صالح قمران ذات يوم قضى المغاربة ليلة بيضاء، ذات فجر لا ينسى، تحالفت العيون والأحداق على الصوم والإمساك عن النوم لمتابعة تفاصيل إنجاز رياضي مغربي غير مسبوق لم يخطر ببال أكثر المتفائلين والمتتبعين للشأن الرياضي، ليلتها سطع نجم سعيد عويطة ونوال المتوكل في الألعاب الاولمبية بلوس أنجلوس الأمريكية سنة 1984، على خطى عبد السلام الراضي الملقب بغزال جبال الريف والذي أحرز للمغرب أول ميدالية فضية في مارتون أولمبياد روما سنة 1960، سعيد عويطة قطار مكوكي ارتجت تحت أقدامه المضامير والعدادات واهتزت على إيقاعه الأرقام القياسية وأزاح عن عرش 1500متر البريطاني سيباستيانكو الذي كان يومها سيد المسافة وربانها، فمن الصعب بل المستحيل يومها أن تنازع بريطانيا في عرش ملكه وتاجه الرياضي وتقبر صورته الكبرى من ألبوم الرياضة العالمية .
نوال المتوكل أول امرأة مغربية تتوج أولمبيا، ذرفت دموع النصر وهي تنشد وينشد معها المغاربة النشيد الوطني المغربي ويرمقون العلم المغربي في مكان لم يخطر ببالهم أنه سيكون هناك عريسا و محورا وفي الصورة الكبرى المؤطرة التي تلتقطها عيون الوكالات الصحفية والإعلامية الدولية على امتداد خريطة الكون الرياضي.
سعيد عويطة ونوال المتوكل، البطلان اللذان أعلنا عن مخاض الولادة الكبرى لألعاب القوى المغربية، بعدهما أنجبت الأمهات المغربيات من أرحامهن، من هلال المغرب الخصيب، نطفا رياضية مباركة ومتميزة صالت وجالت في مضامير ألعاب القوى العالمية من أمثال خالد السكاح، ابراهيم بوطيب، صلاح حيسو، الأخوان بولامي، إلى أن انتهى عنقود النبوغ الرياضي المغربي على مستوى المضمار بظهور غزالة الأطلس وسيدة مسافة 400متر حواجز نزهة بدوان وهشام الكروج عملاق المسافات المتوسطة، الذي قهر نور الدين المورسلي أيقونة الرياضة الجزائرية وأحاله مكرها على التقاعد الرياضي، غلب المضامير واستأسد على العدادات ومازالت بعض أرقامه القياسية صامدة عصية على التحطيم أمام جحافل أقدام الكينيين والأثيوبيين إلى يومنا هذا تماما كما استعصت الدمع على شاعرنا أبي فراس الحمداني الذي قال ذات يوما : مالي أراك عصي الدمع شيمتك الصبر...أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟ .
هشام الكروج الزمردة النادرة من حلي ودرر ألعاب القوى المغربية، آخر عنقود من حصاد التميز، وآخر فاكهة من فواكه المضمار المثمرة، بعده تحققت نبوءة نبي الله الصديق يوسف الذي فسر رؤيا الفرعون الذي رأى ذات يوم النيل هبة مصر قد جف و السنابل اليابسة تلتهم السنابل الممتلئات والبقرات الضعاف تسطو على البقرات السمان، بعد هشام الكروج امتدت سنوات العجاف الرياضي المغربي، غابت الميداليات بذهبها وفضتها ونحاسها، بعد هشام الكروج تيتمت ألعاب القوى المغربية وتكبلت الأقدام وانحسرت الإنجازات وكم تمنى المغاربة ولو في حلمهم أن يعزف نشيدهم الوطني مرة أخرى في مضمار من مضامير ألعاب القوى العالمية، فالنشيد الوطني أضحى في زمن الاحتراف الرياضي عنوان رمزي لحضارة الأمم والشعوب وفاعل من مفاعيل الدبلوماسية الرياضية، فالرياضي المتوج عالميا أمسى سفيرا فوق العادة لبلده وماركة تجارية مسجلة تهفو كل العيون وكل الوكالات لالتقاطها وتسويق منتوجها الرياضي، فنادال وفديرير ودجوكوفيتش والسباح الأمريكي فيلبس والتونسي أسامة الملولي والجامايكي إيسن بولت وميسي ورونالدو وتوتي هم أمثلة لثروات آدمية لبلدانهم وشعوبهم .
