما سعيا لتأكيده أمام القاضي أنهما تربطهما آصرة طيبة مع الضحية، وهي التريحات التي تبشت بها أمام الهيئة. ظل وجود نزاع مستحكم حول العقار قاسما مشتركا في معظم تصريحات المتهمين. غير أن القاضي واجههما بتصريح الضحية قبل وفاته وهو الذي يتهم أبناء عمه بالاعتداء عليه ليلة الجريمة. المتهم الثاني فسر ما أقدم ابن عمهم عليه من بوح تتحكم فيه دوافع الانتقام، مشيرا إلى عدم صحة تلك التهم. الاتجاه ذاته، هو الذي سارت على منواله تصريحات المتهم الثالث الذي أصر على الإنكار وفق ما ذهب إليه شقيقاه. ليؤكد أن الضحية إنما أراد بذكر أسماذهم في واقعة الاعتداء الزج بهم في السجن، والتخلص منهم كأبناء لعمه تفرق بينه وبين أخيه أب الهالك خصومه استعرت لهيبها بسبب خلاف حول عقار. ظل الإنكار سيد الموقف فيتصريحات المتهمين، لكن أصل النزاع بدا جاثما بين هذا النسيج العائلي. أدركت الهيئة وصول دور الشهود الذين استهلت تصريحاتهم أمامها بإفادات والدة الضحية. كانت أقوال الشاهدة تسير في اتجاه تعضيد إفاداتها بكون شخصين تعرفهما من المنطقة، قد أحضرا فلذة كبدها إلى البيت ورأسه يسيل دما. وأن كل ما أخرجه ابنها من فاه هو تحميل أبناء عمه مسؤولية اقتراف عملية الاعتداء في حقه . أخت الضحية، كانت وقفت أمام هيئة المحكمة بدورها لتقدم وصفا لتداعيات ذلك الاعتداء، فقد تم حمل أخيها على عربة مجرورة بدابة نحو البيت وآثار جرح غائر في جبينه بدا باديا عليه. وقالت إنه حين وجهت إليه والدتها استفسارا حول هوية المعتدين كانت إجابته تدين المتهمين الثلاثة، الذي وقفوا أمام الهيئة في قفص الاتهام، ولم يكونوا غير أبناء عم الضحية. شهادة بوقع كرة ثلج حينما كان في طريقه لزيارة أحد معارفه، انتبه إلى هول ما كان الضحية يتعرض له من اعتداء وهو على متن عربة مجرورة، تناهت إلى مسامعه أصوات تطلب النجدة، غير أنه لم يتمكن من تحديد ملامح من كانوا يوقعون على فعل الاعتداء وهو على مسافة أمتار من مسرح العملية. لكنه نفى، كذلك ، معرفته بالضحية ولا طبيعة الأدوات التي تمت الاستعانة بها لتنفيذ الجريمة.. هذا ما صرح به أحد الشهود الذين تم الاستماع إليه في المحاكمة. ومن بين من قدم تصريحاته، أخ الضحية الذي لم تخرج إفاداته عما صرحت به والدته وأخته، ليعود والد الهالك مذكرا بمسار قديم من النزاع الدائر مع الأظناء الذين سبق لهم أن اعتدوا عليه منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ عاينت المحكمة جرحا قديما، ليصرح زمام المحكمة أن الطبيب الذي كان يشرف على حالة ابنه، أفاده أن الإصابة التي تعرض لها الضحية في رأسه ليست إلا السبب الرئيسي في وفاته، موضحا وجود نزاع بينه وبين والد المتهمين. بيد أن شاهدا للنفي، ذهب إلى التصريح بوجوده رفقة أحد المتهمين في نشاط فلاحي طيلة النصف الأخير إلى أن حان وقت غروب شمس يوم القضية. الكلمة للدفاع تناسقت شهادة أحد المصرحين في الملف، في جميع مراحله، فضلا عما كشف عنه الضحية قبل أن يسلم الروح إلى بارئها، حيث أخبر عائلته أن المتهمين الذين سقفون أمام العدالة، هم المقترفون