div id="js_4" class="_5pbx userContent" data-ft="{"tn":"K"}" بقلم الأستاذ : محمد شاهدي العلامة الحافظ المحدث المجاهد الشريف ، أبو الفضل سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله - استشهد تحت التعذيب بسياط السلطان عبد الحفيظ : من عادة تاريخ الشعوب ، أنه يعيد نفسه من حين لآخر ، إن لم يكن بالتفاصيل والجزئيات الدقيقة في الأسماء والمسميات ، فأقله في الوصف المبدئي العام الشامل . وأعني بذلك مبدأ التدافع بين قوى الخير والصلاح والإصلاح والتنوير ، وقوى الشر والفساد والإفساد والظلامية . وخلال هذه المواجهة لا غرابة أن نجد حزب الظالمين وجماعتهم ، يوظفون كل ما يستطيعونه من وسائل وأساليب التضليل والتمويه والتزوير ، لتشويه خصومهم ، والتشكيك في مصداقية قضيتهم ، والظهور بمظهر الصالحين المصلحين ، والحال أنهم هم الفاسدون المفسدون . طبعا ، يوجد دائما من الناس منافقون متمرسون على اللف والدوران ، والمناورة والتهريج ، والتخريف والتدليس . هؤلاء ، بإشارة من الظالمين الذين يشغلون الأبواق التي جهزوهم بها مسبقا ، تجدهم يتقلبون ويتمخضون لِيَلِدوا كلاما رجعيا باهتا سقيما ركيكا مقيتا من قواميس القرون الوسطى ، بل من تراث سلالات الفراعنة ، يوهمون من خلاله أن الحاكمين المتسلطين الظالمين ، هم من فصيلة الملائكة المقربين المعصومين ، وأن الكادحين المظلومين هم مردة الشياطين . وكأن هؤلاء السذج قد وجدوا أو قرؤوا ، دون غيرهم من سائر البشر، في تاريخ أمة من الأمم ، أن هناك مظلوما من المظلومين ، قام ضد ظالم من الظالمين ، فما وجد من ذلك الظالم له ، إلا الاعتراف والاعتذار والإنصاف ... كلا أيها العقلاء . الحقيقة والواقع المر ، هو أنه كلما ظهر مصلح من المصلحين ، أومظلوم من المظلومين ، إلا وانتصب ظالمه المفسد ، يناور ويغالط ويقدم نفسه بخلاف ما هو متلبس به من الجور والعدوان . في سياق هذا التقارب في الأحداث والمشاهد ، من حيث المبادئ لا من حيث الأشخاص بالضرورة ، وإسهاما مني في توعية المواطن المغربي بالحِكم السياسية التي يزخر بها تاريخ بلاده ، أكتب هذا الموضوع عن العلامة الحافظ المحدث المجاهد الشهيد ، أبي الفضل سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله ، عساها أن تدفعنا للبحث في خبايا كنوز سيرته الجهادية العظيمة ، لنستخلص منها الدروس والعِبر . الشهيد سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني ( 1290/1882 – 1327/1909 ) هو أب الحركة الدستورية المغربية ، ومطلق شعلتها الأولى . كان رحمه الله من أوائل من تحدثوا في المغرب بضرورة تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم . وقد تجسد ذلك جليا صريحا في وثيقة بيعة فاس للسلطان المخلوع عبد الحفيظ ، بحيث ضمنها شروطا مفصلة لا بد من التعهد بها قبل انعقاد البيعة . وقد كانت تلك الشروط تشمل جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والاجتماعية ، بما في ذلك ما هو متعلق بالسياسة الخارجية . ومما افتتح به الشريف سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني ذيباجة وثيقة البيعة المذكورة : " الحمد لله الذي جعل كلمة الحق هي العليا ، وأرشد المؤمنين من عباده لاتباع مقتضياتها أمرا ونهيا ، وفضل الأمة المحمدية على سائر الملل والأجناس ، كما فضل آل بيته على الناس ، وشرف هذا الوجود بمن يرقيه الله من خيارهم منصب الخلافة ، فيتبع في الشريعة والعدل والسياسة ، سنة جده ، ويقتفي في ذلك الكرامَ أسلافَه ، لقوله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم : " ولاية أهل بيتي أمانٌ لأمتي "..." كما دعا المغاربة إلى أن يقتبسوا من حضارة الغرب ما هم محتاجون إليه من مزاياها ، مركزا في ذلك على الأفكار والقيم الحقوقية . وفي ذلك قال رحمه الله : " وقد علمتم ما وصل إليه الأجانب اليوم من النفوذ في العالم ، فإنما وصلوا لذلك بأمور ، ومنها : الحرية التي عبر عنها الشرع الكريم بالقسط والعدل ، والنصح وعدم المحاباة ، والقيام في كل موطن وما يقتضيه ، ومعرفة كل منصب وما يطلبه ، وعدم إهمال بعضهم بعضا ، ومعرفتهم بحق من ظهر فيه أدنى نبوغ وتيقظ ، وعدم إهمالِه حقَّه ، وعدم رفضه ، بخلاف غيرهم . " وفي هذا المعنى قال كذلك ، " إن من أسباب انحطاط الأمة الإسلامية في كل صقع إهمال من نبغ فيهم . " وفي وقت كان البلاط الحاكم منشغلا فيه بكل أصناف الملاهي ، حتى أنه كان يستقدم أرباب صناعة اللهو من بلدان أجنبية ، ربما بدعوى " تشجيع السياحة ونشر قيم السلام والتسامح " ، كما تروجه مهرجانات الفجور في وقتنا الحالي ، غافلة عن سبتة ومليلية وغيرهما من الثغور المحتلة ، نجد الشريف الكتاني رحمه الله ، حريصا مُجداً في التحريض على الجهاد ومقاومة الاستعمار الذي كان يتربص بالمغرب . قال الشريف الكتاني الشهيد ، في رسالة له وجهها لأهل الشاوية يحثهم فيها على الجهاد ويثني عليهم لأجله : " ولو لم يكن في فعلكم إلا أنكم أحييتم فريضة الرباط في سبيل الله ، لكان لكم الثناء الحسن ، والذكر الجميل ، والمحمدة والفخر ، ولسانُ صدقٍ في الآخرين ، فكيف وأحييتم فريضة الجهاد الذي لا يقوم الدين إلا بها ، وما صلح أمر أول الأمة إلا به ، فلا يصلح آخرها إلا به . " وورد في رسالة تحريضية له أخرى إلى قبيلة زعير : " ومما نوصي به وَلَدَ قلبِنا ، المُحبَّ الفاني ، البركة الشجاع النوراني ، ولي الله تعالى سيدي محمد النور لمباركي ، الملقب بسيدي حماني ، أن يطوف بهذه الرسالة على جميع من له الكلمة المسموعة بقبيلة ازعير ، حتى لا يجلس أحد ولا يتأخر عن الجهاد في العدو الكافر إذا عزم على الخروج من طرفكم ، أعانكم الله وقوّاكم ... " هذا العالم العَلَم الجليل ، لم يشفع له نسبه الشريف ، ولا طريقته المحمدية الأحمدية التي كان مؤسسا لها ، ولا علمه ولا جهاده ..كل ذلك لم يشفع له لدى السلطان المخلوع عبد الحفيظ ، حيث أكرمه الله تعالى بالشهادة تحت سياط التعذيب الذي لحقه من طرف زبانية السلطان المذكور . وقد كان قبل أن يمن الله تعالى عليه بهذه الخاتمة الربانية ، قد عانى من المحاصرة والمضايقة من طرف رجال المخزن ، بمن فيهم علماء البلاط وعملاؤه ومرتزقته ، حيث تم التنفير منه ، فلم يبق حوله وفيا له ، إلا ثلة مخلصة من أهل العلم والصلاح ، منهم العلامة الشريف سيدي محمد ماء العينين ، الذي نُقل أنه كان يطلق على الشريف الكتاني الشهيد لقب " القمر " . ويُروى عن الشريف الشهيد أنه كان في كل أحواله حامدا لله ، شاكرا له ، راضيا بما ابتلاه الله به ، وكان يقول في ذلك : " اللهم إن كان في هذا رضاك فزدني منه . " على أن عبد الحفيظ قد فعل ما فعله بالشريف