بعض النصوص يقوم أصحابها بتجنيسها بسير ذاتي تخييلي، بمعنى أنهم يتحدثون عن ذواتهم ويمزجون في ذلك بين الواقع والخيال. غير أن الخيال حاضر دوما في الكتابات الإبداعية حتى لو اعتبرها أصحابها سيرا ذاتية، وحاولوا إيهامنا بواقعيتها من خلال اعتمادهم على مجموعة من العناصر، من قبيل: تطابق اسم السارد وصفته مع اسم المؤلف، وذكر شوارع وأماكن بأسمائها الحقيقية، واستحضار وقائع حقيقية موثقة، إلى غير ذلك من العناصر والأساليب الفنية. هناك من ذهب أبعد من ذلك، حين اختار الكتابة في خانة أدب الرحلة، وعمل على تضمينه وقائع من نسج خياله، أعتقد أن كتابة من هذا النوع تبعث على النفور، وشخصيا لا أطيق هذا النوع من الكتابات، على اعتبار أن قارئ أدب الرحلة يبحث في هذا الأدب عن معلومات يجهلها أو يرغب في التلذذ باستحضارها وهي منسوجة في قالب إبداعي، كنا نقرأ أدب الرحلة ونحن مرتاحون إلى ما يحكيه الراوي هو عين الحقيقة، وقد أثبت الزمن صدقيتها، على سبيل المثال رحلة ابن بطوطة. حاليا صرنا نقرأ نصوصا معاصرة من هذا النوع ونحن في حالة توجس دائمة، وسيل من الأسئلة يعكر علينا صفو القراءة: هل يعقل أن تحدث هذه المصادفات؟ وهناك من يمزج بين أشكال أدبية مختلفة، تتأسس على عنصر الخيال. غير أن هناك من باتوا ينادون بعدم جدوى الأدب، على اعتبار أنه يغلب عليه الخيال، وبالتالي يعد مضيعة للوقت. بعضهم يتبجح بالقول إنه يفضل قراءة كتاب علمي واحد على أن يقضي ساعات وساعات في قراءة عشرات الروايات. في حين أن الإبداع الروائي، يحمل تلك القدرة على التنوير واستشراف الآفاق. هناك نصوص إبداعية اعتبرت تنبؤية، بالنظر إلى أنها مكنت من الكشف عن حقائق علمية، لم يتوصل إليها العلماء إلا بعد مرور عقود من الزمن على ظهور تلك النصوص وقطع أشواط بعيدة من البحث. لا شك أن العديد من القراء يستحضرون ذلك القول الشعري لبول إيلوار: الأرض برتقالة زرقاء. لم تكتشف البشرية هذه الحقيقة إلا بعد أن قام العلماء برحلة إلى الفضاء الخارجي، بينما توصل إليها شاعر مولود في القرن التاسع عشر. أدباء عرب تنبأوا كذلك بالعديد من الحقائق العلمية والكثير من الوقائع، هناك روايات تحدثت على سبيل المثال عن الربيع الديمقراطي قبل حدوثه بسنوات عدة، إلى غير ذلك من الأشياء التي غفلت عنها العلوم، سواء كانت مرتبطة بما هو اجتماعي أو سياسي أو بيئي أو طبي أو غير ذلك من الأمور. هناك قولة لها ارتباط بالأدب والخيال: أعذب الشعر أكذبه. في اعتقادي أن مثل هذه الأقوال لم يعد لها مكان في فضائنا الإبداعي. لقد فطن القراء، أو يمكن القول إن وعيهم تبلور. عاقوا بتعبيرنا الدارج. عندما يقول الشاعر القديم إن حبيبته جميلة مثل القمر، قد يرد عليه القارئ المعاصر بسؤال استنكاري ماكر: وإذا كنتما معا في القمر: هل ستدعي بأن حبيبتك جميلة مثل الأرض، علما بأن الأرض تبدو من الفضاء الخارجي جميلة مثل برتقالة زرقاء؟ أعذب الشعر أكذبه مع الأسف، هناك من لا يزال يبني نصوصه وعباراته بواسطة كاف التشبيه، ليضفي عليها عذوبة الكذب، أو انزياحا، حسب تسمية النقاد، كأن يقول: نعدو كالخيول الوحشية.. في حين أن هذا الأسلوب بات متجاوزا. أعتقد أن الكاتب الجيد هو الذي لا يستعمل على الإطلاق كاف التشبيه. طبعا لا يمكن للكاتب الجيد أن يكون كذلك اعتمادا على هذا العنصر لوحده وإلا بات كل الناس أدباء. هناك مع ذلك العديد من المظاهر التي باتت تنبئ بأن الجميع أصبح كاتبا وصحافيا ومفكرا وما شئت من الصفات.. لنلقي نظرة على المواقع الافتراضية، وعلى الأخص شبكات التواصل الاجتماعي، تكاد لا تمر لحظة، دون أن يطل عليك أحدهم بنص شعري جديد، أو خبر غير مسبوق.. ويأتيك بالأخبار من لم تزود. مناسبة كل هذا الكلام الذي دار في فلك الأدب والكذب، هو تزامن العدد مع فاتح أبريل، اليوم العالمي للكذب، وكان لابد لهذه الافتتاحية أن تكون على موعد معه. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته