استهلال لقد اثارني العنوان الذي اختاره الاستاذ حسن أوريد صاحب كتاب مرآة الغرب المنكسرة و الناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا لمقال له في جريدة لافي ايكو، هذا المقال الذي كان مشحونا بالأفكار و الرؤى المختزلة لمشروعه الفكري و نظرته للذات المغربية سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا عبر تواريخ مهمة . واختياره للحماية كعنوان و طرحه اشكالية وماذا بعد ؟ ليجعل منها قضية محورية ومحاولة لفهم ما حدث سنة 1912 باعتباره مؤرخ ،و قراءته الحالمة كشاعر يشرح ظاهرة 1212 بجانب تساؤله الفلسفي المشاغب حول 2012 ،ومن اكثر الصور المربكة في التاريخ هي استدعاء ما حدث لتركيب نظرية ما .وباعتبار انه ينبغي ان يكون في كل سؤال شيئ غير معروف فلابد من تفكيكه و قراءة الابعاد المؤسسة له في ضوء الخلفية الفكرية و السياسية للمفكر ،وكذا المظاهر التاريخية و الثقافية و السياسية التي حاول الكاتب ابرازها داخل النص.
في البدء كانت الحماية
لقد افتتح الكاتب مقاله بالاماءة الى ما اسماه بإرث ليوطي كأول مقيم عام و المنظر الحقيقي للإستراتيجية الاستعمارية لفرنسا في المغرب و المدافع عنها ،هذا الارث الذي حسب حسن أوريد استطاع التغلب على المتغيرات الجيوسياسية و الثقافية عبر ربوع المنطقة بعد الاستقلال ؛ ولابد في البداية من البحث في مقومات هذا الارث و تجلياته السياسية و الاقتصادية في هياكل الدولة المغربية قبل وبعد الاستقلال.
فدعني هنا أسوق تعريفا لغويا للإرث و هو : بقاء شخص بعد موت آخر يأخذ الباقي ما يخلفه الميت ،و تبعا لهذا التعريف لابد من تعيين الاشخاص الذين يحق لهم وراثة المتوفى. وفي هذا السياق فالاستاذ حسن أوريد يميز بين المقاوم لهذا الإرث متمثلا في الحركة الوطنية وطبقة بورجوازية مستفيدة منه و بالتالي مدافعة عن نهجه .
فهناك قولة مكتوبة تحت تمثال ليوطي بالقنصلية الفرنسية في مدينة الدارالبيضاء تقول: (بقدر ما أحتك بالمغاربة اجد نفسي أعيش في هذا البلد ،بل أجدني مقتنعا أكثر بعظمة هذه الأمة ). إذن و منذ البداية حسم المارشال أمره بانه لابد من قراءة الأبعاد النفسية و الإجتماعية والدينية للمغاربة لكي يسهل عليه التحكم بهم عبر التدخل الهادئ و استمالة القياد الكبارو الاعيان . و باعتبار ليوطي كان ملكيا و مؤمنا بالاهمية الرمزية للملكية فلقد اسس لاستراتيجيته على هذا المدخل بتفهمه للعلاقة التاريخية بين المغاربة و ملوكهم ،زد على هذا مكانة الاسلام عندهم وبالتالي لضبط الامن لابد من فهم هذه العلاقات المتداخلة بين ما هو ديني و ما هو رمزي .ولمتابعة هذا الارث نقتبس أحد أقواله في 16يونيو1915بحيث يقول: (يتعلق الامر بجعل المغرب مسألة تجارية جيدة و التي يجب أن تكون الموضوع الأساس لكل مؤسسة كولونيالية ) .اذن فدعم التجارة و الاقتصاد قنطرة اساسية لتعميق الوجود الفرنسي بعد الحماية باعتبارها حالة طارئة .ومن المعروف ان المغرب عرف خلال الحماية الادارة المباشرة بالتوازي مع حالة الطوارئ ،باعتبار ان المقيم العام هو الذي يملك صلاحيات مميزة في اعلان حالة الطوارئ دون الرجوع الى البرلمان الفرنسي او اخبار السلطان وهذه الحالة كانت تطلق عليها السلطات بعمليات التهدئة .وانسحبت حالة الطوارئ هذه على مراقبة الخط التحريري للصحافة و الاجتماعات و كذا مراقبة سوق الكتب، زد على هذا نهج سياسة التقسيم ثقافيا و لغويا و قضائيا.
