تعيش المملكة الإسبانية لحظات دقيقة من تاريخها المعاصر وبالخصوص فيما يتعلق بعلاقتها بكاطالونيا التي تطالب باستقلالها عبر استفتاء دعت له الحكومة الجهوية وصادق عليه البرلمان الجهوي وعلى القانون التنظيمي للاستفتاء، والقانون التأسيسي للجمهورية الكطلانية في حالة فوز اختيار الاستقلال. بغض النظر عن أسباب الصراع وتجذر الحس الوطني الكطلاني لدى ساكنة هذه الجهة، وعن المراحل التي قطعها هذا الصراع منذ ما قبل الجمهورية الثانية والمحاولة الفاشلة بإعلان الاستقلال سنة 1934، ودورها في اندلاع الحرب الأهلية سنة 1936، الأكيد أن هذه الجهة كان لها دور كبير ومتميز في تحقيق الانتقال الديموقراطي سنة 1978 والتأسيس لنظام جهوي يضمن الحكم الذاتي الموسع والاستقرار. ورغم استمرار الحس الوطني الكطلاني وتطوره خلال الديموقراطية، لم يسبق لليمين الكطلاني أن تجاوز الخط الأحمر المتعلق بالاستقلال وإعلان الجمهورية، ولم يسبق للجمهوريين أن تحالفوا مع اليمين ولا حتى مع الاشتراكيين حول مطلب الاستقلال، واستمر حزب اليسار الجمهوري أقلية في مقابل المدافعين عن المزيد من الصلاحيات للجهة في ظل وحدة الدولة، وليس صدفة أن يكون لهذه الجهة دور كبير في التوافق على دستور 1978 بقدر ما كان للحزب اليميني الذي يقود حلف المطالبة بالاستقلال دورا في استقرار الحكومة الوطنية عبر دعمه لحكومة فيليبي غونصاليص الاشتراكية سنة 1993 وبعدها حكومة أثنار اليمينية سنة 1996. الاستقرار الذي عرفته إسبانيا قام على تحقيق مطالب ما يسمى بالجهات التاريخية وتمتيعها بحكم ذاتي موسع، وتعميمه لاحقا على باقي الجهات (18 جهة). وينص الدستور الإسباني الحالي على آليات حماية هذه الصلاحيات وعلى وحدة الدولة، وهو ما يسميه حلف الدفاع عن المؤسسات الدستورية بالشرعية القانونية(الحزب الشعبي، الحزب الاشتراكي العمالي وحزب سيودادانوس)، في مقابل حلف الدفاع عن الشرعية السياسية ( حزب بوديموس ومعظم الأحزاب الجهوية في كطالونيا والباسك وغاليسيا) الشرعية القانونية الأكيد وبعيدا عن “الموربو” الإعلامي الذي نتابعه في بعض وسائل الإعلام وبعض مقالات الرأي، الحكومة المركزية تدخلت بشكل قانوني، بل هناك من يعيب عليها تدخلها المتأخر فيما يتعلق بتفعيل صلاحياتها وبالخصوص مراقبة صرف ميزانية الجهة بعد أن ثبت استعمال الحكومة الجهوية لجزء منها في الحملة والدعاية وتنظيم الاستفتاء الذي أعلنت المحكمة الدستورية عن تعارضه مع الدستور وعن إلغائه. كما ألغت المحكمة الدستورية قانون الاستفتاء وقانون الانتقال الذي هو بمثابة دستور انتقالي للجهة في حالة فوز المطالبين بالاستقلال في الاستفتاء، وتحركت النيابة العامة بما لها من صلاحيات لمتابعة كل من شارك في خرق الدستور أو رفض الامتثال للأحكام القضائية أو العمل على تنظيم الاستفتاء الغير القانوني بعد حكم المحكمة الدستورية. ورغم الضجيج الاعلامي ونزول آلاف المواطنين إلى شوارع بعض المدن الكطلانية، استمرت قوات الأمن تعمل بشكل طبيعي وتدخلت لحجز مواد الدعاية للإستفتاء وصناديق الاقتراع بأمر قضائي صادر عن المحكمة رقم 13 ببرشلونة، كما أن اعتقالات مسؤولين من الصف الثاني في الحكومة الجهوية تم بأمر قضائي وليس بأمر من السلطة التنفيدية. ليس هناك أية معلومة موثوقة ولا حتى من طرف مؤيدي الاستفتاء عن أي نزول مكثف لقوات الحرس المدني خارج ما تتطلبه استثناءات الاحتراس والتي تشتغل بصفتها شرطة قضائية تحت إمرة القضاء. لم تعلن الحكومة عن حالة الاستثناء كما نقلته بعض المواقع غير الموثوقة، أما الأخبار عن نشر الجيش في الجهة وإعلان حالة الطوارئ وتفعيل الفصل 155 من الدستور فلا أساس لها من الصحة ولايمكن للحكومة القيام به دون العودة إلى البرلمان وموافقته بأغلبية مطلقة لاتملكها حكومة راخوي وحليفها سيودادانوس. شعار الحق في التصويت والاقتراع مرادف للديموقراطية الذي ترفعه الحكومة الجهوية والمدافعين عن الحق في التصويت يعتبره أغلب المتتبعين والمتخصصين رديف لكلام حق يراد به باطل، اعتبارا لأن التصويت وسيلة للتعبير بشروط تخضع للقانون ولآليات الرقابة وضمان المشاركة، ويعلق أستاذ القانون الدستوري والمحامي إغناسيو أروجو Ignacio Arroyo في مقال صدر بجريدة الباييس اليوم 21 شتنبر2017 ” التصويت ليس دائما مرادف للديموقراطية، مثال ذلك التصويت على دساتير الدول الديكتاتورية، أو ميكانيزم التصويت الذي تستعمله المافيا للقتل، أو أن نتخيل التصويت بالتصفية العرقية ضد مسلمي الهورينغا، ويتساءل هل يعني ذلك أن التصفية العرقية ديموقراطية” وهو ما يعني أن الاستفتاء الوحيد الممكن هو المتوافق عليه بين الطرفين كما كان الأمر في النموذج الإسكوسي في بريطانيا أو الكندي في كندا. الشرعية السياسية الشرعية القانونية التي تناولناها سابقا تفقد توهجها إذا كان الوضع بمستوى الاحتقان الذي وصل إليه النزاع في كاطالونيا، ومثل هذا الاحتقان والانقسام في المجتمع الكطلاني وفي علاقته بإسبانيا يتطلب مقاربة سياسية وقدرة الأطراف على البحث عن توافق سياسي قادر على احتواء الصدام والتوافق على صيغة تضمن رضى كل الأطراف. من هذه الحلول الممكنة مقترح الحل الفدرالي الذي يطرحه الحزب الاشتراكي العمالي بكطالونيا. الحزب الشعبي كان وراء اندلاع هذه الأزمة حين استأنف القانون الأساسي الذي توافقت عليه حكومة صباطيرو سنة 2010 أمام محكمة دستورية كانت تضم حينها أغلبية يمينية وإلغاء هذه الأخيرة لأهم فصول القانون الأساسي للجهة بعد أن صوت عليه الكطلانيين في استفتاء عام . الاندلاع العلني للأزمة سنة 2012 أثناء التظاهرة المليونية التي طالبت فيها قوى التحالف من أجل استقلال كطالونيا بالاستفتاء واجهته حكومة راخوي اليمينية من جديد بالتجاهل وعدم اعتماد المقاربة السياسية والحوار بدل التهديد وفتح ملفات فساد القيادات الانفصالية إلى أن انتهى الوضع إلى ما يسمى باصطدام القطارات والاتجاه نحو نفق مسدود يهدد بانفجار غير محسوب العواقب. كما أن المقاربة الأمنية التي انتهجتها حكومة راخوي ساهمت في اتساع رقعة المطالبين بالانفصال (يمين ويسار جمهوري ويسار متطرف ..) إلى جانب المدافعين عن شرعية الحق في الاختيار عبر آلية الاستفتاء وتقرير المصير الذي لايعني لذى هؤلاء الانفصال بالضرورة بقدر ما يعني الحق في التعبير عن الانتماء الحر ( حلفاء بوديموس في كاطالونيا Cataluña en Común). كل المؤشرات تؤكد الآن أن الاستفتاء أصبح في خبر كان، وأن الحكومة المركزية استطاعت عبر ميكانزمات دولة القانون إفشال مخطط تنظيم استفتاء قانوني قادر على استقطاب الدعم والاعتراف الخارجي بالدولة التي يطمح تحالف الانفصال تأسيسها، لكن تطور الأحداث واضطرار الدولة المركزية لاستعمال آليات الردع لحسم النزاع أجج من حس الهوية الوطنية المستقلة لذى الكطلانيين وزاد من تعقيدات المشهد السياسي الذي ينذر بالمزيد من الراديكالية في مواقف تحالف الانفصال. نفس المؤشرات تؤكد كذلك أن الوضع سيكون مختلفا بعد 1 أكتوبر المقبل، وأن الحلول الممكنة لا تحتمل معادلة منتصر ومهزوم، وأن الفاعلين الحاليين من الطرفين غير مؤهلين لحلول توافقية، وتتداول كواليس حزبية سيناريوهات عن انتخابات سابقة لأوانها في كاطالونيا وتشكيل حكومة جهوية بقيادة جديدة قادرة على الحوار والتوافق مقابل مبادرة بعد مرور تاريخ الاستفتاء الحزب الاشتراكي العمالي بالتحالف مع حزب بوديموس والأحزاب الجهوية من كاطالونيا والباسك بتقديم ملتمس رقابة ضد حكومة راخوي وتشكيل حكومة قادرة على الحوار والتوافق مع الطرف الآخر من النزاع، ويتمتع الحزب الاشتراكي العمالي الآن بثقة كل الأطراف لكونه كان سباقا في طرح مشروع تعديل الدستور الإسباني وإقامة دولة فدرالية والاعتراف بكطالونيا كهوية وطنية مستقلة ومندمجة في الدولة الإسبانية القائمة، أو ما يسمونه بدولة الأوطان، كما يتمتع نفس الحزب بثقة الدولة ومؤسساتها لموقفه الداعم للحكومة في رفضها القاطع لأي استفتاء أحادي وغير قانوني، ودعمه لقراراتها بمنع الاستفتاء بعد صدور حكم المحكمة الدستورية، وهي المواقف التي أعطت للحزب الاشتراكي بقيادة بيدرو شانشيص موقعا يسمح له بقيادة الحوار والتوافق على سيناريو الدولة الفدرالية وإنقاذ وحدة إسبانيا. في المراسلة المقبلة سنتطرق لتداعيات وتأثيرات الأزمة الكطلانية على الجار الجنوبي