«أسبوعا بعد نفي الملك محمد الخامس، شهدت فاس وفاة أم سيدي الياقوت كما كانت تلقب داخل ردهات القصر الملكي. رحلت الأم وفي قلبها غصة دامية سببها نفي ابنها وحفيدها الذي سيكون هو الملك الحسن الثاني فيما بعد.. ضربت السرية حول جنازتها، لتوارى الثرى إلى جانب زوجها الملك مولاي يوسف، أب محمد الخامس. لتشكل قصة رحيلها واحدة من أكثر قصص وفاة أمهات الملوك درامية. إليكم عالم نساء القصر وحريمه.. العالم الذي لا يعرفه ولم يخترقه أحد!».
عالم الحريم المغلق.. علبة أسرار القصور عالم النساء داخل القصور السلطانية، من أمهات السلاطين وزوجاتهم اللواتي أنجبن ملوك وأمراء الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، عالم عصي على الاختراق. حتى أكثر المؤرخين نفوذا داخل القصر الملكي لم يستطع الكتابة عن هذا العالم المغلق، واكتفى أغلب المؤرخين بإشارات خفية، لأن الستار المضروب على نساء القصر لم تكن الشفافية التاريخية تعرف إليه طريقا. هن نساء، صنعن عالم الملوك وأثثنه، وعاد إلى بعضهن الفضل في شغل دور الركيزة في حياة القصور. بالعودة إلى التاريخ، فإن جحافل حريم القصور لا تنتهي. عندما يذهب السلطان ويأتي السلطان، فإن الحريم أيضا يذهبن ويأتين، يعشن وفق نظام خاص، يشرف عليهن، مخصيون، لا تتوفر فيهم صفات الذكورة، ويعرضن على الملك حسب الحاجة إليهن. أحب الملوك بعض حريمهم، وعاملوا أخريات كما عاملوا غيرهن. بعضهن شكلن هدايا خاصة من مقربين من القصر، وبعضهن دخلن إلى عامل الملك، قادمات من مناطق نائية من ربوع المغرب، قدمن إليه كعربون على حب القبائل ومبايعة العرش. هذا في التاريخ القديم، أما التاريخ الذي عاصر بداية انفتاح المغرب على الحياة الأوروبية التي كان قدرها أن تقيم بشكل رسمي في المغرب لسنوات طويلة، فإن عالم الحريم لم يعرف التطورات التي عرفتها العوالم الأخرى. وظل أيضا عصيا على الاختراق، مع وجود بعض الحالات النادرة جدا، والتي استطاع من خلالها بعض الأوروبيين، النفوذ إلى المنطقة التي تقيم فيها حريم القصر، دون أن ينجح أي واحد منهم في معرفة ما كان يدور خلف الستائر التي تؤثث جناح الحريم. جنحوا بخيالهم بعيدا في محاولات يائسة لوصف عالم الحريم، لكنهم لم يستطيعوا التخلص من عقدة الحكايات القديمة التي تعلموها في المشرق العربي عن الجواري وليال الأنس والطرب، كالتي في حكايات ألف ليلة وليلة. في عالم المولى عبد العزيز، استطاعت الحريم أن يتعرفن على الحياة الأوروبية وأحدث الاختراعات التي كانت تتمثل في الدراجة الهوائية التي لم يكن أحد من المغاربة يعرف حتى كيفية نفخ عجلاتها بالهواء. دائما في القصور، فإن أكثر العوالم غموضا، وسرية، هو عالم أمهات الملوك. فعالم الحريم يبقى مكونا من مكونات كثيرة قد تجمع بين الجواري والمقدمات كهدايا للسلطان، لكن عالم أمهات الملوك يبقى أكثر أركان الحريم السلطاني قداسة. وقصة أم الملك محمد الخامس، كما سنرى، تبقى أكثر قصص أمهات الملوك إثارة. خارج