إعداد محمد بوداري تزخر الحركة الثقافية بالعديد من المبدعين والباحثين في شتى المجالات، إلا أن التهميش الذي عانت منه الامازيغية لغة وثقافة وهوية لعدة عقود، جعلت حضور هؤلاء في حقل الإبداع والثقافة المغربية يكون منعدما، أو باهتا في حالة الذين استطاعوا فرض أصواتهم بطرق قد يكون فيها لعامل المعرفة والوساطة دورا كبيرا. كما أن تركيز الإعلام على بعض الوجوه التي استنفذت ما لديها، بفعل التكرار والحضور المتواتر في كل الملتقيات والبرامج التلفزيونية وعلى صفحات الجرائد والمجلات، جعل الثقافة الامازيغية تبدو وكأنها تعدم طاقات و فعاليات في هذا الميدان. إلا أن المتتبع للشأن الامازيغي لا يمكن إلا أن يستبشر خيرا بالنظر إلى الطاقات التي تزخر بها الثقافة الامازيغية والتي تمتح من مختلف العلوم وضروب الفكر، كما أنها في مقارباتها لواقع الامازيغية تحاول توظيف المناهج العلمية وكل ما وصل إليه الفكر الإنساني في ميدان اللسانيات والسوسيولوجيا والانتربولوجيا وعلم التاريخ وسائر العلوم الاجتماعية والإنسانية.. وسنحاول تسليط الضوء على كتابات بعض من هؤلاء الذين يكتبون في صمت، والذين لهم أراء ومواقف قد تختلف عن ما هو سائد، إلا أن لها أكثر من مبرر للوجود، يدعمها في ذلك تبني الديمقراطية وحق الاختلاف، كمفاهيم وممارسات من طرف الحركة الثقافية الامازيغية. وفيما يلي دراسة للاستاذ إدريس أيت لحو، حول الواقع اللغوي الامازيغي و إشكالية مأسسة اللغة الامازيغية، من وجهة نظر مختلفة عن ما هو مألوف. وسنحاول نشرها على حلقات في انتظار صدورها مستقبلا.
إدريس أيت لحو*
كلام تمهيدي لابد منه إن هناك هاجسا مهما جعلنا نفكر في نشر هذه الدراسة "الأكاديمية" على شكل كتيب ألا وهو» الحوار الوطني حول دسترة الأمازيغية لغة وثقافة « . لكن هناك هاجس آخر أهم ويتجسد في معطى جديد ألا وهو الجهوية الموسعة؛ إذ تعتبر هذه الأخيرة ملازمة للتعدد والتنوع. إن دسترة الأمازيغية يرجع بالأساس إلى ترسيمها، بل وإلى منحها وربطها بمجالات ترابية محددة .
إن الزمن لا يرحم وقافلته تسير لا محالة، ومن ثمة يجب عدم حبس الأمازيغية في قوالب تنتج عن أسطورة التوحيد والمعيرة والوطنية، إذ في اعتقادنا، تبتعد الأمازيغية بذلك عن الإستدامة وعن روح المسؤولية.
إن الشروع في بلورة لغة أمازيغية واحدة بالمغرب بمثابة تيه بل هو فقدان للمعنى في حد ذاته، ذلك لأن هناك عدة منوعات لسنية أمازيغية في العالم. وسيكون من سبيل المغالطة أن نجعل الأمازيغية تنتحر داخل كيطو-Ghetto محدود باسم لغة أمازيغية وطنية مغربية. وهكذا فيلزم أن نرسم عدة لغات وطنية مغربية، ويرجع أمر الحسم في عددها وفي حدودها البيوطنية – بالتأكيد بارتباط مع الجهوية التي تحدثنا عنها – إلى اللجان التي تعين من أجل ذلك وإلى المؤسسات التي تخلق لذلك الغرض.
وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن الأمازيغية عانت الكثير من الجهاز المخزني. وهنا فقد يخلف المغاربة موعدا آخر مع التاريخ إن هم لم يتخلصوا من تلك السياسة المخزنية.
مقدمة:
لقد تبنت الدولة المغربية منذ الاستقلال إستراتيجية التعدد اللغوي الفعلية في إدارة المشهد اللغوي، وذلك رغم الغموض الذي يحوم حول أجرأة هذه الإستراتيجية. خصوصا رغم اعتبار العربية الكلاسيكية لغة رسمية للدولة في الدستور. ويعتبر التعدد اللغوي بالفعل خاصية هامة تميز المجتمع المغربي، إن على مستوى التربية والتكوين، أو على مستوى الإدارة أو الاقتصاد أو الثقافة. وتأتي الأمازيغية كلغة أو كلغات عدة في المرتبة الأخيرة على مستوى التراتبية السوسيولسنية. فهي لغة شفهية، لكنها غنية وتمتد عبر ألاف السنين؛ ومن هذا المنظور طالبت بها الحركة الثقافية الأمازيغية كلغة وطنية في البداية؛ ثم كلغة رسمية منذ منتصف العشرية الأخيرة من القرن الماضي.
فإذا كان هذا الواقع لدى البعض نتاجا لمجرى تاريخ دولة متفتحة دائما على العالم، فإنه بالنسبة للبعض الآخر ضرورة تفرضها حتمية رفع تحديات التنمية الاقتصادية من جهة، ومواجهة ضغوطات العولمة من جهة أخرى. إنها ضرورة تقتضي الأخذ بعين الاعتبار، تنويع القدرات اللغوية من قبل كل الفاعلين.
إن هذا الواقع السوسيوثقافي ينعكس جليا على الاختيارات اللغوية على مستويي التربية والتكوين، ذلك أن المحور التاسع من الميثاق الوطني للتربية والتكوين يشهد بذلك: " تجديد تدريس اللغة العربية وتقوية استعمالها بالإدماج التدريجي للأمازيغية في المدرسة المغربية ".
لقد وجدت النخب المغربية المناضلة في إطار الحركة الأمازيغية سواء أكانت، سياسية ( حزبية أو نقابية) أو مدنية ( المنظمات غير حكومية ) نفسها في بداية القرن الواحد والعشرين أمام تَحَدٍ كبير، ويتعلق الأمر بموقع « statut » اللغة أو اللغات الأمازيغية داخل المنظومة السياسية واللغوية المعاصرة. وتعتقد هذه النخب بضرورة توحيد الأمازيغية في حين أن الواقع والإنتظارات " العلمية " وتطلعات التنمية المستدامة تتطلب أمرا آخر .
إن الهدف الأسمى لما ننشره هنا، هو محاولتنا تفادي المغرب والمغاربة فشلا سوسيوسياسيا آخر. ومحاولة جعل المغاربة يربحون رهانا لغويا، إذ أننا نعتقد جازمين اليوم بعدم جدوى الخطوات المنهجية المتبعة في هذا الشأن؛ إضافة إلى كونها جد مبذرة.
وفي إطار مناقشة مطالب الحركة الأمازيغية بالمغرب وجوابا على المذكرة الأمازيغية في بداية الألفية الثالثة؛ أمر الملك آنذاك بإنشاء مؤسسة عمومية مسؤولة عن المحافظة على الثقافة الأمازيغية، وهي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي أسس بظهير 17 أكتوبر 2001. وقد بدأت هذه المؤسسة في مأسسة الثقافة واللغة / اللغات الأمازيغية عبر ست مراكز للبحث الأكاديمي. فبالتأكيد، تبقى المأسسة هي خير وسيلة للحفاظ على هذه الثقافة، وتنمية هذه اللغة/ اللغات، لكن هل سننسى وهل لن نأخذ بعين الاعتبار السياق العام و الإجمالي الذي تتم فيه ومن خلاله سيرورة ذلك الشكل المعطي.
إن العديد من المفارقات تطبع عمل تلك المؤسسة العمومية، حيث يتعلق الأمر بتطوير الثقافة اللغة / اللغات الأمازيغية. وهكذا نسجل الملاحظات التالية:
على المستوى القانوني: لم يشر الظهير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية قط إلى كلمة " لغة أمازيغية "، في حين أن كلمة " الثقافة الأمازيغية " ذكرت فيه ست مرات. وفي اعتقادنا لم يكن هذا الأمر صدفة، بل هو موقف أكثر من " إستراتيجي" يدعو للتفكير. ومن قبيل التساؤل فقط، فالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية له دور استشاري بطلب من الملك حول شؤون الثقافة الأمازيغية. وبذلك، بأي حق وتحت أي غطاء مشروعية، من جهة عمدت هذه المؤسسة العمومية إلى الحسم والإقرار بمعيرة وتوحيد الأمازيغية؟ ومن جهة أخرى هناك مبدأ أساسي يتعلق باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وهو التنوع الثقافي، والذي » لا يمكن حمايته وتطويره، إلا إذا توفرت الضمانات لحقوق الإنسان والحريات الأساسية كحرية التعبير والإعلام والتواصل، وكذا إمكانية اختيار الأفراد لتعابيرهم الثقافية « .
على المستوي الأكاديمي والعلمي: نلاحظ أن الأكاديميين لا يستعملون إلا كلمة "الأمازيغية " أو " الثقافة الأمازيغية " عوض " اللغة الأمازيغية "، وذلك قصد تفادي أي لبس. إن وجود لغة ذات أصل معياري (Normative )، باعتبارها جدعا مشتركا بين المنوعات اللسنية الحالية أمر بديهي وواقعي ؛ لكن الإختلافات المورفولوجية والتركيبية تبدوا بديهية كذلك. وهنا أثبتت الدياليكتولوجيا أن الاختلافات بين هذه اللغات / المنوعات اللسنية للغة أصلية ما خلال حقبة ما من تصورها التاريخي تظهر في إطار نمط موحد لبنية مورفولوجية. وليس الحال كما هو هنا بالنسبة للغة الأمازيغية. فالدراسات السوسيولغوية مدعوة لإثبات أو دحض هذا الكلام ، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بدوره مدعو للعمل على بلورة دياليكتومترية أمازيغية - على الأقل – بالمغرب؛ وذلك من أجل قياس وتكميم تعارضات بين مختلف نقط الخريطة اللغوية الأمازيغية بالمغرب.
على المستوى الاجتماعي والتواصلي: يظهر أن الأمازيغوفونيين الذين يتحدثون بلغة الأطلس والتي نجدها بوسط المغرب، هم الأكثر تهيئا للتواصل مع لغة الريف في الشمال ومع لغة سوس في جنوب المغرب (تريفيت و تشلحيت). فالأمازيغوفوني المنحدر من الأطلس أي وسط المغرب، إذا ما كان لا يتحدث المنوعتين اللسنيتين الأخرتين، فهو على الأقل قد يفهمها ولو بصفة جزئية. ومع ذلك فهذا الأخير يحاول التواصل مع متكلمي تريفيت وتشلحيت من خلال المعجم و الفونيتيكا؛ بل وفي بعض الأحيان من خلال التركيب بغية التقرب من الأخر. فبالنسبة لأمازيغوفوني الأطلس، إذا ما نجح في التواصل مع أمازيغوفوني الشمال أو الجنوب فهذا بالنسبة له بمثابة إنجاز. أما أمازيغوفونيو الريف وسوس فغالبا،هم، يفضلون استعمال الدارجة المغربية أو العربية الفصحى لكي يتواصلوا مع أهل الأطلس. وليس هذا بالأمر الصعب ان نحن أردنا التحقق منه بصفة يومية وفعلية. من جهة أخرى، لقد طرح الباحث أحمد عصيد أسئلة جد مهمة في مقاله: "انشغالات التحديث في النص الشعري الأمازيغي المكتوب"؛ إذ كتب: "يمكن أن يقول أن مفهوم الحداثة في الثقافة الأمازيغية المعاصرة قد بدأ بفعل الكتابة، وقد يؤول إلى أن يختزل فيها .« وفي هذا العدد ندعو السيد عصيد إلى مراجعة أطروحته في خضم الدينامية الحالية التي تدعو إلى توحيد ومعيرة اللغة الأمازيغية، ولمراجعة استعمال وتطبيق مفاهيما – أي الدينامية – وخصوصا منها الحداثة؛
على المستوى الجيوسياسي: بعد أن تخلق الدولة المغربية لغتها الأمازيغية الموحدة؛ يفترض أن الدول المغاربية الأخرى – بل وحتى في دول المهجر – ستسعى هي كذلك إلى توحيد لغاتها ومنوعاتها اللسنية؛ ويتكون عند إذ لكل دولة لغتها الأمازيغية الموحدة والمختلفة بالتأكيد عن لغات الدول الأخرى ! ستكون إذن للثقافة الأمازيغية لغات إقليمية كثيرة، فهذا هو شأن الثقافة اللاتينية الأم التي تعبر عنها لغات عديدة. فبنفس المنطق، إذا كانت اللغات الأمازيغية تتعدد على المستوى اللغوي والعالمي، فما الذي يمنع أن تتعدد داخل الدولة الواحدة في المغرب مثلا. ونتساءل بذلك بدورنا هنا، لما وضعت الحركة الأمازيغية سقف مطالبها عند توحيد اللغة في حدود بلد المغرب ؟ ولم لم تكن لغة أمازيغية عالمية واحدة وموحدة من صميم مطالبها ؟ فاللغة الأمازيغية المعيارية الموحدة التي يحلم بها » المغاربة « لن تفرض على باقي أمازيغي العالم ؟ ومن أجل ذلك يجب التفكير في إنشاء تعددية موسعة وإقبار كل تعددية ضيقة.
على مستوى الإعلام: لاحظنا بعد تتبعنا للقناة الثامنة والتي تسمى كذلك بالقناة الأمازيغية بالمغرب. أن لها توجها يقتضي التوحيد والمعيرة، بفرض المنوعة اللسنية / اللغة التي تخص جهة سوس لجميع المغاربة. إن ملاحظتنا وتتبعنا لهذه القناة يظهر بداية فشل هذا المشروع.
على المستوى الرمزي: كان ولا يزال شعار نخب الحركة الثقافية الأمازيغيىة مند بداياتها هو : "الوحدة في التنوع". رب قائل يقول إن وحدة الأمة المغربية تكمن في التنوع في ثقافتها؟ (والمقصود هنا هو تواجد الأمازيغية بجانب العربية وعدم إقصاء الأمازيغية). فلما لا نقول كذلك بأن أفضل وحدة لهذه الأمة ستكمن في التنوع داخل الثقافة الأمازيغية نفسها؟ إن سؤالا بسيطا يفرض نفسه : ما الذي يمنع إعتماد نفس قيمة التنوع حينما يتعلق الأمر بلغات أمازيغية جهوية متعددة بالمغرب ؟ ولم لا خارج المغرب كذلك ؟ أفليس هذا هو الشعار الذي أقنع به متطرفو ومحبو الإقصاء و التميز؟ لما إذن سنواجه تطرفا بتطرف آخر؟ لماذا من جهة بعد ما ربح المغاربة حرب وجودية الأمازيغية، شهدنا إقبالا على شعار أخر معاكس. ألا وهو "التنوع داخل الوحدة"؟ من جهة أخرى، هناك سؤال آخر يطرح نفسه علينا. كيف يمكن تأسيس مشروع الأمازيغية بناء على التنوع وليس على الوحدة؟ إن ميثاق اليونسكو حول حماية وتطوير تنوع التعابير الثقافية لسنة 2005، يسعى إلى تقوية الحلقات الخمس غير القابلة للعزل لنفس السلسة وهي: الإبداع والإنتاج والتوزيع / النشر و الولوج والاستمتاع بالتعابير الثقافية، من خلال الأنشطة والممتلكات والخدمات الثقافية. وبالخصوص يسعى هذا الميثاق إلى :
•إعادة اعتبار حق السيادة لدى الدول في بلورة سياساتها الثقافية ؛ •الاعتراف بخصوص الممتلكات والخدمات الثقافية كحوامل للهوية والقيم والمعاني؛ •تقوية التضامن والتعاون الدوليين بهدف تشجيع التعابير الثقافية في كل الدول؛
بعد ميثاق 1972 والذي يهتم بالحفاظ على التراث العالمي الثقافي منه والطبيعي؛ وبعد ميثاق سنة 2003 الذي اهتم بالمحافظة على التراث الثقافي اللامادي؛ جاء ميثاق 2005 لليونسكو هذا، ويعد ثالث أساس يهتم بالحفاظ وتطوير التنوع الخلاق. ومن ثمة فإن توحيد المنوعات / اللغات الجهوية للأمازيغية سيكون بمثابة هضر لذلك التنوع الخلاق.
نود الآن أن نتقدم بفرضيتنا التالية: إن السعي وراء بل وتقديس معيرة وتوحيد الأمازيغية يجعل النخب الأمازيغية المغربية لا تعمل إلا على إعادة إنتاج الخطاب القومي العربي بكيفية واعية أو غير واعية في مختلف تجلياته الإيديولوجية.
إن عملية التوحيد والمعيرة هذه لا يمكن أن تتم إلا عبر المؤسسة. وبما أن الزمن يمضي واللغة تتطور والمعطيات تتغير كذلك، فيجب الأخد بعين الاعتبار العديد من الأسئلة. أولها كون الزمن ماض لامحالة؛ وهكذا فإن البعد الزمني هو أهم ما يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار. وعندما نكون بصدد الحديث عن مفهوم الإستدامة التي تخص هذا التوجه اللغوي، فإننا في حقيقة الأمر بصدد رهان مجتمعي. *أستاذ السوسيولوجيا والاحصاء بمراكش