الشهيد ، بذريعة أن هذا الأخير كان يسعى إلى الاستيلاء على الحكم . وهي تهمة سخيفة لا يصدقها عاقل ، ولا يلتفت إليها أي مغربي أصيل يعلمُ ، أن الأسرة الكتانية الشريفة المجاهدة ، وعبر التاريخ ، لها من جاهِ العلم والمهابة والمجد وطيب الذكر ، وعُلُو المكانة ، ما يجعلها في غنى عن جاه موهوم ، يأتي به مُلكٌ عند الصالحين مذموم ، ويدرك أن الملوك الظالمين ، في كل زمان ومكان ، يعلمون علم اليقين ، أن الأولياء الصالحين الربانيين ، لا حاجة ولا مطمع لهم في ملكهم ، إنما هم رغم ذلك يُنكلون بهم ، لأنهم لا يطيقون أن تكون كل قلوب العباد عروشا لهم . كما أنه قد ورد كذلك أن محنة الشريف الشهيد كانت في جانب منها بسبب بعض المراجعات والمواقف الدينية والفكرية التي أبداها الشريف الشهيد أواخر حياته . ومهما يكن فإن المغاربة قد لقَّنهم تاريخهم النضالي في مواجهة استبداد المخزن ، أنه كلما ظهرت حركة شعبية احتجاجية ، إلا وكانت التهمة المعبئة المعلبة الجاهزة ، هي ، إما الطمع في الحكم ، أو الخروج عن الجماعة ، أو هما معاً . ومن عجيب الصدف هاهنا ، ونحن في أجواء حراك أحرار الريف ، وكل المغاربة أحرار ، أن الزعيم المجاهد سيدي محمد بن عبد الكريم الخطابي ، سجل للتاريخ موقفه الصادق الصريح من تلك المظلمة الحفيظية النكراء ، في حق الشريف الكتاني الشهيد . ففي كتاب " ترجمة الشيخ محمد الكتاني الشهيد " تأليف إبنه سيدي محمد الباقر الكتاني ، وتحقيق الدكتورة السيدة نور الهدى الكتاني ، نقرأ ذيباجة وافية خَطّها الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بتاريخ 1962/6/30 قال فيها : " لقد اقترن استشهاد هذا العالم الجليل باستشهاد أمة بكاملها ، وهي أمة المغرب ....إن الشيخ الشهيد على حق وأي حق ، وإن خصومه كانوا على الباطل ، وكانوا على خطإ في حقه وحق البلاد " وقد فصّل الزعيم الريفي الخطابي حُجج انتصاره للشهيد الكتاني ، ومبررات تنديده بالفعلة الشنيعة التي اقترفها السلطان عبد الحفيظ ، ومما قاله في ذلك : " وكان ما كتبناه أمرا لا يمكن أن يختلف فيه إثنان لأن وقائع التاريخ تشهد بذلك ، والمنطق السليم يؤيده . وقد وقع ما وقع ، والواقع لا يرتفع ، وكانت الكارثة بسبب التهاون الواضح الذي حدث من السلطان عبد الحفيظ وأتباعه من العلماء الذين انحازوا إليه ، وكان الشيخ الشهيد ضحية في سبيل أداء الواجب . " . ولعله من حق المغاربة على السادة العلماء المؤرخين والمحققين في أسرة الشريف الشهيد حفظهم الله ، أن يكشفوا للأمة ما بحوزتهم ، وما في بطون خزاناتهم ، من المعلومات والمعطيات عن مختلف جوانب هذا الموضوع . كما انه يُرجى ، من باب رد التحية بمثلها ، والسادة الشرفاء الكتانيون أحق بهذا الأدب الشرعي الجميل وأهله ، أن يَصدر عن وجهاء العائلة الكتانية الكريمة ، بيان تضامني مع حراك الحسيمة وأهل الريف ، حيث معقل الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي ، وحيث أهله وذووه . بل وحبذا لو تكون جميع عائلات الأشراف المغاربة ، طرفا في هذه المبادرة التضامنية نصرةً للحق وإزهاقا للباطل . وكذلك برورا بوالدة الأشراف الأدارسة المغاربة ، السيدة كنزة رحمها الله . وبالطبع ، أنا أقصد الأحرار من جميع هؤلاء ، ولا أعني عُبَّاد المخزن الجائر البائد ، بإذن الله تعالى ، ولو بعد حين .