تسارعت الأحدات وبرزت تطورات جديدة ومتتالية بخصوص قضية وحدتنا الترابية، كانت لها انعكاسات و مترتبات دفعت بالخروج للعلن، بالعديد من ردود الافعال المتعصبة والانهزامية سواء من طرف جبهة البوليساريو ومن طرف الجارة الجزائرية ومن أطراف أخرى تكن العداء للمصالح العليا للملكة المغربية. أحداث وتطورات تمثلت في البداية بعرقلة ميليشيات البوليساريو، في حركة غير محسوبة سياسيا وعسكريا، حرية الأفراد والبضائع في التنقل الآمن عبر معبر الكركرات في اتجاه دول جنوب الصحراء والساحل، هذا السلوك غير المحسوب استمر طيلة ثلاث اسابيع، في استفزاز مباشر للمغرب وللمنتظم الدولي، دفع القوات المسلحة الملكية إلى التحرك بأوامر ملكية لوضع حد لصبيانية الجبهة بسلمية عالية و دون إراقة أية قطرة دم و دون أن تطلق فيه أية رصاصة، جعل العديد من الدول تسارع إلى دعم التحرك المغربي ورزانته وحرفيته، بالمقابل لم تجد البوليساريو من موقف سوى وضع نفسها في حل من الالتزام باتفاقية وقف اطلاق النار الموقعة سنة 1991 ووضعت نفسها في حالة حرب. التطور الثاني والذي زعزع الجبهة ومعها الجزائر تجسد في توقيع الرئيس الامريكي دونالد ترامب لمرسوم قانوني ثابت تقر من خلاله الولاياتالمتحدةالامريكية اعترافها الكامل بمغربية الصحراء وبسيادته الكاملة على أراضيه، كما اقر المرسوم وفي عدة مناسبات على أن المقترح المغربي المتمثل في الحكم الذاتي يجسد فعليا وواقعيا حلا نهائيا لنزاع الصحراء الذي عمر طويلا، وأرضية مسؤولة وصلبة للتفاوض الجدي لطي هذا النزاع. التطور الثالت الذي واكب التطور الثاني، تمثل في القرار الامريكي بفتح قنصلية للولايات المتحدةالامريكية بالصحراء المغربية و بالخصوص بمدينة الداخلة، مشكلا هذا القرار التحاقا جديدا بقافلة فتح القنصليات بالاقاليم الجنوبية بعدما وصل عدد القنصليات اليوم 18 عشر قنصلية بهذه الاقاليم ولازالت اللائحة مفتوحة للالتحاقات جديدة بهذا الركب. التطور الرابع هو تطور نوعي بعودة المغرب الى حضنه الافريقي، والتي تعد قطيعة مع دبلوماسية الكرسي الفارغ والتي مورست في عهد الراحل الحسن الثاني، واستفادت منها الجبهة والجزائر في العديد من المناسبات. هذه القطيعة أضفت حيوية على الدبلوماسية الهجومية المغربية حيث مكنتها من لعب دورها الطبيعي على الساحة الافريقية باعتبار المغرب البوابة الافريقية نحو اوروبا والعكس صحيح، هذا الانفتاح جعلنا اقرب لتوضيح وجهة نظرنا حول النزاع للقادة الافريقيين و لشعوبها كذلك جعلنا قوة اقتراحية مبادرة في العديد من القضايا التي تشكل تحديات تواجهها القارة من قبيل الهجرة والارهاب والتغيرات المناخية وتجويد العلاقات الثنائية على قاعدة رابح رابح. التطور الخامس يسبق هذه التطورات السابقة، ويعود لبداية تولي عاهل البلاد محمد السادس للعرش، وتبنيه لرؤية و تصور لحل النزاع في توافق مع ما تطالب به الاممالمتحدة التي تحث على حل سياسي توافقي عادل و دائم، تجسد ذلك عمليا خلال الخطاب الملكي التاريخي يوم 25 مارس 2006 بمدينة العيون والذي أعلن فيه جلالة الملك عن تأسيس المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية كآلية استشارية مناط بها بلورة وإعداد تصور للحكم الذاتي، وهذا ما انكب عليه المجلس حيث رفعه الى جلالته في أواخر من نفس السنة، ليتم الاعلان عليه دوليا سنة 2007، تاريخ وضع المقترح المغربي في أروقة المنظمة، ضاربا المغرب بذلك من خلال المجلس الملكي ومقترح الحكم الذاتي سياسيا مسمارا في نعش جبهة البوليساريو. إن هذه التطورات الايجابية، تقابلها هزائم متتالية لجبهة البوليزاريو داخليا و خارجيا، وهزائم للسياسة الخارجية الجزائرية القابعة في زمن التقاطبات الناتجة على الحرب الباردة. إن توالي الهزائم لدى البوليساريو، ليس وليدة أزمة يمر بها اليوم، بل هي متأصلة في وراثة هذا التنظيم الانفصالي لأزمة بنيوية طبعته منذ زمن التأسيس