من بؤرة ثورية إلى مخيمات أشبه بمعتقلات أوشفيتز مصطفى الوالي السيد لم يكن انفصاليا تحل اليوم 6 نونبر الذكرى 35 لتنظيم المسيرة الخضراء. مسيرة أعلنت بداية النهاية لمرحلة وصمت تاريخ المغرب على مدار عقدين من حصوله على الاستقلال بالمؤامرة ضد القوى الديمقراطية والتقدمية وتعطيل الحياة السياسية وإعلان حالة الاستثناء وقمع جماهير الريف وتصفية جيش التحرير، وإغراق انتفاضة الدارالبيضاء في الدم، وإلى حد عزل القصر والانقلاب عليه في محاولتين عسكريتين عامي 71و72. مسيرة سلمية مشى فيها الشعب المغربي مئات الكيلوميترات كرجل واحد في اتجاه عمقه التاريخي، حاملا الأعلام الوطنية، معلنا للعالم كله إرادته في تصفية الاستعمار وتحرير أراضيه المغتصبة وإعادة اللحمة لوطن مزقته الأطماع الاستعمارية التي تكالبت على وحدته الترابية وسيادته الوطنية منذ بداية القرن 20. مسيرة أرادها المغرب شعبا ودولة فاتحة عهد جديد لمغرب الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وقطيعة مع الماضي بأعطابه وويلاته والتي أضاعت على البلاد فرصا تاريخية وعوقت مسير عهد الحقوق والحريات الذي أعلن عنه المغفور له الملك محمد الخامس غداة حصول المغرب على استقلاله. مسيرة توجت بانسحاب آخر جندي إسباني من الصحراء وبالانتصار لإرادة المغرب المشروعة في استرجاع أراضيه وتوطيد وحدته الترابية، في وقت كانت فيه دوائر النظام الجزائري تنسج خيوطها للإيقاع بمصطفى الوالي السيد مؤسس «جبهة تحرير الساقية الحمراء وواد الذهب»، لوضع المغرب على فوهة مدفع وبما يخدم مخططاتها الهيمنية وخرائطها التوسعية في المنطقة المغاربية المرسومة في أتون الحرب الباردة الدائرة رحاها يومها بين الشرق والغرب. ويومها كانت أرشيفات المخابرات الجزائرية تتضمن ملفات دقيقة حول مصطفى الوالي السيد وهويته المغربية ومشواره الدراسي ومساره النضالي داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وتشبعه بأطروحات اليسار المغربي وأدبياته حول جدلية التحرير والديمقراطية، وعلاقاته بمناضلي حزب التحرر والاشتراكية قبل قرار منعه. ملفات وتقارير كانت تصف الوالي بالعنصر الخطير، بسبب مواقفه وقناعاته السياسية والإديولوجية بوحدة بلدان المغرب الكبير على أسس ديمقراطية ووحدة مصير شعوبها. وعبثا حاولت المخابرات الجزائرية استقطاب مصطفى الوالي السيد وتشريبه أطروحة الانفصال، بحيث لم تتمكن من إحكام قبضتها على البوليساريو إلا بعد مقتل الوالي بعيار ناري من الخلف في هجومه على العاصمة نواقشوط سنة 1976 وإعلان «الجمهورية الصحراوية» وعاصمتها تندوف. وإلى اليوم، لا يزال الغموض يلف ظروف وملابسات مقتل الوالى، ففي وقت كانت فيه صحيفة «الغرانما» توجه أصبع الإتهام إلى فرنسا، لم تستبعد تقارير أحد مراسلي مجلة «أفريك آسيا ماغازين» يومها ضلوع نظام بومدين. وحسب أدبيات بعض فصائل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في السبعينات، فإن فكرة البؤرة الثورية كانت متطارحة بقوة في ضوء تجارب حركات التحرر الأمريكو- لاتينية. وإن الفكرة إياها لم تكن لتستبد بالوالي وإلى حد الهوس، لولا تداعيات الوقفة التي نظمها على رأس مجموعة من الطلبة الصحراويين في أعقاب زيارة وزير خاجية فرانكو لوي برافو للمغرب، ولقاءاته مع بعض الزعامات الحزبية المغربية بخصوص التداعيات السياسية لعملية تأسيس جماعة صحراوية بإيعاز من مدريد لتمثيل الصحراء وسكانها داخل الكورتيس الإسباني، في محاولة من قبل إسبانيا لضم الصحراء والالتفاف على القرار الأممي القاضي بتصفية الإستعمار الإسباني في الصحراء عام 1965. اعتقل الوالي إثر هذه الوقفة وعذب داخل أقبية «الكومبليكس» بالرباط العاصمة، قبل إطلاق سراحه وتواريه عن الأنظار وانقطاع أخباره من دار التوزاني بحي عين الشق بالدارالبيضاء حيث كان يقضي جل عطله الدراسية مع الطلبة الصحراويين، وإعلانه عن تأسيس جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب صيف 1973، تنزيلا لفكرة البؤرة الثورية في الصحراء. بيد أن عفوية مصطفى الوالي السيد ومثاليته، أوقعتاه في عش العنكبوت، بحيث صارت حركاته وسكناته محكومة بشروط ومصالح خارجية تتجاوز بكثير أحلام الوالي الثورية، وتضع من يوم لآخر قناعاته بالوحدة لا الانفصال، بين كثبان رمال الصحراء المتحركة، وتدفع به في اتجاه ركوب المغامرة كما حدث في هجومه على نواقشوط، وهي القشة التي قصمت ظهر بعير الجبهة. وبعد سقوط الوالي، سقطت البوليساريو لقمة سائغة بين فكي النظام الجزائري الذي أغدق عليها من ريع نفطه بالمال والسلاح لزعزعة استقرار المغرب واستنزافه في نزاع مفتعل بدعوى حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، فيما الصيغة الأصل لقرارالجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر عام 1966 كانت تقضي بتنظيم استفتاء في الصحراء لتقرير مصير المنطقة بين دول المغرب وإسبانيا وموريتانيا. وحسبنا أن نستحضر في معرض هذه الذكرى الوطنية، مصير البؤرة الثورية التي أوقعت البوليساريو في شراك أجندة معادلات سياسية ورسومات جيواستراتيجية تهاوت مع جدار برلين، وكيف تحولت اليوم إلى مخيمات أشبه ما تكون بمعتقلات أوزفيتش، حيث يحشر آلاف الصحراويين في أحط شروط الكرامة الإنسانية. شروط ما فتئت تسقط ورقة التوت عن عورة البوليساريو الدامية، بسبب نزيف التحاق الصحراويين بأرض الوطن، وفي هذا السياق، وقبل أن يتوارى إلى الظل بسبب خلافاته مع محمد بن عبد العزيز، حمل آخر حديث لشقيق مصطفى الوالي البشير المصطفى السيد عبر إحدى الفضائيات العربية أكثر من رسالة مفادها، بأن الصحراويين «لا يقبلون أن يكون هناك سقف للمفاوضات في وقت يفضلون فيه العيش في خيمة سقفها السماء..» كان هذا، يوم كانت فيه حدود الصحراء كسمائها، أما اليوم فسماء الصحراويين في المخيمات كسماء ضفدعة تقبع في قعر بئر تخال فوهته سماء.