إن ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، ثم بعد ذلك نزول الوحي فيها، يدلان على أن مكة هي مركز الدعوة الإلهية بالأصالة. وقول الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92]، يدل على أن مركزية مكة للمعمور، هي من وجهين: الأول، لأنها أم القرى. ومعنى هذا أن اليابسة كلها قد خرجت منها (كما يخرج الولد من أمه)، لكونها كانت أول ما أظهر الله على وجه الماء. وقد جاء في الحديث: «أَوَّلُ بُقْعَةٍ وُضِعَتْ فِي الأَرْضِ مَوْضِعُ الْبَيْتِ ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهُ الأَرْضُ.»[1]. والوجه الثاني، هو توسطها ما حولها من اليابسة حقيقة، لتكون بذلك عاصمة للأرض كلها. وكون مكة بهذه المثابة، يجعلها لا شرقية ولا غربية؛ لكون النسب تعود إليها لا إلى غيرها. فالشرق ما كان شرقها، والغرب ما كان غربها. وبما أن الوسط في اللغة، أعلى الشيء، فإن مكة تكون لها الرفعة المعنوية، على كل بقاع الأرض. وبما أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، أعلى العقول مرتبة، فقد ناسب من هذا الوجه مكة، ليكون النبي الوحيد الذي يظهر فيها، بخلاف كل الأنبياء السابقين، الذين ظهروا فيما حولها. وكما كانت الكعبة رمزا إلى الذات، والطواف المسبع رمزا إلى أمهات الصفات؛ فكذلك كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاتيا، والأنبياء صفاتيين. ولما كانت هذه الرفعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابتة من كل وجه، فإنها تعدت إلى أمته فضلا من الله ونعمة، كما أخبر الله في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وأما كون المدينةالمنورة مهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومهبطا لشطر الوحي، وموضعا للقبر الشريف؛ فيجعلها في المرتبة الثانية بعد مكة، كما كانت الحقيقة المحمدية (العقل الأول) في المرتبة الثانية من الذات. كل هذا، لأنه ما في الوجود شيء إلا الله على التحقيق؛ وكل مشهود في هذا الوجود، فهو كلمة قرآنية إلهية، تنبئ عن الأسماء الإلهية، التي هي المعاني الذاتية الغيبية. ومن يعطيه الله إدراك الترابط بين الأدلة والدلالات والمدلولات في الوجود، فإنه سيعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو السر الذاتي المسمى إنسانا (من إنسان العين الذي هو بؤبؤها). ومن هنا كان المقصودَ لله من الخلق وحده، وكانت المخلوقات الأخرى مخلوقة له (من أجله)؛ فهي إذاً مخلوقة بالقصد الثاني. ومن هنا أيضا كانت كل العقول (وما في الوجود إلا عاقل) تطوف حوله طوافا ذاتيا، في انجذاب يشبه انجذاب الألفاظ إلى معانيها، والمعاني إلى ألفاظها؛ فكان مطلوبَ كل العقول، من كل طريق. ولكن ما عرفه، إلا من سلك السبيل التي دل عليها من قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. المحبة المذكورة في الآية، هي الجاذبية الرابطة بين الطالب والمطلوب، في كل عالم بحسبه. والمحبوبية التي يصل إليها المتبع باتباعه، هي بلوغ القصد من المطلوب. ومغفرة الذنوب، هي رفع توهم المغايرة، الذي كان لدى الطالبين أول طلبهم. وعلى هذا، فإن عقول الفلاسفة وأهل الفن وغيرهم، لا تطلب في سلوكها الفكري أو العقلي عموما، إلا معرفة ما ذكرنا، وإن لم تعلم ذلك. وإذا قارنا بين العقول المجردة والتي تسير على السبيل المشروع، فإننا سنعلم لمَ كانت معرفة الحقيقة من نصيب أهل التدين دون غيرهم. ولكن ينبغي أن نفرق هنا، بين أهل التدين الرسمي، الذي لا بد له من أن ينحرف عن أصله لأسباب تظهر في الأمم كلها؛ وبين أهل التدين الحق، غرباء زمانهم، الذين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة. ولو أن العرب المسلمين كانوا على وعي بمكانة مكة حقيقة، لجعلوا أمورهم كلها تعود إليها (لا نقصد هنا نظام البلد التي هي فيه). فمن ذلك، ينبغي أن تكون المرجع في التوقيت العالمي، وأن تكون المنطلق في دراسة طبقات الأرض، وما يتعلق بها من جاذبية وحركة هواء، ومن دراسة للفلك والسماء، وغير ذلك مما يكاد لا ينتهي. إن مكة التي يجعلها المسلمون قبلة في كل صلواتهم، من كل مكان في الأرض، تجعل العقول في كل وقت متوجهة إلى الله، في صورة حسية ومعنوية، لو تبيّنها الناس لوجدوها أعظم آية على إلهية دين الإسلام. ومن يتأمل أحداث التاريخ الكبرى عبر العصور، فإنه يجدها تدور حول مكة، اقترابا وابتعادا؛ لو تمكن الناس من مشاهدة حركتها بسرعة تلائم إدراكهم، لعلموا أنها قلب الأرض الذي تجبى إليه كل أحوالها؛ يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]. وسبْق معرفة أهل الجاهلية بمكانة مكة، كان يجعلهم -من دون أن يعلموا- متوجهين إلى الحق، منتظرين مبعث خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. ولا يقدح في توجههم، أن يكون شطرهم قد كفر بما جاءهم من الحق فيما بعد؛ لأن المرء قد يطلب شيئا، ويضل عنه لسبب من الأسباب، كما هو معلوم. ومن كان خبيرا بشؤون الدنيا، فإنه يعلم هذا علم يقين. ولو غصنا في المعنى أكثر قليلا، لوجدنا شطرا ممن آمن بالدعوة أنفسهم، لا يعلمون حقيقة ما آمنوا به، ولا غاية ما وصلوا إليه. فكأن معرفة الحقيقة عزيزة إلى الحد الذي يجهلها معه المؤمنون والكافرون جميعا. وقد اصطفى الله لها من المؤمنين رجالا، جعل شرط وصالهم ذهاب عقولهم. ونعني بذهاب العقل هنا، فقْد حدوده وقيوده ليخرج إلى الإطلاق. ومن يخرج إلى الإطلاق، فإنه سيجد الأرض كلها مسجدا (حراما)، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ.»[2]. كل هذا، لأن الذات محيطة بالصفات والأفعال، لا يخرج عنها شيء من المعقولات، حسا ومعنى.