يشكل المقهى، الفضاء الأثير لدى أدبائنا - كتاب القصة بالأخص- بمختلف أجيالهم.حيث لا تكاد تخلو مجموعة من مجاميعهم القصصية، من تناول هذا الفضاء وما يحبل به من وقائع ونزوات. هناك من يعتبر المقهى عالمه الأدبي، بحيث أنه لا يستطيع الكتابة عن شيء آخر، خارج هذا العالم بالذات. نلتقي هنا إذن، مع المقهى في مختلف تلاوينها ومسمياتها: الحانة، المقشدة، الكافتريا، المثلجات، المطعم، البوفيت، النادي الليلي..من هذه الفضاءات، ما هو وضيع، ومنها ما هو باذخ، أو حسب تعبير أحد الأدباء:»مكان نظيف وجيد الإضاءة». من هذه الفضاءات كذلك، ما هو محترم، ومنها ما يشكل بؤرة فساد. كل ذلك يجسد غنى وثراء لذخيرة السرد المغربي. *** الكأس الأولى في صحتك. في صحة كل الأشباح الحاضرين، وكل أحبابي الفوضويين. في صحة النار المقدسة المشتعلة في بعض الأعماق. في صحتي أنا أيضا. هل عندك أعماق؟ مظلمة ومتشعبة؟ غامضة؟ من يسكنها؟ هل تعرف بعضا من أدغالها ومجاهلها؟ إن لم تكن تعرف شيئا عن أعماقك أو ليست لك أعماق أصلا، فاعرف أنك مجرد خروف، في حاجة ماسة وأبدية لمن يسوقك ويرعاك، أين شاء ومتى شاء. الكأس الثانية الغريب أني لا أتذكرك إلا عندما أكون ثملا، فكأنك تسكن في قعر لا شعوري، تتكوم في زاوية هناك، وحيدا، تقفقف من البرد والوحدة وأعراض البلادة. لا شعوري مرحاض عمومي أو مزبلة وطن بكامله، ومع ذلك لا أقبل بوجودك في مزبلتي، ماذا تفعل هناك؟ أخرج لأراك. في الحقيقة، لم أكن أتصور ? قبل أن تخرج من لا شعوري- أن تشاركني هذه الكاس وأن تكون شخصية مرموقة من شخصيات قصصي القصيرة. لم أكن أعلم انك فظيع إلى هذا الحد، لا قيم لك ولا أعماق. تصور نفسك كما تريد، بطلا أو أستاذا أو زعيما أو رئيس مصلحة استثنائية، أو حتى ممثلا لأمة ضحكت من سذاجتها الأمم، فأنت أتفه من أي أي شيء يمكن تحمله أي ريح وتلقيه بعيدا. كل الكلمات التي رددناها معا وكل الشعارات التي آمنا بها حينا، وكل الأفكار، مهما اختلفت وتناقضت لا تعني لك سوى شيء واحد، هو أن تعيش في بحبوحة وأمان داخل الغابة، لا يهم أن يكون الآخرون هم الثمن، المهم أن الذي يستطيع أن يعيش في الغابة آمنا مطمئنا، نسميه أسدا. أنظر، كل هذا البشر الذي تراه هذه الليلة، في البار، لم يأت من اجل الاحتفاظ بك، الاحتفال بالرجل المناسب في الوقت المناسب. الكأس الثالثة أنا فقط، وبحكم الصداقة التي اكنت تربط بيننا منذ سنين بعيدة، والتي لم نقس -لحسن حظنا- حراراتها أبدا، أرى من الواجب أن أصارحك، أما الحقيقة فاحذر ولا تحذر منها، كن راعيا أو خروفا، فأنا لم أعد أهتم بشيء، وليس وراء الأكمة ما وراءها، وليس وراءها غير البهتان والكذب والنفاق، أو على الأقل، ليس وراءها شيء أفضل أو أقبح مما يوجد أمامها، وليس أمامها سوى أنا وأنت. لا تهتم، إن أجمل الأشياء أبعدها، والأدنى هو الكأس، شارب كأسك، إن خير الأمر أحسنها، والأجمل هو الكاس، لا تضيع وقتي أرجوك، واشرب في صحة البهتان وصحة الملايين التي تكدسها في البنوك عسى أن تنفعك يوم يغسل الجميع أيديهم عليك، يوم تنكشف اللعبة. لا تقل لي إنك ضحية وإن زوجتك امرأة وإنك تحب الله وأمك وسيارتك أيضا، لا تقل لي إنك تعني ما تقول أو لا تقول ما تعني. خذ ما شئت من المعاني، كل المعاني مجانية. الكأس الرابعة في صحة من يكتب استرزاقا لله، ومن يكتب ليدخل لاتحاد كتاب المغرب من غحدى نوافذه المفتوحة عمدا، ومن يكتب ليدخل الجنة، عجبا يا أخي، كل هذا الظلام وأنت لا تزال تحمل القلم، لآ تخاف منه؟ الشيء الوحيد الذي لم أكن أتصوره ورغم ذلك أتوقعه -اشرب كأسك- هو أن تصبح كاتبا وتنجح في النتخابات وتفوز بتمثيل ضحاياك. لا تقل لي إن زوجتك هي السبب. لا تقل لي شيئا على الإطلاق، فأنا افهمك وأقدر مسكنتك. الكأس الخامسة أنا هنا منذ أن خرجت من لا شعورك ودخلت هذا البار، لقد سمعت كل ما قال. المهم، لا تثق بأحد، وخاصة من يحاول أن يقنعك بأنك لا سيء، مجرد حلقة داخل آلة معقدة، أو أنك تؤسس مؤسستك الفاخرة بحظيرة على اليمين ومزبلة على اليسار، لا تغرك الضجة ومظاهر الاحتفال والنفاق والكاميرات وباقات الورد، فأنت تستحق أكثر من ذلك، هل تسمح لي أن أشرب كأس؟ أنت الرجل المناسب في الوقت المناسب. لا تثق بهذا الترثار الذي يحاول أن يقنعك بتفاهتك، اشرب معي واحمد الله واكتب ترهاتك كما تشاء، لكن لا تثق به، ثق بي أنا الذي أفهمك جيدا رغم أني لا أعرفك حق المعرفة. هات كأسا أخرى، أنت رجل الساعة، فكر في برنامج يلسق بنا، فكر في اقتناء منزل، بل عمارة تليق بطموحك وبذريتك، إياك أن تموت قبل أن تترك لأولادك شيئا يتقاتلون حوله. هل هم أولادك فعلا؟ لنشرب في صحة كتاباتك وطموحك وذريتك. أما زوجتك، ذلك الكائن العجائبي الجميل، فلا تحقد عليه، اعتبره كائنا جاء من كواكب بعيدة ورضي أن يعيش كالثعبان معك، قل لي ( بيني وبينك) من أي كوكب حصلت عليه؟ ولماذا تدعي أنه يخونك؟ وهل تخونه أنت؟ لا تهتم، أنت لست هو زوجتك، واحمد على أنه لم يخلقك امرأة وإلا لكنت في هذه اللحظة بالذات تحت رحمة رجل ما، يذيقك الأفاعيل ويخونك ويصفق، ولن تكون كاتبا بالمرة، وحتى لو كنت كاتبة، فلن تكون امرأة، جميع النساء اللائي يكتبن رجال، فحول. صفق إذن لتكون جديرا برجولتك الجديدة، هات كأسا أخرى، واحك لي ماذا وقع بالضبط؟ الكأس السادسة أنظر حولك، إنهم يضربون الطاسة، اليوم خمر وغدا خمر، وأنت في انشراح تشرح لهم جالية اللعبة، واللعبة دمية جميلة، ذات وجهين، وجه بارز ووجه خفي، اسمها السياسة، كانت محظورة يوم كان الحشيش مباحا، والآن صارت مباحة وأصبح الحشيش محظورا، هي لعبة كبيرة ومعقدة، لا يلغبها الأطفال ولا يفهمونها، يمكن أن تغنيك ولا يمكن إلا أن تغنيك. لا تقل شيئا فأنا أفهمك. العب معهم كما تشاء واكتب الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح ووصفات الماكياج والأفاعيل السياسية، وتحضير المآدب. كن جديرا بهذا الزمان، زمن اللعب على الحبال، واترك زعماءك يضعون مساحيق الوقار والالتزام على وجهك، يمشطون شعرك أمام الشاشة. ابتسم لنا، اكذب علينا، استغفل صيدك الثمين، ثم اشرح وانشرح، شرحنا أمامك، أنت جدير بنا ونحن جديرون بك. الكأس السابعة سآخذ وقتي الكافي لأقنعكم بشغفي بكم، وإعجابي بطيبوبة قلوبكم وأكبادكم، وتفهمي العميق لخبثكم، وما أنوي ولا أنوي أن أحققه من أجل عيونكم. أنا الرجل المناسب في الوقت المناسب، أنا الجبل الشامخ الذي يأتيكم فجأة فلا تملكون أمامه سوى أن تتسلقوا أقدامه، على أن يحصل لي الرضى التام على نفسي أولا، وعلى رصيدي ثانيا وعلى خطتي ثالثا وعليكم رابعا. أقف بعيدا، أتأمل رصيدي الثمين وأرقصكم على نغمات ديمقراطيتي. الكأس الثمالة التفت، اكتشفت أن الحانة صارت خالية وشبه مظلمة. نظرت إليه، كان لا يزال يغط في نومه، منبطحا على (الكونتوار) والديمقراطية تخرج من فمه المفتوح، كفقاعات الصابون. أغلقت فمي وأزراري. وانصرفت.