إذن وعلى اعتبار هذا الارث الذي أتى على ذكره الاستاذ حسن أوريد ضمنيا في مقاله يشمل الأمن بجميع تمثلاته ،الذي ينطلق من رؤية فرنسية تاريخية كقوة استعمارية سابقة تحافظ على إرثها القائم على فكرة التدجين مبنية على قاعدة ثقافية جاهزة للانطلاق من أجل المصلحة القومية ومتبنية سلسلة مبادئ و ممارسات و مؤسسات . فهو يشدد على أن الحركات التحررية العالمية قد نجحت حيث أخفقت الحركة الوطنية في الإستفادة من إرث المقاومة ،و للتذكير فإكثر مسؤولي الاحزاب المنبثقة عن القاعدة المقاوِمة قد أصبحوا مدراء لشركات و مؤسسات تعود لدولة أجنبية و في الغالب تكون استعمارية يديرونها لحسابهم بحيث أن جميع موارد هذه المؤسسات هي موارد اقتُطِعَتْ من موارد كانت مخصصة لشعوبها و بالتالي الاثراء على حسابها و سيطرتهم على منافذ القوة الاقتصادية ؛ و التساؤل هنا عن الحدود التي استطاعت الحركات التحررية التوقف عندها في الاخد بزمام أمورها في استقلالية تامة عن تدخلات قوى اجنبية.والمقارنة هنا لا جدوى منها فمنذ فرض الحماية كشكل من اشكال الوصاية الاستعمارية عملت فرنسا على نهج سياسة توطين الفرنسيين بدعمهم ماديا وعسكريا، بحيث أن أغلب القطاعات الاقتصادية مثل الوحدات الصناعية الصغرى والمتوسطة والكبرى، ومقاولات الأشغال العمومية، والشركات ذات الامتيازات والنقل والأبناك، والمعادن والتجارة الخارجية الخاصة بالتصدير والاستيراد أي ما يقرب من مليون هكتار منحت لأولئك المعمرين عبر طرق مختلفة، بل أن الإدارات التابعة للدولة الشريفة او ( البنية الحديثة ) كما اسماها اوريد كان أغلب موظفيها فرنسيين، وتركت بعض المهام غير المؤثرة بيد المغاربة.
سيرورة السلطة المخزنية إن البنية الحديثة (الشريفية الجديدة ) التي يميزها الاستاذ اوريد عن البنية التقليدية (المخزن)بحكم السيرورة التاريخية تعايشتا من داخل رؤية متكاملة بحفاظ الثانيةعلى الهيكل العام للسلطة المخزنية ،و نهل الاولى من اساليب التدبير و التسييرالكولونيالي الفرنسي .اذن فانتقال السلطة من بنية الى اخرى تحكمه اعتبارات الحساب الزمني فهو طبيعي بحيث ان المؤسسة التقليدية (المخزن) استطاعت التكيف مع المتغيرات إن على المستوى المحلي او الجهوي وحتى عالميا في محطات تاريخية مهمة. و إذا استقرأنا فكرعبد الله العروي في هذه المسألة نجده لا يحصر المخزن في اطار محنط او هلامي كدولة او بنية كما ميزه الاستاذ اوريد سواء شريفية او تقليدية ... بل يمكن القول بانه نظام تتفاعل فيه عدة مصفوفات اقتصادية وسياسية واجتماعية و انتاجية فالمسألة متعلقة بحركية ديالكتيكية و بالتالي لا داعي للتفريق التعسفي نظريا و ايديولوجيا بين فكرين و منهجين استمرا و تعاقبا حسب الظرف فنظام الحماية اتى ليفرض مصفوفته حسب التفويض و في الاخير انتصر منطق التاريخ.
وهو يسوق في مسار انتقاده للبنية الحديثة جملة مؤاخدات هي هيمنة الجانب التقني على الانساني في التدبير وايضا الاهتمام بالسيرورة اكثر من الالتزام بالغاية .ففي نظرنا أن دينامكية البنية التقليدية هي ما فرضت الاهتمام في بعض المحطات التاريخية بما هو استاتيكي و تحريكه في اتجاه مفيد للمؤسسة في مضمونها الديني و الاجتماعي و الاقتصادي و معبر على السلم و الامن الاهلي في تجلياته الكبرى و استمداد الشرعية منه. فليفي ستروس يقدم لاعمال مارسيل موس بقوله : بان من طبيعة المجتمع ان يعبر عن عاداته رمزيا . فالبنية التقليدية مجالها في التدبير و التسيير كان يتماهى مع التشكيل المعرفي و البناء الطبقي التقليدي و الانتاج البدائي لمجتمعها ،فلا مجال للحكم عليه بتقنيات الحداثة و التكنولوجيا .ويرى الكاتب أن الانحراف عن التكنوقراطية باعتبارها من مقومات الحداثة بسبب الغوص اكثر في الامور التقنية إبتعدت بسببها البنية الحديثة عن نهجها في تحقيق النتائج الى البحث عن السيرورة في تفعيل المكتسبات و تنفيذها دون الالتزام بالغايات،وبهذا تبتعد البنية الحديثة عن الروح الاولى في التفكير و التقرير .وهذا التحليل من جانب الاستاذ يطغى عليه التعميم المفتعل فالبنية التقليدية المتداخلة مع البنية الحديثة شكلا البعد المتطور و القدرة على التكيف مع ظروف و أوضاع متجددة في إطار مؤسسات متكاملة و متواصلة يعتريها في أوقات متفاوتة ضعف او إستكانة او مأزق لكنها تبقى مستمرة و محافظة على روح المبادرة ، فالتطور من التنظيم الى التوحيد هو ما جعل البنية التقليدية تحاكي نخبها و تهظمهم في اتجاه خلق قوة اقتراحية تعضض عملية صنع القراروبالتالي تأسيس نخبة من التكنوقراط يبقى تفكيرهم وفيا لروح التاريخ و الرمزية الدينية و التحكيمية للبنية التقليدية .وباعتباران البنية منظمة لمجموعة عناصر متماسكة فيما بينها كل عنصر فيها يدعم الآخر فإن هذا التماسك يتمظهر في العلاقات المتبادلة بين اجزاء البنية و كذا بين اجزاء خارجية في اتجاه تراكمي يمكن ان يحيد عن الجادة لكنه يبقى وفيا للعنصر المؤلْف لهذه الاجزاء.فلقد تعلمت البنية الحاكمة كما اسميها كيفية الاستخدام الأمثل لرموز البلاد بشكل يجمع التأييد في إطار متبادل و كذا الاستباقية و لنا في التاريخ الحديث أمثلة من المقاومة لتحرير البلاد الى المسيرة الخضراء مرورا ببناء السدود باعتبارالامن المائي من واجبات الامن القومي.و هذه مقومات تؤهل اي نظام لتجديد ذاته في اطار من الاستمرارية الدائرية كنمط من انماط التغيير و تحقيق الاهداف .
المتروبول من الاقتصاد الى الفرنكوفونية
و في معرض حديثه عن المتروبول باعتباره العمود الفقري للسلطة بالمغرب فهل يلغي الاستاذ اوريد الجيوبولتيك المغربي ؟ بلا جدال فمحددات السياسة الفرنسية في المغرب تتجلى في المصالح الاقتصادية والجيوإستراتيجية باعتبارالمغرب منطقة نفوذ اقتصادي فرنسي منذ ما قبل الحماية وتنظر فرنسا إلى المغرب على أنه خط أحمر في نفوذها الدولي، مستعدة لخوض الصراع من أجله، حتى لو كان منافسها طرف في حجم الولاياتالمتحدةالأمريكية هذه الاخيرة التي حافظت بدورها على أوراق هامة في السياسة المغربية منذ الحرب العالمية الثانية، معوضة بذلك بريطانيا العظمى التي كانت طيلة القرن التاسع عشر منافسا قويا للمطامع الفرنسية في شمال أفريقيا .وتتصدر الدولة الفرنسية قائمة الشركاء والمستثمرين على السواء بنسبة تناهز الثلث في الصادرات الزراعية والنسيج وبعض مشتقات الفوسفات.. غير أن الأهمية الجيوإستراتيجية للمنطقة المغاربية، وروابطها القوية بمنطقة الشرق الأوسط باعتبارها جزءا من العالم العربي والإسلامي، عادة ما تشكل دافعا قويا للولايات المتحدة للبقاء منافسا قويا ومزعجا للسياسة الفرنسية في المنطقة، خصوصا بعد انسحاب المنافس السوفيتي من الحلبة، وبروز طموح عولمي أمريكي خلال التسعينيات، وجه الكثير من الضربات المؤلمة لفرنسا في مناطق كثيرة كانت تعدها مناطق نفوذ تقليدية، من بينها دول غرب أفريقيا، التي يعتبر المغرب العربي بوابة الفرنسيين الجنوبية إليها.وهناك هم الفرنكوفونية كقلق ثقافي وأمني أيضا لفرنسا ،وقد بدا تأثيرها كمحدد للسياسة الخارجية في لحظات الأزمات الدولية الكبرى . وقد أكد الراحل "شارل ديغول" الرئيس الفرنسي على أهمية العناصر الثقافية والاجتماعية في تدعيم مصالح فرنسا في المنطقة المغاربية و منها المغرب ، حيث دعا الفرنسيين حين قرر منح الجزائر استقلالها عام 1962 إلى الإبقاء عليها "فرانكفونية" إن أرادوا الحفاظ على تدفق بترولها في قنواتهم، وهيمنة سلعهم على سوقهاوالحفاظ على هيمنة النخب الناطقة بالفرنسية على مراكز القرار، انطلاقا من قاعدة "أن خير مكان يحافظ على مصالح فرنسا في المغرب العربي، هم المغاربة الناطقون بالفرنسية والمؤمنون بما يسمى قيم الحضارة الفرنسية، وعلى رأسها العلمانية".و في السياق ذاته في علاقة المتروبول بالمانيا و التواريخ ففي عام 2012 أصبحت مسألة إنقاذ اليورو مشخصة في وصف “ماركوزي” المتمثلة في رقصة تانجو بين ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد اتخذا القرارات الحاسمة، وأصرا على استقرار الموازنة و”الحزمة السداسية” التي يمقتها اليسار.