إلى اليوم ، أزمة شاملة تحتضن أزمات على مستويات متعددة فكرية تنظيمية انتاجية ، يرمي هذا المقال الى تناولها بشكل موضوعي وهي كالتالي: ظرفية تأسيس الجبهة ، وهي ظرفية بداية السبعينات، كانت ظرفية أزمة سياسية ومن علامتها البارزة خروج المغرب من محاولتين انقلابيتين فاشلتين استهدفتا الراحل الملك حسن الثاني، كانت لهما انعكاسات على التدبير السياسي الوطني الداخلي ، وعلى وضعية حقوق الانسان والممارسة السياسية عامة. كما أنها ظرفية عرفت تأزم العلاقة ما بين القصر والأحزاب السياسية التي قاطعت التصويت على دستوري 1970 و 1972. كما أنها المرحلة اتسمت بتصاعد وهيمنة الخطاب اليساري الثوري على التنظيم الطلابي وعلى التنظيمات الشبابية المتأثرة بثورة الشبابية لسنة 1968 بفرنسا، والتي كان من بين المتأثرين بها نخبة طلابية صحراوية كانت تدرس في جامعة الرباط والدار البيضاء والتي شكلت في ما بعد النواة الاولى لجبهة البوليساريو. أزمة الدولة المغربية كدولة مركزية يعقوبية مطلقة، التي لم تكن قادرة على التجاوب والاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية المشروعة للجهات والمناطق، مما أفرز لنا مغربين واحد نافع و آخر غير نافع، وبالتالي هذا الوضع جعل من غير المستغرب تن يجد الخطاب الانفصالي المغلف بالاسطورة و اهمية الخصوصية المجتمعية آدانا صاغية عند عينة من الشباب المؤثر. وهو حال تجربة شباب طانطان الذين سيأسسون الجبهة كرد فعل على سياسة القمع التي جوبهت بها مطالبهم التي لم تكن مطالبا انفصالية بل وحدوية لم يتم استوعابها لما ذكر سابقا . - Advertisement - أزمة الأحزاب السياسية المغربية في هذه المرحلة، التي لم تستطع بدورها استيعاب فكر ومطالب هذه النخبة الصحراوية، الأمر الذي عجل بتوجها للطرح الانفصالي الحالم، الذي كانت العديد من الأطراف الإقليمية متربصة لاستقطابه وتدعيمه ماديا ومعنويا. هذه الأطراف كانت تكن العداء للنظام السياسي المغربي خلفيته اجواء الحرب الباردة واحتدام التقاطبات الدولية بين الشرق والغرب. أزمة تبعية الجبهة لأجندات دولية و اقليمية بدء بليبيا والجزائر وكوبا ودول من امريكا اللاتينية والتنظيمات المدنية و السياسية الاسبانية واليسار الاوروبي ، عجل في خطوة متسرعة للجبهة عن إعلان تأسيس " الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" سنة 1976 ، أي بعد ثلاث سنوات من تأسيس جبهة البوليساريو ، وبدون أن تحظى هذه الخطوة بتقعيد فكري وتحديد نظري وتأسيس ايديولوجي سياسي واجتماعي، وهو ما برز في التناقضات التي تحملها هذه التسمية من شاكلة التناقض السياسي بين مصطلحي العربي والصحراوي أي بين الوحدة القومية التي لن تتحقق بالانفصالات وتفتيت الكيانات وبين مصطلح الصحراوي كعنوان للخصوصية و الانفصال والتجزئة. كما أن تظمين التسمية مصطلح الديمقراطية واكبه عمليا وعلى الارض أن إعلان الدولة لم يراعي شروط الديمقراطية في اشراك الصحراويين في هذا القرار المصيري حيث كان قرارا أفقيا نخبويا لم يشارك فيه المجتمع الصحراوي لا عن طريق الاستفتاء التي تتبجح به البوليساريو اليوم ولا عن طريق إشراك التعبيرات السياسية التي كان لها تواجد ديناميكي كحزب البونس ومؤسسة الجماعة وباقي التعبيرات الاخرى. كما أن الخلفية في تسبيق مطلح العربي على الصحراوي أنتجه تأثر العديد من هذه النخبة الصحراوية بتجربة معمر القدافي وهو الذي سمى بلاده بالجمهورية العربية قبل أن يحولها إلى الجماهيرية . تخوف النظام الجزائري من ميل الجبهة نحو نظام معمر القدافي ، دفع بها الى التدخل الكامل في مساراتها، بدءا باقصاء مؤسس الجبهة المرحوم مصطفى السيد الولي وتوجهه، وتعزيز مكانة و دور القادة الفرانكفونيين داخل الجبهة الذين لا ينتمون للصحراء منطقة النزاع في التحكم في المؤسسات والتحكم في العباد والرقاب مع الغدق بالدعم المادي واللوجيستيكي. في تطور مسار الجبهة