في الدوافع: بعد مواجهات عسكرية متتالية، استعصى على العدو التقليدي للمشروع الإسلامي قريش كسر شوكته وتطويق تنامي نفوذه في المنطقة، دخل على الخط العدو الاستراتيجي للإسلام يهود بني النضير محرضين على إعلان حرب أشبه بالعالمية بميزان المرحلة التاريخية، لإبادة المسلمين والقضاء على كيانهم. ومثلما لم تكن غزوة الأحزاب مواجهة عسكرية ذات أهداف حربية تروم إلحاق هزيمة عسكرية أو احتلال أرض او استرجاعها أو تحرير أسرى، بل كانت حرب إبادة منطلقا وغاية؛ كذلك خُطط للعدوان على غزة، فلم يكن الهدف تحرير أسرى مخطوفين كما زعم الاحتلال الإسرائيلي أو إيقاف الصواريخ، وإنما كان الهدف القضاء نهائيا على مقاومة إسلامية وطيِّ صفحة ربيع إسلامي يهدد عروشا عشائرية قبل أن يهدد الكيان الصهيوني في وجوده ومشروعه التوسعي. كيف لا، والمقاومة بصمودها وثباتها تضخ في شرايين الشعوب الإسلامية دماء الحرية والكرامة والتحرر. في التحالفات: بتحريض من يهود بني النضير هبت قبائل عربية بزعامة قريش وعضوية بني فُزارة وبني مُرّة وبني أشجع وبني أسد، حيث تمّ حشدُ عشرة آلاف مقاتل، عدد يفوق المسلمين أطفالا وشيوخا ورجالا ونساء، في حين لم يتجاوز عدد جيش المسلمين الثلاثة آلاف مقاتل، في ظروف اقتصادية حرجة. وتقريبا للصورة نعرض خطاطة تحالف القبائل العربية لإبادة المسلمين في غزوة الأحزاب، ونترك للقارئ أن يؤشر في خريطته الذهنية على العواصم العربية الداعمة للعدوان الأخير على غزة الصمود والعزة. في التعبئة: استنفارا للقبائل العربية وتأليبها على استئصال شوكة الإسلام باعتباره مهدداً لمصالحها الاقتصادية والسياسية، انطلق عشرون رجلا من زعماء يهود بني النضير يحرضون القبائل العربية على الإسراع بإجهاض المشروع الإسلامي قبل فوات الأوان. أما قريش فانخرطت في العدوان دون مقابل، في حين وُعِدت غطفان وأحلافها بنصف محصول تمور خيبر بالمدينةالمنورة. وقبل ساعة صفر العدوان الأخير على قطاع غزة، استكملت كل ترتيبات العدوان، حيث انخرط ما غدا يعرف إسرائيليا بالتحالف الإقليمي مُشكلا من أنظمة عشائرية لا تختلف كثيرا عن التحالف القبلي في غزوة الأحزاب؛ تحالف لم تعُد عناصره خافية عبّد الطريق لشن حرب إبادة المقاومة، بل ووفّر الدعم السياسي والإعلامي والمالي واللوجيستكي وحتى العسكري، وأعفى الكيان الصهيوني من الحرج الأخلاقي ليعيث قتلا وتذبيحا وخسفا بالقطاع وأهله، بل وحمّل هذا التحالف الإقليمي إعلامُه المقاومة مسؤولية المجازر والدمار. في الأسلوب: مثلما فاجأ المسلمون الغزاة بأسلوب غير مألوف في الثقافة الحربية العربية، وعمدوا عملا برأي الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى حفر خندق/حزام يحول دون اقتحام الجيوش الغازية المدينةالمنورة؛ فاجأت المقاومة الإسلامية الكيان الصهيوني، ليس بتطوير صواريخها محلية الصنع وصناعة طائرة استطلاع دون طيار فقط، بل وإنجاز شبكة أنفاق مكنت المقاومة من اختراق صفوف جيوش الاحتلال وأربكت تماسكه وأصابته في مقتل. شبكة أنفاق دفعت قادة العدوان للاعتراف أنهم وقعوا في مصيدة المقاومة، مثلما وقعت جيوش التحالف القبلي في كمين الخندق، مصرحين يومها: "إنها مكيدة فارسية ما كانت العرب تكيدها". وكما شلت حركة جيوش الغزاة في غزوة الأحزاب أمام الخندق، شلت حركة العدوان بفضل بسالة المقاومة، ومن خلال شبكة ستبقى برهانا على الذكاء والعبقرية الفلسطينية المقاومة في حفرها بالدم والأظافر. في الصمود: صمودٌ وثبات أسطوريّان بكل المقاييس في غزوة الأحزاب، كما في حرب إبادة المقاومة الإسلامية، أساسهما واحد، يقين وثقة في الله لا يزعزعها تكالب المتآمرين ولا خيانة المنافقين؛ يقين راسخ عبّر عنه القرآن الكريم ابلغ ما يكون التعبير، يقول رب العزة والجبروت واصفا ومقررا عن معنوية الواثقين من نصره: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشَوْهُم فزادهُمُ إيمانا وقالوا حسبنا الله ونِعْمَ الوكيلُ" (سورة آل عمران:173). كيف لا، وكما واجه المسلمون تحالفهم القبلي، تواجه المقاومة اليوم بإمكانياتٍ متواضعة قوى إقليمية ودولية ميدانيا وسياسيا وإعلاميا وتخوض معركة الوجود وإثبات الذات، فإما أن تكون أو تكون.؟ ومثلما كانت "لعبة عض الأصابع" محددا للحسم في مواجهة غزوة الأحزاب، هي كذلك اليوم، فعامل الزمن يرفع معنويات المقاومة الصامدة أمام أعتى عدوان توفَّرَت له أفتك وسائل الدمار والخسف، وأهم من ذلك تغطية ودعم غير مسبوقين إقليميا ودوليا، مقابل ذلك تتزايد الأصوات المنددة بالعدوان، ويتنامى العضب الشعبي عالميا عما تقترفه الماكينة الصهيونية من مجازر في حق الأطفال والنساء والمرافق الحيوية بالقطاع. ولله درُّ حكام بلدان أمريكا اللاتينية الذين سارعوا لإدانة العدوان وسحب السفراء من دولة الاحتلال، بل من هؤلاء القادة مَن لم يتردد في تصنيف إسرائيل كيانا إرهابيّا! فيَا لَذلّ حكام العرب يطعنون الأمة في كرامتها وكبريائها، حتى أضحى العربيُّ المسلمُ يتمنى لو كان مواطنا في إحدى هذه البلدان اللاتينية !وصدق الله العظيم إذ يقول: "فإنْ يكفُرْ بها هؤلاء، فقد وكّلنا بها قوما ليسُوا بها بكافرين"(سورة الأنعام: 89). في التمحيص: كانت غزوة الأحزاب فارقة ليست بنتيجتها العسكرية التي صنفت المسلمين قوة إقليمية معتبرة، بل كانت كذلك على مستوى التمحيص والاختبار للصف أو القاعدة الشعبية بالتعبير المعاصر، ذلك أن غزوة الأحزاب شكلت اختبارا إيمانيا ميز بين أهل الصدق وبين ضعاف الإيمان الذين لا يُعول عليهم في الظروف الحرجة. في هذا السياق، نزل القرآن الكريم مصورا الاهتزاز العاطفي للمنافقين. يقول عز من قائل: "وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورةٍ إن يريدون إلا فرارا"(سورة الأحزاب:10)؛ وبالمقابل جلّى الحق سبحانه معادن الصادقين، المتوكلين عليه حق التوكل، الواثقين من تأييده لعباده متى أخلصوا له العبادة وأخذوا بأسباب النصر. يقول جل وعلا: " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا"(سورة الأحزاب:22). ابتلاءٌ وتمحيصٌ كشفته حلقات مسلسل العدوان المتكرر على القطاع، حيث تتصدر المشهد الإعلامي وجوهٌ تُواري جبنها ووهنها وراء شعار الواقعية مُصرحة: وحيث إنه لا يمكن هزمُ إسرائيل حاليا، فمن الحماقة والمغامرة التفكير لا حظوا، مجرد التفكير في منازلتها عسكريا في الظروف الراهنة. مقابل هذا الانهزام النفسي والانبطاح يصرح القادة الميدانيون للعدوان أن المقاومة لقنت إسرائيل درسا حربيا مريرا سيُرخي بظلاله على العقيدة العسكرية لجيش سُوِّقَ لعقود أنه لا يُقهر. في المآل: وكما اضطرت جيوش الغزاة في غزوة الأحزاب أن تنسحب وهي تجر ذيول الخيبة، وسط تبادل الاتهامات بالخيانة ونقض العهد، ها هي ذي قوات العدوان تبحث لنفسها عن مخرج من ذل الهزيمة الذي تجرعته على يد مقاومة إسلامية ذات إمكانيات قتالية متواضعة مقارنة بترسانة المعتدين. إنه درس بليغ تقدمه المقاومة الفلسطينية في التعبئة وبناء الشخصية الحرة المتعافية من داء الوهن والتثاقل إلى الأرض والحرص على مألوفات وعوائد لمن يُحدث نفسه بعزة أو كرامة أو تحرر. ومثلما أسهمت المرأة المسلمة في حماية ظهر المسلمين في غزوة الأحزاب في شخص صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية لأطفال ونساء المسلمين من غدر يهود المدينة، أسهمت وتُسهم المرأة الغزوية في تعبئة وتجهيز أبناء المقاومة وترشيحهم للشهادة دفاعا عن الشرف والكرامة. فتحية إكبار وتقدير للنساء مربيات الرجولة صانعات المستقبل والعزة. استدراك: قد يقول قائل: على أي نصر تتحدث، والشهداء من جراء العدوان تجاوزوا الألف، والجرحى والمنازل المدمرة بالآلاف؟ الجواب بإشارتين: الأولى أن هؤلاء ضحايا عدوان غاشم يتحمل وزر دمائهم من دعّم وتآمر إقليميا ودوليا، ولم يسْع لمنع العُدوان وردع المُعتدين أو التخفيف من كلفته البشرية والمادية. والثانية أن هؤلاء الضحايا البشرية والخسائر في العمران ومرافق الحياة رغم الفداحة والبشاعة ثمن العزة والكرامة، وإلا فأضعاف من استشهِدوا من جراء العدوان مرات يقضُون في حوادث السير العادية في البلدان العربية المغرب نموذجا دون أن يشكل ذلك صدمة أو حرجا أو ردة فعل شعبية أو حكومية، اللهم الاستنكار السلبي وبرقيات التعزية.