القصر، كان النافذون المغاربة، بل وحتى المارقون عن نظام المخزن، يقيمون لأنفسهم عالما خاصا من الحريم، ويتنافسون في استقدام الجميلات، وأسرهن في حروب القبائل والحسابات الضيقة، ويحوزون النساء كما تحاز الممتلكات، ليشكلوا بذلك أجنحة من الحريم داخل قصورهم. في هذا الملف، سنعرض عالم الحريم بمختلف مكوناته، سواء داخل القصور الملكية أو خارجها، لنتعرف على عالم أسال الكثير من المداد ولم يعرف عنه إلا القليل. وفي التاريخ القديم، كانت القصور تعرف حريما من أجناس مختلفة، وتوجد إشارات مؤكدة إلى أن عالم حريم القصور كان مشكلا من الأوروبيات في الفترة التي كانت الدولة المغربية تدخل في اشتباكات بحرية مع أوروبا، خصوصا إسبانيا والبرتغال، في إطار الصراع التاريخي حول السيطرة على الشريط الساحلي للمغرب. هذه أسرار أجنبيات أصبحن من حريم القصور راجت قصص كثيرة عن وجود أجنبيات في صفوف الحريم داخل القصور السلطانية، خصوصا في فترة الحسن الأول ووالده، قبل انتقال السلطة إلى أبنائه المولى عبد العزيز وعبد الحفيظ ليبدد كل منهما عالم القصر قبل أن يغادره فارا إلى طنجة ومنها إلى خارج المغرب، تاركين خلفهما كل شيء بما في ذلك الحريم، مكتفين بأقرب المقربين فقط. تعود أصول الأجنبيات اللواتي انتمين إلى صفوف الحريم داخل القصور، إلى ما قبل فترة المولى الحسن الأول بكثير، وبالضبط إلى الفترة التي كانت فيها الدولة المغربية تضرب بيد من حديد على السواحل التي تشهد مواجهات مع إسبانيا والبرتغال، وعلى خلفية المعارك الطاحنة التي دارت رحاها هناك، فقد أسر المغاربة أجنبيات كثيرات، ألحقن فورا بصفوف الحريم بعد أن تم أسر أزواجهن كأسرى حرب، وأخلي سبيل بعضهم عندما قبلوا باعتناق الدين الإسلامي مقابل حريتهم. أما البقية، وهم الأغلبية، الذين قرروا البقاء على دينهم المسيحي، فقد بقوا في سجون المدن المغربية، إلى أن تم الإفراج عنهم في ما بعد في إطار هدنة بين المغرب وتلك الدول، تقرر على إثرها إطلاق سراح الأسرى، لكن لا أحد تحدث في تلك الاتفاقيات عن النساء! الأسيرات ألحقن بالقصور، واختار منهن القائمون على راحة السلاطين، بعض الجميلات ليكن في خدمة السلطان، ويرافقنه في سفرياته رفقة حريم القصر الكثيرات، واللواتي كن يُلحقن بسفريات الملوك وفق طقوس خاصة وترتيبات غاية في التعقيد، خصوصا إن لم يكن من اللواتي يفضلهن السلطان. حريم بوحمارة.. العيون السوداء التي كانت تتلصص على الطريق هو فعلا عالم من الحريم، كان يتبع الثائرين ضد الدولة العلوية في حربهم وسلمهم. هذا الأمر بدا واضحا من خلال بعض الكتابات التاريخية، خصوصا منها تلك التي تحدثت عن الأدوار التي لعبها بعض الثوار في تحريك الأوضاع الداخلية بالمغرب بل ورجّها في أحيان كثيرة. وليس الثوار فقط، وإنما أيضا بعض زعماء القبائل. فالباشا الكلاوي بمراكش، نسجت حكايات كثيرة عن أسطول الحريم الذي كان يقيم داخل إقامته الكبيرة في منطقة مراكش، والقصبة التي كانت تعج بالحسناوات، ما بين اللاتي حللن على إقامة الكلاوي كهدايا من أصدقائه الأثرياء أو المتزلفين، وبين اللواتي فتحن أعينهن داخل عالم الباشا القوي وأجداده، وترعرعن داخل نفوذه وأصبحن من دعائم عالم الحريم الذي يشكل عمق الحياة الخصوصية لهؤلاء الأثرياء. لكن الثوار كان لديهم حريم من نوع خاص. فالثائر بوحمارة، الذي روي عنه أنه كان غاية في القوة إلى الدرجة التي شكل فيها تهديدا حقيقيا لإرث المولى الحسن الذي أصبح على رأسه ابنه، عديم التجربة كما وصفه الكثيرون، المولى عبد العزيز. هذا الثائر، الذي أطلق عليه نعت «بوحمارة»، إمعانا في احتقاره لأنه كان «يدعي» انتماءه إلى الشرفاء العلويين، لم يكن ليغفل الجانب المتعلق بالحريم، ولم تكن تكفيه زوجة واحدة مثل بقية الفقراء الذين التف بعضهم حوله، مشكلين مسيرة من الأتباع، تضفي عليه شرعية في ما كان يدعو إليه ذلك الوقت. هذا التسجيل المكتوب، والذي يعد صورة متحركة بالكلمات، سجلها في فقرة منسية داخل مذكرات باللغة الإنجليزية، أصرّ صاحبها على إحاطتها بمربع من المداد وكأنها أهم ما في تلك المذكرات، رغم أنها جاءت في ورقة مقطوعة، قبل أن تطالها يد الماسح الضوئي، وترفق في ملف خاص بأرشيف التغطيات الصحفية البريطانية بالمغرب خلال القرن الماضي. في هذه الفقرة، شهادة، إن كانت صادقة، فإنها تعطي صورة مقربة عن عالم هذا الثائر الذي وصفه صاحبها بالمجنون، لكن ما يهمنا هنا، أنه أشار إلى وجود «حريم» داخل موكب الثائر بوحمارة: «الأمطار منعتني من التقاط صور لتلك المجموعات التي صادفناها في الطريق. كانوا يحملون الأواني على ظهورهم، ويتخبطون في الوحل إلى جانب البغال والحمير وحتى الجمال المثقلة بالأمتعة والخيام المتنقلة. كان هناك أيضا سجناء مكبلون بالسلاسل والأغلال، كانوا متسخين وأعدادهم كبيرة ولا تحصى. مر أيضا جمع من الحريم، يحرسه رجال حفاة من كل جانب، مسلحين ببنادق أوروبية، كما كانوا يضعون على أكتافهم سلاسل من الذخيرة والرصاص. الفتيات الصغيرات كن يحظين بعناية ورعاية النساء الأكبر سنا. رغم أنهن كن جميعا «مغلفات وملفوفات»، إلا أنه كان يسهل تمييز الصغيرات. لكن فتاة صغيرة كانت تسترق النظر بعينين سوداوتين من فتحة ضيقة وتدير رأسها لتحظى برؤية «النصراني». قال لي مرافقي عندما رأينا بعض الفتيات ينزلن الثوب عن وجوههن ليرين الطريق: «هناك سيدي.. يا للأسف، كلهن فتيات جميلات سرقهن بوحمارة (عليه لعنة الله) من القرى المحيطة. إن لديه حريما أكثر من حريم السلطان، ويأخذهن معه دائما». هذا النعت وحده «لديه حريما أكثر من حريم السلطان»، كان وحده كافيا لإعلان الحرب على بوحمارة الذي أراد أن يبدو أكثر قوة من السلطان الذي كانت شعبيته وقتها على المحك، ولم يكن مسموحا أبدا، أن يسمع المخزن المغربي القديم تلك العبارة تتردد في الأماكن العامة والأسواق. الحريم.. الجملة التي شدت أسماع كاتب تلك السطور المغرقة في الوصف الدقيق، بدت عالما غامضا حتى إذا ربطناها برجل يجر أتباعه بين الوحل. الرجل الذي حرص التاريخ على تقديمه متوحشا، ومثيرا للفتن، لم تخل أولوياته من الحريم، رغم أن المرحلة التي كان فيها استوجبت الاهتمام بأمور أكبر أهمية، لكنه استطاع أن يتدبر أمر الحريم قبل أمور كثيرة. «العيون السوداء» كناية عن الجمال، أطلت من خلف الثوب لتطل على الكاتب الذي سمى نفسه ككناية بالنصراني. وهي الكلمة التي كانت قدحية في ذلك الوقت، حيث كان يفضل بعض الأوروبيين الموت على نعته بتلك التسمية المغربية التي كانت ممعنة في الاحتقار. وحتى عندما يكتبها، فإنه يضعها دائما بين قوسين، في إطار سخرية يريد لها أن تصل إلى القارئ ليوضح له الخطورة التي وضع نفسه فيها مقابل الظفر بالكتابة عن تلك التجربة المثيرة. رغم أن البريطانيين ألفوا الجمال مغلفا في عيون زرقاء أوروبية، إلا أنهم لم يخفوا انبهارهم بمعايير الجمال المغربي، وأول ما شد انتباه صاحب السطور أعلاه، هو لون عيون الحريم، وسهولة التعرف على الفتيات وسط تلك الجحافل التي لم تكن تخل من النساء المسنات، بل وحتى المريضات بالأمراض الجلدية المعدية، لأنهن كن قادمات من أوساط لا فرق بينها وبين المناطق المنكوبة التي دمرتها الحروب، لأن حربها كانت ضد أشد الأعداء قوة في ذلك الوقت.. الجوع ! هكذا وقف أول أجنبي في جناح الحريم سنبدأ بأكثر القصص المتعلقة بالحريم قوة من حيث انبهار صاحبها بعالم النساء داخل القصور. هذا الصحفي الذي جال الشرق والغرب، سمع كثيرا عن الحريم وقرأ عنهن في كتب التراث لأنه كان يتقن اللغة العربية إتقانا تاما. لكنه لم يتخيل مرة أنه سيصبح على بعد خطوات من ذلك العالم المحرم تماما على الأغراب والناس العاديين، فما بالك بأوروبي دخل المغرب في فترة احتقان غير مسبوقة شكلت الأيام الأخيرة من الصراع الإمبريالي حول البلاد. في ما يلي من متقتطفات مذكرات مثيرة، نجد بين سطورها تساؤلات كثيرة في نفسية هذا الرجل الذي أتيح له، الوجود قرب عالم الحريم، على خلفية استدعاء ملكي للمثول بين يدي المولى عبد الحفيظ أيام كان حديث عهد بالحكم. ومن خلال مذكراته بدا أنه دخل عالم حريم القصر دون أن يعلم، لكن مرافقه المغربي، الذي حرص على تقديمه على هيأة المغربي الفقير المنبهر الذي لم يحلم يوما بالاقتراب من سور القصر فإذا به يجد نفسه في ضيافة الملك، على بعد خطوات قليلة منه، بل ويمثل بين يديه، هذا المرافق، هو الذي أثار انتباهه بعد انتهاء الموعد السلطاني، إلى أنه كان للتو في حضرة السلطان في قسم الحريم بالقصر، رغم أن هذا الأخير لم يظفر برؤية الحريم، ولا أحد استطاع ذلك. يكتب «في إحدى الليالي جاءني مخزني مع حوالي الساعة الثامنة مساء، وقال لي إنه يجب أن أحاول الخروج وأتوجه إلى القصر لرؤية السلطان. كنت لا أزال مريضا، أخذت معي مرافقي حتى أتكأ على كتفه القوي. كان مسرورا جدا لأن الفرصة ستسنح له كي يرى السلطان، واستحم جيدا قبل الخروج. أخذت معي نسخة بيانية هي الأولى المرفقة مع تقريري عن الحوار الذي أجريته مع مولاي حفيظ، مرفوقة بالصور الخاصة بلقائي الأول به. قصدنا القصر من طريق مختلف هذه المرة، كان مولاي حفيظ يغيّر مكان إقامته في القصر بشكل دوري، ولا بد وأنه يملك سببا وجيها لهذا الأمر. هذه المرة وجدناه في الجهة التي تأوي الحريم. مدخل البوابة الخاص بهذه الجهة من القصر يحرسه رجل مسنّ غير منظم الهيأة والثياب، كان منهمكا في تنظيف أحد الأركان من الأزبال، وأعطاني كرسيا متهالكا لأجلس عليه، ثم نادى على عبد أسود أومأ لي أن أتبعه. قطعنا مساحة تحتوي على كل أنواع النفايات. فتح بابا يبلغ ارتفاعه ثلاثة أقدام، ومررنا عبر معبر، بل عبر أبواب كثيرة. وصلنا إلى ركن مضاء بمصباح ألماني يصدر ظلالا على الركائز. كان السلطان يجلس على أريكة صفراء. بقينا وحدنا مع جلالته. كان أبو سليم، الذي بدت عليه علامات الارتباك، على وشك الانهيار، كانت تلك المرة الأولى التي يكون فيها في حضرة سلطان. عندما كان يتمشى على الأرض المبلطة كاد يسقط وخانته ركبتاه. على مقربة من السلطان، جثا على ركبته وقرب رأسه من الأرض مظهرا طاعته وخضوعه. ثم شرحت سبب حضوره معي. رجاني السلطان أن أجلس معتذرا عن استدعائي وأنا على تلك الحال، كان يبدو مرتاحا وفي مزاج رائق. تحدث مع أبو سليم بلطف، وكان جالسا على الأرض على يميني. أخبرني السلطان أنه قرر قبول الاتفاقية في مجملها، وقال إنه مجبر على أن يصبح صديقا لفرنسا. قال: «الآن، لا بد وأن القوى الأوروبية ستعترف بي. هل تعتقد أن الأمر سيكون قريبا؟». أجبته بأنه بمجرد ما سيتوصلون بقبولك للاتفاقية، فإن ممثلي وزراء الخارجية الأوروبيين في طنجة، سوف يحضرون له الاعتراف الرسمي. السلطان الآن رائق المزاج وأكثر راحة، ورأيتها فرصة حتى أقدم له «الجرافيك» الخاص بلقائي به والرسومات المرفوقة. طلب مني 12 نسخة إضافية، وسلمتها له، كان يقلب الصفحات وكان يتوجب عليّ أن أجلس قربه حتى أقدم له الشروحات الضرورية. أعجبته الأوراق وشعر باستقرار أكبر، ها هو الآن معترف به في جريدة إنجليزية مهمة، مكتوب على صدر صفحتها: «مولاي عبد الحفيظ.. سلطان المغرب». لا بد وأنه حصل على مركزه المنشود. رجاني أن أريه المزيد من الصور في تلك الجريدة «العجيبة والمهمة». كان يقلب الصفحات على مهل وكنت أقدم له الشروحات. اكتشفت أن الشخصيات التي يجب تصويرها لا بد وأن تكون ملكية أو أميرية أو مهمة. لحسن الحظ، فقد كانت الصفحات الأولى تحتوي على صور لشخصيات ملكية. سألني عندما كنت أقلب الصفحات عن هوية رجل: «من هذا»، واضطررت أن أجيبه، وتنفست الصعداء عندما قلب الصفحة دونما اعتراض. كان مولاي حفيظ مسرورا، لأن البورتريه الخاص به كان أكبر من بقية الرسومات. «مزيان مزيان.. أنت ذكي جدا. يجب أن تتوجه إلى الملك إدوارد برسالة مني وأيضا إلى الإمبراطور الألماني». لم أجرؤ أن أقاطعه لكنني ابتسمت للفكرة. اقترب وقت العشاء، وجاء عبد أسود بالماء حتى يغسل السلطان يديه استعدادا لوجبة المساء، لا يستعمل المغاربة ملعقة ولا شوكة، حتى