طيلة هذه المرحلة، برزت الى العلن أزمة الثقة في العمل السياسي من داخل مؤسسات الجبهة، نظرا لطغيان علاقات الزبونية والمحسوبية والولاءات القبلية، الأمر الذي دفع بالعديد من الأطر الوازنة الى مغادرة سفينة الجبهة والالتحاق بالوطن الام أو اللجوء إلى دول أخرى معتزلة العمل السياسي ومنفصلة بالكامل عن طروحاتها ورافضة لقيادة ثابتة قارة ابدية، وهم من صار يطلق عليهم بصحراويي الشتات. إزمة الايديولوجيا الوحيدة والفكر الوحيد وعدم القبول بالآراء المختلفة ، وأزمة التعددية، جعلها رهينة الصنمية والجمود في الشعارات والمواقف منذ التأسيس الى اليوم من قبيل الانفصال وتقرير المصير و الحرب الشعبية ، وهي تعبير عن تغييبهم للتاريخ والتحولات الدولية والمراجعات التي عرفتها حتى التنظيمات المسلحة من قبيلهم سواء في امريكا اللاتينية وسواء في افريقيا وأبرزها نجاح المفاوضات ما بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة في الشمال والجنوب خلال الشهرين الماضيين. العماء الايديولوجي والوهم التاريخي أسرهم في شعار أن الجبهة هي الممثل الوحيد" للشعب" الصحراوي، في حين أن المجتمع الصحراوي في الاقاليم الجنوبية كانت له دائما تمثيلية سواء قبلية أو منتخبة مع العلم أن التمثيلية الديمقراطية في الأقاليم الجنوبية يقودها صحراويون بقاعدة جماهيرية كبيرة عبر صناديق الاقتراع وينتمون تاريخيا لمنطقة النزاع ومن اصول قبلية صحراوية ومن نخبة شابة ترعرت في الواقعية السياسية والهوية المغربية المتعددة الروافد. تحول العمل السياسي و "المدني" داخل الجبهة الى حرفة ومهنة ومصدر رزق ، يستخرج من تدفق أموال الجزائر والأطراف المساندة لها ، ومن المكاسب المالية المتدفقة من التلاعب والمتاجرة في المساعدات الانسانية ومن التسول لدى المنظمات الدولية المانحة بوضعية الصحراويين بالمخيمات، ومآسيهم ، وبالخصوص وضعية الاطفال التي تمارس في حقهم انتهاكا جسيما لحقوقهم عبر عملية فصل الأبناء عن أسرهم وآباءهم و وضعهم في وضعية التبني لدى أسر اجنبية و خصوصا في التراب الاسباني. ازمة الانتاج الفكري والادبي والسياسي والفني على طول تواجدهم بتندوف، حيث لم تسطع أسماء معروفة في هذه المجالات، بل هي منعدمة بالمعيار المتعارف عليه كونيا، في مقابل ما أنتجته تجارب حركات مماثلة في أمريكا اللاتينية وإسبانيا. حتى أن الكتابات المتناولة لتاريخ نزاع الصحراء أو للموروث الصحراوي هي انتاجات أجنبية مدعمة للطرح الانفصالي وتغيب فيها الموضوعية و التجرد. خلاصة القول، هذه بعض مظاهر أزمة جبهة البوليساريو ، التي تحولت فيها هي بنفسها الى كنه الازمة وسبب وجودها، وهذا موقف ليس للتجني، بل هو نتاج تمحص التحولات الدولية الحاصلة في العالم والتي عرفها العالم بعد انهيار جدار برلين وحجم المراجعات التي عرفتها غالبية التنظيمات المسلحة التي اختارت خيار المشاركة السياسية والديمقراطية وفضلت مصلحة الشعوب على مصلحة الجماعة. اننا نجد انفسنا امام " جمهورية البلح " التي أبدعها المخرج السينمائي المصري صلاح ابو سيف سنة 1986 في فيلمه الرائع " البداية" و هو من بطولة العظيمين الراحلين أحمد زكي وجميل راتب و من بطولة ايضا يسرا وصفية العمري. جمهورية البلح التي أسسها الفلاح والعامل والمثقف ورجل الاعمال الذين وجدوا انفسهم في واحة في قلب الصحراء بعد أن نجوا من سقوط الطائرة التي كانت تقلهم، فبرز في مشوار حياتهم بالواحة النزعة التسلطية التي كادت تعصف بهم لولا انقادهم من خلال الطائرة البحث عن الناجين التي تعرفت على موقعهم في الصحراء. إن المخرج الوحيد للنزاع في الصحراء بمنطق لا غالب و لا مغلوب ، هي طائرة الحكم الذاتي كحل نهائي لهذا النزاع الذي عمر طويلا ، حل ثالث ديمقراطي انساني تصالحي يؤسس لمغرب الجميع و لاتحاد مغاربي قائم على مصلحة شعوب المنطقة في الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية