3 دعم الدعم بعد أن وقفنا في الحلقة السابقة على أهم المكتسبات التي تحققت في الحقل المسرحي الوطني بفضل سياسة الدعم، نورد اليوم، في هذه الإطلالة الأخيرة من هذه السلسلة، أهم الملاحظات والمقترحات التي استقيناها من النقاشات العمومية للمسرحيين المغاربة في إطار الندوات والأيام الدراسية التي نظمتها النقابة المغربية لمحترفي المسرح، خلال السنين الأخيرة.. هذه الملاحظات التي لا تخلو من وجهة نظر شخصية، ليس من شأنها التقليل من أهمية الدعم المسرحي بقدرما تروم المساهمة في تحسين وتطوير مسار التجربة. أولا يلاحظ بشكل عام أن الفصل القائم بين دعم الإنتاج ودعم الترويج، لم يكن مدروسا بالشكل الذي يكون معه نافعا وناجعا.. معنى ذلك أن قرار إحداث باب خاص بدعم الإنتاج وآخر خاص بدعم الترويج لم يكن مسبوقا بما يسمى في إعداد المشاريع ب «دراسة الجدوى»، إذ أصبح هذا الفصل المنهجي الذي قسم الدعم إلى بابين منفصلين، عالة على التجربة ككل. كيف ذلك؟ في باب الإنتاج يتم الاحتكام إلى ملفات ومشاريع موضوعة على الورق، ولم تنجز بعد؛ بينما في باب الترويج يتم الاحتكام إلى معاينة ومشاهدة عروض مسرحية على الخشبة. وقد يبدو ظاهريا أن المقاربة الثانية ستكون أكثر موضوعية وربما أكثر ديمقراطية؛ فيما المقاربة الأولى قد تنطوي على مجازفات من شأنها أن تؤدي في التقييم إلى نوع من الحيف والإجحاف، أو إلى نوع من الرضى المفرط. من جانب آخر، فمعظم الفرق المسرحية المستفيدة من دعم الإنتاج، غالبا ما تتقدم للمباراة من أجل «ربح» دعم الترويج. أما الفرق التي لم تحظ بدعم الإنتاج، فالقليل منها من يتفوق في الوصول إلى مرحلة طلب دعم الترويج. وهنا تمارس أحيانا ضغوطات من أجل إرضاء الخواطر خارج كل المقاييس.. فأي المقاربتين أصلح للمسرح المغربي اليوم؟ أعتقد أنه إذا تم التخلي عن منهجية الفصل بين الإنتاج والترويج سيصبح الدعم موجها نحو «المشروع الفني» في حد ذاته، إنتاجا وترويجا. لأنه، في الأصل، وبقوة القانون، يُفرض على الفرقة المدعمة في الإنتاج أن تقدم ما لا يقل عن عشرة عروض في ثلاث جهات، معنى ذلك أنها تكون ملزمة بترويج عرضها على نفقتها، أي خارج خانات ميزانية الإنتاج. وبما أن هذه العروض العشرة غير مدعمة (أي أنها تدخل في نطاق ترويج غير مدعم)، يضطر المنتج إلى التقليص من ميزانية الإنتاج لسد مديونية متوقعة ناتجة عن تكلفة العروض. لأن المنتج المسرحي، في الغالب، لا يستطيع، في بلادنا، بيع عروضه العشرة لمؤسسات أو استعمال شباك التذاكر. وبالتالي يصبح المال المخصص لدعم الإنتاج يُوَجه في غير مقصده، أي أنه يُصرف في الإنتاج والترويج معا، وطبعا يتم ذلك بنوع من التحايل على القانون، وعلى حساب الجودة ودفتر التحملات وحقوق العاملين. ثم أن الميزانية المخصصة للإنتاج نفسها تحتوي على خانات تتعلق بأجور وتعويضات العاملين في المشروع باستثناء الممثل!!! حيث يكون الممثل مضطرا لانتظار مرحلة العروض ليتقاضى أتعابه وحقوقه المادية من دون سائر المهنيين الآخرين الذين تؤدى لهم أجورهم بشكل جزافي، وخصوصا المؤلف والمخرج والسينوغراف والملحن... وبالتالي فالممثل يتقاضى أجره انطلاقا من المداخيل إن كانت هناك مداخيل! لذا يضطر المنتج، للتأكيد مرة أخرى، إلى «ترشيد» نفقات الإنتاج على سبيل الاحتياط لضمان تعويضات الممثلين المتعاقدين معه، وضمان تنفيذ العشرة عروض الملزمة له بقوة العقد المبرم مع الوزارة المدعمة. وإذن، وبدون الدخول في التفاصيل، نعتقد أنه لابد من إعادة النظر في المقاربة التي تفصل بين دعم الإنتاج ودعم الترويج، وندعو إلى التفكير في إمكانية التخلي نهائيا عن هذه المنهجية، واعتبار الدعم عملية واحدة مندمجة إنتاجا وترويجا، بحيث تصبح كل فرقة مدعمة مرشحة مبدئيا لدعم الترويج بعد مشاهدة العرض الأول وتقييمه وفق المساطر القانونية المعمول بها في مجال المكافأة أو الزجر. ثانيا نعتقد أنه حان الوقت لإعادة النظر في الغلاف المالي الذي تخصصه الدولة لدعم المسرح المغربي. فوزارة الثقافة تخصص سنويا مبلغا ماليا يتراوح بين خمسة إلى ستة ملايين درهم للدعم المسرحي. جزء يخصص للإنتاج وجزء آخر يذهب للترويج.. ففي هذا الموسم، على سبيل المثال، خصص لدعم الإنتاج 2.532.000.00 درهما، (250 مليون سنتيما فقط)، توزعت على 19 فرقة مسرحية، وتراوح المبلغ الخاص بكل فرقة ما بين 20 مليون سنتيم كحد أقصى و9 ملايين كحد أدنى... فهل يمكن بالفعل إنتاج عمل مسرحي بالمواصفات الاحترافية والشروط التقنية والفرجوية المطلوبة، بهذا القدر الهزيل من المال؟ فما هي طبيعة العقلية التي تحكمت في تحديد هذا السقف؟ وهل ثمة إحاطة حقيقية ومعرفة عميقة بمتطلبات العملية الإنتاجية في القطاع المسرحي؟ أعتقد أن ثقافة البؤس لا زالت تسيطر على البعض في دواليب وزارة الثقافة ووزارة المالية. حتى أننا نستطيع الجزم بأن ثمة نظرة دونية واحتقارية اتجاه المسرح في بلادنا لازالت تسكن عقول المسؤولين، إذ يعتبرون أن المسرح مجرد مضيعة للوقت وشكل من أشكال «لعب الدراري»! وإلا ما معنى أن تحظى السينما- ويجب أن تحظى بذلك وأكثر- بدعم أكبر؟ ونفس الشيء يقال عن القطاع الرياضي الذي تعبأت له كل الجهود لجلب المال الوفير! هل هو اختيار سياسي ينم عن غضب الدولة على المسرح والمسرحيين؟ أم أنه مجرد جهل ببواطن الأمور وما يتطلبه الإبداع المسرحي من جهد وجدية وتكلفة مالية وموارد بشرية؟ لقد حان الوقت للتخلي عن سياسة توزيع الفقر على المسرح المغربي. للاستئناس فقط، أورد هنا نموذج فرقة مسرحية فرنسية حظيت في السنة الماضية بدعم لإنتاج مسرحيتها الجديدة بما لا يقل عن 600 ألف أورو، أي مجمل ما يخصص لدعم المسرح المغربي برمته!؟ ثالثا على مستوى الذات المسرحية الوطنية، لابد من تسجيل تضحيات ومعاناة الفرق المسرحية ومهنيي الفن الدرامي ببلادنا، خصوصا على مستوى تدبير الإنتاج والموارد البشرية والتنظيم والهيكلة. وسبق أن سجلنا بأن من حسنات سياسة الدعم أن جعلت الفرق المسرحية تعتمد أساليب وطرقا احترافية في العمل المهني... لكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الباب أن فرقنا لازالت في معظمها في حاجة إلى تأهيل حرفي يساعدها على تجاوز الصعوبات، لا سيما ما يتعلق بغياب عنصر الاستمرارية والهيكلة المؤسساتية.. ذلك أن الفرق مطالبة اليوم بإعادة النظر في طرق اشتغالها التي لم تتجاوز بعد أساليب وتقاليد العمل الجمعوي. ولن يتأتى لها ذلك إلا بالاقتناع بضرورة المرور من البنية الجمعوية إلى البنية المقاولاتية؛ خصوصا وأن قانون الفنان ينص على المقاولة الفنية. فمن جهة، أصبحت البنية الجمعوية غير قادرة على استيعاب متطلبات العملية الإنتاجية، سواء من الناحية التنظيمية أو من الناحية التجارية، ومن جهة أخرى لا يخفى على أحد أن العمل الذي تقوم به الفرق المسرحية اليوم، وإن كان يطغى عليه النفس الجمعوي، فإنه بقوة الواقع يعتمد مفردات مهنية وحرفية ذات طابع تجاري ومقاولاتي، (عقود الشغل، عمليات تجارية، عمليات إشهارية تواصلية..الخ)، ما ينقصها فقط هو ذلك الطابع الشكلي والقانوني لإنشاء مقاولة مسرحية بحق وحقيق. ولعلها، إن انتقلت إلى العمل المقاولاتي، ستفتح لنفسها أبوابا مدعمة لمسارها وممارستها، كأن تتوفر على إمكانية الاقتراض من البنوك، وأن تتقدم بمشاريع تنموية في مجال الفنون، وأن تستفيد من الاستشهار، وأن تحسن أداءها المهني. لكن ذلك كله لن يستقيم من دون دعم الدولة مرة أخرى، بحيث من المفروض أن تواكب الدولة هذه العملية الانتقالية وتصاحبها بالنصح والخبرة التقنية وتوفير بعض الامتيازات ولو بشكل مؤقت، كأن تستفيد المقاولة المسرحية من تخفيضات أو إعفاءات ضريبية، وأن تحظى بالأسبقية في شراء عروضها المسرحية والمشاركة في المهرجانات داخل وخارج البلاد... كل ذلك يمكن أن يتحقق لو سارعت وزارة الثقافة إلى إخراج النصوص التطبيقية والتنظيمية لبعض مقتضيات قانون الفنان، ومنها أساسا ما يتعلق بإنشاء المقاولة الفنية وبطاقة الفنان.