السلاطين يستعملون أيديهم فقط لإيصال الطعام إلى أفواههم. عندما خرجنا من القصر كان مرافقي يرقص من شدة الفرح ويقول لي: أوه سيدي، سيدنا يحبك أنت فعلا رائع، أنا محظوظ جدا لأنني أتمتع بالاحتماء في ظلك. لا بد وأن السلطان سيرسل لي ملابس جميلة. السلطان يعزّك، لا بد وأنك أول مسيحي تدخل إلى القسم الخاص بالحريم في القصر». لكنني لم أر أي نساء، سألت مرافقي إن كان يعرف أين يختبئن فرد بأن لا رجل أبدا يدخل ذلك المكان إلا السلطان والمخصيون فقط. قصة حريم القصر وأول سينما.. وحكاية ركوبهن الدرّاجة في كتاب المغرب المجهول، والذي جاء اسمه الأصلي باللغة الإنجليزية كما يلي MOROCCO THAT WAS.. بعبارة أخرى أكثر وقعا: «المغرب الذي كان..» يحمل بين دفتيه إشارات إلى أولى لحظات تعرف الأجانب الذين حلوا ضيوفا على المغرب بالضبط في فترة حكم المولى عبد العزيز، على عالم حريم القصر. المقربات من السلطان الشاب، كن ينعمن بالحياة الرغيدة التي جلبها الأوروبيون، وكم تذمر المحافظون المحيطون بالملك من ركوب الحريم الدراجة وصراخهن عند السقوط أرضا أثناء تعلم قيادة الآلة العجيبة القادمة من وراء البحر. لكن أكثر قصص الحريم إثارة في حياة المولى عبد العزيز، تلك التي ترتبط بجلب أول سينما إلى القصر الملكي. إذ كانت تعرض الأفلام، التي كانت عبارة عن صور متحركة فقط بدون صوت. وبما أنه كان ممنوعا منعا كليا على أي أجنبي، أن ينظر إلى حريم القصر، فقد كان على الكاتب الذي أوكلت إليه مهمة تركيب ستار السينما في غرفة بالقصر، أن يقف وراء الستار، وكم كانت دهشته عظيمة عندما سمع ضحكات وشهقات نساء القصر وهن يطالعن الصور المتحركة على الجدار بكثير من الاندهاش، حتى أن بعضهن نهضن إلى الستار يحاولن لمسه، لتبدو آثار الأيادي وهي تدفع الستار في محاولات يائسة لتحسس الصور. الحريم كن يردن ملامسة عالم غير ملموس، بينما كان الرجل الواقف خلف الستار، يلامس، عالما آخر، استحال اختراقه في كل الأزمنة والعصور. أم سيدي الياقوت.. والدة محمد الخامس التي توفيت أسبوعا بعد نفيه هذه الهالة المحيطة بالحريم السلطاني لم تتبدد مع مرور السنوات. في عهد المولى محمد الخامس، راج كلام كثير في أوساط الفرنسيين في صالوناتهم بالدارالبيضاءوالرباط، عن حقيقة عالم الحريم الذي كان يثير خيال الأوروبيين الجامح بخصوص عالم النساء، ويحكون عنه بكثير من الاندهاش. لكن الملك محمد الخامس، كان يوفر في القصر الملكي بالرباط جوا خصوصيا، غابت عنه أبهات عالم الحريم الذي اشتهر به بعض السلاطين والملوك سواء في الدولة العلوية أو ما قبلها. في الأرشيف البريطاني، بدا شريط فيديو قصير، يعود إلى أربعينات القرن الماضي، كان عليه أن ينتظر إلى أن يقرر مدراء المؤسسة العريقة في بريطانيا، والتي تجمع داخل بنايتها أرشيف دول كثيرة، وتتوفر على النادر من الأشرطة والوثائق، ربما أكثر من تلك التي تتوفر عليها تلك الدول نفسها.. هذه المؤسسة عرضت شريط فيديو، يؤرخ لركوب صف طويل من