التحديات و التخوفات
وباعتبار الاستاذ اوريد متخصصا في الحركات الاسلامية و الامازيغية ،فلقد استعمل مصطلح الاسلام السياسي في تأريخه لمرحلة ما بعد مراح و تنبؤه في تغيير على مستوى الاولويات داخليا و خارجيا فإلى اي حد يصمد هذا التخوف امام المصالح الحيوية؟ و استعماله للمصطلح في كتابه الاسلام و الغرب و العولمة و تأكيده في محطات ثقافية أخرى على التمييز بين جوانب في الاطار العام للإسلام السياسي بالمغرب ،فهنالك تيار اسلامي متمدن و رسمي يناقضه آخر قروي و يحمل بذرة الثورة بين طياته ،و يختم بالثالث المتصلب الرجعي .و الملاحظ انه يميز بين الثلاث مستويات من منطلق جغرافي صرف لا يقبل التداخل الثقافي و لا الاقتصادي باعتبار ان هذه الطبقات التكتونية حسب توصيفه لا تقبل اي تماس.و هذا يجانب الحقيقة التاريخية و الجغرافية اذ انه دائما في المغرب تعايش و تعاون بين حركات اسلامية و الانظمة و قد صرح الاستاذ في حديث له انه ضد الذين يعمدون الى تجزئة الاشياء لان الهوية المغربية غير قابلة لذلك، فوحدة المذهب و الاعتزاز بالهوية الوطنية بدون تحميلها حمولات سياسية ضيقة و عاجزة عن فهم التاريخ من شأنه تجنيب الفتن و الخلافات المذهبية و الاثنية . و عندما نتحدث عن الهوية الوطنية مشمولة بفهم الدور المنوط بالمثقف و السياسي ليس الحالم و انما الحادس لمواجهة التحديات،ينذرنا الاستاذ من خطر الاتراك بثقافتهم و ايران بمذهبيتها و الجزائر باطماعها في هذا البلد .وهذا شيئ طبيعي أن تحاول اي دولة ارهاق الاخرى من اجل ابتزازها او دفعها الى تبني وجهة نظرها الثقافية و السياسية من اجل كسبها اقتصاديا انه ليس بالجديد لكن لا ضير من التذكير به من باب الإخبار للاتقاء من حر الاستعمار الجديد.
و بعد ..التوقع
لقد ذكر الاستاذ رقم 12 في معرض تشاؤمه و ربطه بواقعة العقاب التي انهزم فيها الموحدون سنة 1212و ما وقع سنة 1912 بكل ما تحمله هذه الارقام من حمولات سياسية مرتبطة بظروفها الاقليمية و الداخلية فدولة الموحدين سقطت لأسباب عقائدية و اجتماعية و اقتصادية لا يمكن إسقاطها على مغرب الحماية و ما بعد لان في الاسقاط يكون التجني على التاريخ و منطقِه و الاستهتار بعلم التوقع، وبالتالي فالسنوات 1212و1912و2012 يمكن اعتبارها أرقام ولادة لعلاقات لا رابط بينها في الواقع المعيش و المفترض. وأختم بقولة حسن اوريد حول الدولة بقوله: أنني أؤمن بأخلاقيات الدولة وهيبة الدولة وحرمة مؤسساتها.