لعملية الاعتداء التي تعرض لها. كل هذه الإفادات شكلت العناصر الإثباتية التي شدد دفاع الضحية على ضرورة الأخذ بها وفق لفصول المتابعة وقرار الإحالة، في الوقت الذي طالب فيه بتعويض في إطار الحق المدني تضامنا بين المتهمين، لا يقل عن ستمائة ألف درهم. دفاع المتهمين، ذكر بإنكارهم الأفعال المنسوبة إليهم في سائر مراحل المتابعة وأمام هيئة المحكمة، ذاهبا إلى اعتبار شهادة الشهود تستوجب أخذها بحذر وتفكير، إذ أن ما أفادوا به من كون الضحية قد صرح لهم بهوية المعتدين عليه، لا يقوم مقام الحجة. مسرح جريمة الاعتداء، اعتبر أنه يظل مكتظا بالمارة ومتوفرا على الإنارة الأمر الذي يبقى معه تنفيذ الاعتداء مستحيلا دون أن يرمق أحدهم من ارتكب تلك الأفعال. تغيير مكان الجريمة ونقله إلى منزل عائلته، كان موضع تساؤل من دفاع المتهمين، مشيرا إلى أن التشريح الطبي كشف عن إصابة الضحية من جهة الخلف والأمام، كما لايعقل أن يكون مصابا بكسور، مرجحا تعرضه لحادثة سير أو سقوط في بئر وتستر الشهود على الحقيقة. فيما أكدت النيابة العامة في مداخلتها، ما ورد في قرار الإحالة. محكمة .. في قرارها، اعتبرت هيئة الحكم أن إنكار المتهمين تكذبه تصريحات الشهود أمامها بعد أدائهم اليمين القانونية، إذ أن الضحية صرح لهم قبل وفاته بهوية المعتدين عليه، خصوصا لمن كان يحمله على متن سيارته. بالإضافة إلى شاهد أفاد بتفصيل أمام قاضي التحقيق والمحكمة، برؤيته للضحية وهو راكب عربته المجرورة، ويروي الشاهد كيف أنه رمق ثلاثة أشخاص انهالوا عليه بالضرب بعدما تمكنوا من إسقاطه على الأرض، ليعلم بعدها بانتقاله إلى دار البقاء. ذهبت المحكمة إلى أن من غير المعقول أن يترك الشهود، سواء منهم إخوة الهالك أو والديه، القاتل الحقيقي ويلفقوا التهمة لشخص آخر غيرهم، فطبيعة الحق تقتضي، بحسبها، القصاص من الفاعل الحقيقي. وهي نزعة إنسانية غير قابلة للتغيير. قناعة المحكمة، أكدها كذلك قيام المتهمين بتنفيذ العملية بواسطة سلاح بحسب التقرير التشريح الطبي، لكن دون متابعتهم بسبق الإصرار والترصد الذي رأت المحكمة غياب ما يثبتهما في العملية. مسار بحث وتحقيق وجلسات محاكمة طيلة مجريات الملف، استجمعت بعدها الهيئة سائر العناصر المكونة للمتابعة فأصدرت قرارها الأخير بإدانة الأظناء الثلاثة بعقوبة سجنية تصل إلى خمسة وعشرين عاما نافذة لكل واحد منهم ، وهي عقوبة قد ترهن ما تبقى من حياتهم وراء أسوار السجن، فيما حكمت لفائدة المطالب بالحق المدني بمبلغ ثلاثين ألف درهم . محضر استجوابي : ذكر دفاع المتهمين في مرافعته بمحضر استجوابي ، انتقل خلال عون قضائي لتحرير أقوال الطبيب بعدما تم الاطلاع على أوراق الملف الطبي . خلال هذا المحضر ، تم التأكيد على كون الضحية قد تم إدخاله إلى المستشفى وهو في حالة غيبوبة ليرقد بقسم الإنعاش، إذ لايسمح لأي كان بزيارته ، كما أن محضرا آخر أكد فيه أحد الدكاترة بكون حالة الغيبوبة لازمت الضحية إلى وفاته بالإضافة إلى حالته التي لاتسمح بالتحدث إلى الغير وتبادل الحديث بشكل يستحضر فيه الضحية وعيه بما يصدر عنه .