الأحزاب الإنتخابية..يمين رجعي و يمين إنتهازي بخفة في النقد و اللسان تناول محمد الحنفي "مصير الذين كانوا محسوبين على اليسار"، بحسب تعبيره، و صنفهم لفئتين : فئة "خرجت من بين صفوف الأحزاب اليسارية نفسها" و احترفت "ممارسة النقد الهدام" ضد "اليسار و رموزه التاريخيين و الواقعيين"...، و فئة أخرى ليساريين "توقفوا عن الأداء في صفوف اليسار" و "اختاروا مواقع أيديولوجية و سياسية أخرى" !! و مكمن الخفة هنا ليس ما أردفه الكاتب من أوصاف شنيعة بالفئة الأولى من قبيل نعتها بالطفيليات و العمالة المخزنية و الطبقية، و المندسين، المرتدين، المنبطحين،... و لا في تثريبه على الثانية، و استحسان صمتها و انتقالها من موقع طبقي لآخر، و من موقف إيديولوجي لآخر، و إنما مكمنها و مبعثها في أنه يحصر مفهوم اليسار –تارة بالمفرد و أخرى بصيغة الجمع- في "الأحزاب اليسارية" و "تنظيم اليسار"، و اعتبار كل من يوجد خارج فسطاط الإيمان هذا مارقا يستدعي تطبيق حد الردة عليه. إلى هنا لا تعود المسألة متعلقة بدفاع بريء عن رموز تاريخيين و واقعيين لليسار جرت الإساءة لهم، كما يوهم عنوان المقال، بل قضية المضمون الطبقي لليسار بأكمله تستوجب على الكاتب أن يخفف الوطأ، و يحسب خطوه جيدا، و لا يتعسف في المصادرة و الإتهام. و تدعوني شخصيا إلى مناقشته فيما كتب و أراني معنية به كمناضلة يسارية تمارس النقد الهدام (بكل فخر) من خارج كل "صفوف تنظيمات اليسار" و ضدها، ولو كره الحنفيون. يتجلى العيب الأول، في مقالة الكاتب، في اعتباره كل نقد ل"رموزه"، ممارسة تتم من موقع طبقي و معرفي واحد، هو موقع الفكر البورجوازي المسيطر، به تستحيل كل ممارسة نقدية، و إن على أرضية نقيضة، عمالة للأجهزة المخزنية تستوجب الرجم بكل آيات التكفير السياسي بدل تحليل بنية خطابها و إقامة الحجة و البرهان على خطئها. بهذا التجريم تنتفي الحدود الفاصلة بين النقد البروليتاري الثوري، الذي لا يمكن أن يكون إلا هداما، في نقضه علاقات الإنتاج الرأسمالية كشرط لاستيلاد مجتمع إشتراكي على أنقاضه، في إطار جدلية الهدم و البناء المعروفة. و بين النقد البورجوازي المحافظ الذي يتوجس و يرتعب من كل جديد ثوري. و رغم التعميم و التعتيم الذي يتحدث به الكاتب عن خصومه دون تسميتهم، أو إطلاع القراء على عينة من كتاباتهم، لنرى إن كان فيها فعلا من تجريح فيما تحويه، أو تحديد منهم "رموز اليسار" هؤلاء؟ و ما إذا كانوا كذلك عن جدارة و استحقاق ؟ فإنه يتبع الأسلوب نفسه في تمويه منطقه الشكلي الذي يفكر به، فيعطي مدلولا لمفهوم اليسار يتسع ليشمل اليمين نفسه (ليت شعري)، بما فيه "حزب الدولة، الذي يظهر أنه لم يعد حزب الدولة". فعن أي يسار يتحدث يا ترى؟ و من هم "مناضلوه" ؟ و "رموزه" ؟ و ربما مقدساته... إن اختبارا ممارسيا بسيطا للمنطق الحنفي كفيل بجعله يهتز و يتهاوى رأسا على عقب، فالبعودة إلى تلك "النيران الصديقة" التي تتبادلها الأحزاب اليسارية فيما بينها، بين حين و حين، و تترك ندوبا و كدوشا لا تندمل، لا نجد لها تصنيفا بدورها ; هل هي نقد بناء مثلا ؟ و ما إذا كان القائمون بها ينسحب عليهم أيضا الوصف بأنهم منبطحون و مندسون و ما لا تعلمون ؟ ماذا نسمي الصراع حول الج.م.ح.إ. (AMDH) و التهم الثقيلة التي تبادلتها أطرافه و لا أظن أحدا يحبذ إعادتها على مسامعه ؟ ! وهنا ، تجدر الإشارة، إلى الفارق بين النقد الإنتهازي بهذف تحقيق مصالح آنية متمثلة في الإستفادة من حجم التمويل الرجعي و الإمبريالي لأغراض حزبية، مع الحفاظ على حبل الود موصولا مع "الخصم" (اليساري بدوره) و إبقاء خط الرجعة قائما. و بين النقد المبدئي الذي لا يدوس على الخط الفاصل مع العدو الطبقي، بله يجعل منه نقطة اللاعودة. معنى هذا أن "النيل من اليسار و رموزه" لا يأتي بالضرورة و حصريا، من خارج تنظيمات اليسار، أو عبر ممارسة نقدية هدامة. و إنما قد يتمظهر على شكل دفاع عن اليسار، أي على هيأة نقد بناء. فإذا كان من يهاجمون اليسار حاليا –وفق المنطق الحنفي دائما- مندسين سابقين في صفوف تنظيمات اليسار، فما الضامن ألا يكون من لا يزالون في صفوفه الآن مندسين أيضا ينتظرون إلتقاط الشارة، لينتقلوا من ضفة لأخرى، بقدرة قادر ؟ و ما الذي يمنع ألا يكون السيد الحنفي واحدا منهم ؟ و أن مطولاته الإنشائية هذه محض مزايدات بغاية إبعاد الشبهة عنه ؟ جميع الإحتمالات واردة، و ليس ثمة من عاصم يستبعد هذه السيناريوهات، خاصة و أن الظروف الذاتية، ممثلة فيما أسماه الكاتب "أزمة اليسار"، التي أفرزت تلك العناصر المنحرفة، ما تزال قائمة سياسيا، و إيديولوجيا، و تنظيميا. أي ما يصطلح عليه في الأدبيات الماركسية بالإنحراف . فعلى ما يستنكر الكاتب ذاك "النقد الهدام" الموجه لليسار المنحرف ؟ و فيما دفاعه عنه ؟ و أين هو ذلك الكيف الذي قال إن قوة اليسار تتجلى فيه ؟ ماهو الخط السياسي الذي يسير فيه ؟ و وفق أي استراتيجية ؟ إن المجال قد لا يتسع للوقوف عند جل تناقضات و تهافت النص الحنفي، لكن لا بأس على سبيل الختم أن نشير إلى الدرك الذي وصله، بين شجبه "للقدح" الذي يتعرض له اليسار "في برامجه" –وهي الموضوعة التي بنى عليها كامل خطابه- و بين بوحه بأن يساره ذاك يعاني "أزمة برنامجية". فيما يجعل المرء محتارا و منبهرا من هذا النط على الحبال الذي لم يرى مثيلا له حتى في قاعات السيرك، و برع فيه هذا الرجل الذي دفع به هزاله النظري لترديد رطانات البورجوازية بصدد الحرية. فإذ يتشاطر صرفيا على العبارة الأصل الواردة ضمن مقررات الحركة الإتحادية الأصيلة (تحرير- ديمقراطية- إشتراكية) يقع في مغالطة عملية –و أكرر عملية حتى لا يقرأها علمية- و هي أنه ما دامت عندنا دولة فلن تكون ثمة "حرية"، و عندما تكون هناك حرية، تنتفي الدولة و تزول بزوال الحاجة إليها. ذلك أن الحاجة إلى الدولة، ولو كانت الدولة هذه "الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية باعتبارها دولة إشتراكية" !!، ليس غايته تحقيق "الحرية" بل فقط ممارسة البروليتاريا ديكتاتوريتها ضد البورجوازية و قمع فلولها.