في لندن، مدينة الضباب الساحرة من مدن المملكة المتحدة، المدينة التي أبهرت العالم بنظافتها ورونقها وجمالها وسحرها وكمال تنظيمها لفعاليات أولمبياد 2012، رجع الوفد المغربي المشارك بخفي حنين وبقفة رياضية بلا أذنين، إيذانا باستمرار خريف ألعاب القوى المغربية واستمرار سنوات عجاف أضحت ثقيلة مزعجة مؤرقة تقض مضجع كل محب لإنجاز رياضي يعيد للمغاربة بريق هامات وقامات رياضية دشنها سعيد عويطة وختمها إلى حين هشام الكروج .
في لندن خابت أماني وطموحات الأقدام والعضلات والقفازات المغربية، وفشلت فشلا ذريعا وبمعيتها كل الأطقم التقنية، فبعد هشام الكروج عز المعدن النفيس على كل الأقدام المغربية باستثناء بعض الفلتات من فلتات العمر الرياضي لم تعمر طويلا ونعني بها العداءة حسناء بنحسي بطلة 800 متر وبطل سباقات الماراتون جواد غريب ونحاسية إيكيدير اليتيمة في لندن .
وسط زحام ضباب لندن، تيقن المتتبع الرياضي أن ألعاب القوى كما يدل اسمها هي في الحقيقة إنجاز فردي لعضلات فردية حباها الله الخالق المعجز بقوة خارقة وأسندها باستعداد ذهني شخصي واستنهاض همة ذاتية توجه البوصلة للفوز، انظروا إلى الجامايكي إيسن بولت، حينما ينطلق تخاله قطارا سريعا من قطارات فرنسا أو طائرة ف16 الأمريكية، لا يهاب زمنا ولا عدادا ولا رادارا، إنه تعبير عن انتفاضة شخصية وقوى طبيعية خام لم يمسسها إنس ولا جان، قوى فردية لا تضيف لها التقنيات ولا المدربين ولا المدراء التقنيين ولا مراكز ولا أكاديميات التكوين الرياضي مهما بلغت من علم ومهنية وحنكة وخبرة واحتراف إلا هامشا ضيقا ضعيفا، فالزمن الرياضي الجميل وهب لنا نفاثة رياضية اسمها "كارل لويس" استأسد على مسافة الموت 100متر والقفز الطولي والقفز الثلاثي، وهو ذات الزمن الجميل الذي انتفض فيه سعيد عويطة، لم يكن في المغرب ذكر لهذا الاختصاص الرياضي ولم يكن فيه مراكز تكوين متخصصة، بل إعجاز الخلق يكمن أيضا في العداء الأسطورة جبريسيلاسي الأثيوبي الآتي من القرن الإفريقي وغيره من الكينيين والإيريثيريين حيث الدول الجائعة بطونا، المتألقة والمتميزة إبداعا والرائدة على مستوى الإنجاز الرياضي العالمي، إنها الأقدام وما منحت والجسد وما وهب، إنها هبة الله ومنته ونعمته وعطائه . لقد ألفنا في عرفنا ومعاشنا ومعتقدنا وإيماننا أنه حين ينحسر الغيث وتجف الأرض من ينابيعها يخرج الناس في صلاة استسقاء ترتفع على إثرها الحناجر وتتوجه العيون والقلوب إلى الأعالي بالدعاء والتضرع والابتهال إلى الله لإغاثة عباده وبهيمته، فإلى الله نبتهل أن يجود على المغرب ببطون وأرحام تنجب لنا من يحصد الذهب والفضة والنحاس وتعيد لنا ذكريات الزمن الجميل، ويبقى الأكيد والثابت في سنة الكون وإعجاز الخلق الإلهي أنه لن يخلو زمان من رجاله ومن مبدعيه وأبطاله وصناع أمجاده.