النساء اللواتي لم يكن يظهر منهن شيء إطلاقا، لطائرة، وقيل إنهن كن يشكلن حريم الملك محمد الخامس. يصعب التأكد من صحة ما نسب إلى الفيديو من تعليق مكتوب، إلا أن الحريم كن داخل القصر منذ قرون، ومحمد الخامس كان ملكا معروفا بمحافظته على القديم من تقاليد الأسرة العلوية. عالم حريم قصر الملك محمد الخامس، كان عصيا على الاختراق، مثل عالم حريم أجداده تماما. والأكثر انغلاقا من عالم الحريم، كان عالم النساء القريبات جدا من الملك محمد الخامس، ممثلا بالأساس في والدته التي كانت تكنى ب«أم سيدي الياقوت». الضربة الكبرى التي وجهتها فرنسا له، كانت خطوة النفي خارج المغرب. ولم يكن أقسى منها على قلب الملك الراحل، إلا وفاة والدته، من شدة حزنها على ترحيل ابنها، وهي التي بقيت بالمغرب، ولم تغادره رفقة ابنها. في كتاب، التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير، يفرد الراحل، عبد الكريم الفيلالي، لهذا الموضوع بضع صفحات، ويقول: «ما كاد بن عرفة يدخل قصر الرباط ويصبح كاتبه الخاص هو الممرض علال الكردودي، حتى أخرج منه طريدا بلعنة الجماهير، حيث أخذ إلى مدينة فاس، وما كاد يدخل قصرها حتى توفيت أول شهيدة وكانت هي جلالة الملكة الأم والدة محمد الخامس، أم سيدي الياقوت بعد أسبوع من اختطافه. توفيت بالقصر الملكي بمدينة فاس وذلك على الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد 30 غشت 1953 وقد صدرت الأوامر عنوة بعدم نشر خبر موتها حتى تدفن في الظلام، لكن شاع الخبر في المدينة حيث كان الرائح يقول للغادي همسا: ماتت أم سيدي الياقوت، وكان أول من ردد الخبر بباب القصر الملكي بفاس أحد مؤسسي فرقة الوداد «احميدو» المعروف عند أهل فاس ب«أب أحمد» وهو من أصل علوي شريف، لكنه نشأ وشب بين الخدم، ولسواد بشرته كان يحسب على العبيد. هذا الوفي هو الذي أجهش بالبكاء عندما سمع الخبر ولم تجف عيناه من العبرات حتى حين خرج إلى سوق فاس الجديد، حيث علم الناس منه بالخبر الذي لم يؤمر بكتمانه، وبذلك انتشر في ربوع المدينة، ومع ذلك كانت جنازة «أم سيدي» صامتة حيث ووري جثمانها في صمت بمقبرة الملوك العلويين بحومة المولى عبد الله المتصلة مع القصر بباب خلفي هو باب «البوجات». ولم يحضر جنازتها سوى شيخ الإسلام والحاج إدريس الغزاوي، وعبد الدار الأب مرجان حيث دفنت جوار زوجها المولى يوسف رحم الله الجميع. وبذلك أضيفت صفحة قاتمة السواد إلى صفحات الاستعمار الفرنسي في المغرب، خصوصا بعدما نشر الخبر وأذيع خارج المغرب. مما كدر حياة الملك محمد الخامس أكثر وهو في منفاه السحيق. وهكذا عرف محمد الخامس وهو في منفاه مرارة لم يكن قد عرفها في حياته. لأنه كان يحب والدته حبا كبيرا كما كانت هي كذلك تحبه حبا أكبر، خصوصا وأنه وحيدها إلى جانب شقيقه. ورغم نشر الخبر بواسطة الصحف ومحطات الإذاعة لم يعامل ولدها الوحيد بغير ما كان مخططا ضده وضد أسرته، وفي منفاه البعيد من موطن المواساة حيث عرف الشدة والقسوة».