هل الحقيقة أحجية عصيّة على الحلّ لدرجة مواصلة البحث عنها في كلّ زمان ومكان؟ لماذا تحتاج الحقيقة إلى جهد كبير لمعرفتها والكشف عنها وإعلانها؟ ألا نجد أنفسنا أمام حقائق متبدّلة..؟ هل الحقائق ثابتة أم متبدّلة..؟ أين الحقيقة في ما نسمع ونقرأ ونشاهد..؟ لماذا نجد أنفسنا نسأل عن الحقيقة ونبحث عنها كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ..؟ مَن غيّر الحقائق وسعى إلى تصدير الغشاوات..؟ بقليل من البحث والنبش يمكن الاستدلال إلى خيوط أولية تدلّ الباحث إلى الجهات التي من شأنها تغييب الحقائق، وفرض حقائقها الخلّبية على الناس وتعميمها كحقائق ثابتة لا يرقى إليها الشكّ. بعض هذه الجهات يتمثّل في السلطات الأمنيّة والدينيّة سواء بسواء، وهي التي تساهم في تشكيل صورة الاستبداد الشموليّ بمعناه الواسع، من خلال العمل في أكثر من اتّجاه. تسعى القوى الأمنيّة في الدول الاستبداديّة إلى تعميم النماذج التي تخدم مصالحها وسياساتها، وتبرزها على أنّها حقائق ينبغي الإيمان بها، ويكون أيّ تشكيك بها مدعاة للتحقيق والاستجواب، ومثيرا للريبة وباعثا على الاتّهام في الوطنية والولاء والانتماء. وبممارسة هذه السياسة تنشئ أجيالا تؤمن بالخرافة وتتّخذها منهجا لها، بحيث تبقى منتقلة من ضلال إلى آخر ومصطدمة مع الواقع وحقائقه دوما، لأنّها تسير في الاتّجاه المناقض لحركة التاريخ والزمن. في المقابل هناك السلطات المتمثّلة في رجال الدين، أولئك الذين من مصلحتهم تأبيد الولاء لسلطتهم، وتحجير العقول، ومنع الناس من التفكير، ذلك أّنّ إعمال الفكر يحجّم قدرتهم على السيطرة، والسؤال الذي يمثّل مفتاح المعرفة، يضعف من هيبتهم، ويعرّي حقيقتهم، لذلك يكون التضبيب على الحقيقة لتقديم حقائق مزيّفة بديلة، تتماشى مع زيفهم وتبعيّتهم ومصالحهم، وتضمن لهم النفوذ. ما زال تجّار الدين يمارسون خداعهم باسم الدين، يزيدون من منافعهم المادّية والمعنوية، يوزعون صكوك الغفران والتجريم هنا وهناك، وما زال هناك مَن يتبعهم معصوب العينين، ومعصّب العقل، غير دار إلى أيّة هاوية يقاد. هناك فئة من المثقفين الانتهازيّين، يقتاتون على موائد السلطة، يروّجون ما تفرضها عليهم من حقائق في أعمالهم، يقدّمونها على أساس أنّها حقائق مطلقة لا تقبل أيّ تشكيك بقدسيّتها. وهؤلاء أتباع مستزلمون لرجال الأمن ورجال الدين معا، يحرصون على إرضائهم، ومداهنتهم، بحيث يضمنون معهم تصدير صورهم وأنفسهم على أنّهم روّاد عصرهم، وقد يفتعلون بعض السجالات الشكليّة بين الحين والآخر، في مسعى للتحايل على الآخرين، وتمرير تلك الأوهام على أنّها حقائق مكرّسة تكتسب الأصالة بالتقادم. تفيد التجارب أنّ لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، وأنّ الحقيقة قابعة في قلوب المؤمنين بها، ووجدانهم، ولكلّ حقيقته